هل التصوف شرط في تربية النفس وتزكيتها ؟

   هل-التصوف-شرط-في-تربية-النفس-وتزكيتها

يرى الصوفية، قديما وحديثا، استحالة الوصول إلى إصلاح النفس وتزكيتها بدون تصوف. كما يذهبون إلى أن التصوف دعت إليه الشريعة الإسلامية من خلال حثها على التحقق بمقام الإحسان الذي هو روح التصوف أو التصوف نفسه. بل ذهب بعض الصوفية إلى أن التصوف أنزل من السماء؛ وفي هذا الصدد يقول الشيخ الصوفي أحمد بن عجيبة في مطلع كتابه: "إيقاظ الهمم في شرح الحكم":

“وأما واضع هذا العلم، فهو النبي صلى الله عليه وسلم علمه الله له بالوحي والإلهام. فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة. فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة. فخص بها بعضاً دون بعض. وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا على كرم الله وجهه، وأخذه عنه الحسن البصري ….وأخذه عن الحسن حبيب العجمي، وأخذه عن حبيب أبو سليمان داوود الطائي ..وأخذه عن داوود أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي رضي الله عنه، وأخذه عن معروف الكرخي أبو الحسن سري بن مغلس السقطي، توفي سنة إحدى وخمسين ومائة وأخذه عن السري إمام هذه الطريقة ومظهر أعلام الحقيقة، أبو القاسم محمد بن الجنيد …..ثم انتشر التصوف في أصحابه وهلم جرا ولا ينقطع حتى ينقطع الدين.

ومن رواية أخرى، أخذه عن سيدنا علي رضي الله عنه أول الاقطاب سيدنا الحسن ولده، ثم عنه أبو محمد جابر، ثم القطب سعيد الغزواني ثم القطب فتح السعود ثم ….ثم القطب الكبير مولاى عبد السلام بن مشيش، ثم القطب الشهير أبو الحسن الشاذلي، ثم خليفته أبو العباس المرسى، ثم العارف الكبير سيدي أحمد بن عطاء الله ثم …..ثم العارف سيدي العربي بن عبد الله، ثم العارف الكبير سيدي على بن عبد الرحمن العمراني الحسني، ثم العارف الشهير شيخ المشايخ سيدي ومولاي العربي الدرقاوي الحسني، ثم العارف الكامل المحقق الواصل شيخنا سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني ثم عبد ربه وأقل عبيده أحمد ابن محمد بن عجيبة الحسني، ثم عنه خلق كثير والمنة لله العلي الكبير وأما اسمه فهو علم التصوف واختلف في اشتقاقه على أقوال كثيرة.”

أي افتراء هذا؟ وأي كذب وبهتان؟ متى كان النبي صلى الله عليه وسلم متصوفا؟ وما هي الأحاديث التي تشير إلى هذا الباطل؟ ومن هم الصحابة الدين مارسوا التصوف؟ وما هي الطريقة الصوفية التي اشتهرت عندهم؟ أين الأدلة على هذه الدعوى؟ أين الحجج العقلية والنقلية؟

إن قوله: ” فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة، فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة، فخص بها بعضاً دون بعض”، يعني أن الدين ينقسم إلى شريعة وحقيقة، أي؛ كما يقولون، ظاهر وباطن. وبعبارة أخرى؛ فإن الشريعة تمثل الهيكل، والحقيقة تمثل الروح. إن جبريل نزل في البداية بالهيكل، فلما تقرر، نزل بالحقيقة. فخص بها بعضا دون بعض !! أي أن الصحابة فريقان؛ فريق يعلم الشريعة ولا علم له بالحقيقة، وفريق يعلمهما كليهما !!

وذهب الصوفية أيضا إلى أن "من لا شيخ له فالشيطان شيخه"، إذ الشيخ هو الذي يدلك على الله ويوصلك إليه. وهو الواسطة اللازمة من خلال البيعة. فالشيخ ضروري ولازم لتربية النفس والسمو بها في مقامات الإيمان والإحسان.

 

وقد أشار  أبو حامد الغزالي إلى هذا المعنى: "فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلي سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لامحالة، فمن سلك سبيل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها، فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر. فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه. فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد... ، وليعلم أن نفعه في خطئه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب." (؟ !! ) (أبو حامد الغزالي: " إحياء علوم الدين" ، ج 3، ص 112-113.

إن القارئ المتأمل قد يعجب لهذه الأفكار الغريبة التي سطرها العلامة أبو حامد الغزالي في هذا النص، تلك الأفكار التي تتعارض كليا مع منطق العقل والنقل.  فقوله "إن سبيل الدين غامض "، لم يقل  به عامة الناس من المسلمين بله علماؤهم . إن الأدلة العقلية والنقلية على يسر الدين، ووضوح منهاجه، واستواء مسلكه، أكثر من أن تحصى. إن الله الذي خلق العباد و أمرهم بعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الوحي، يستحيل أن يأمرهم بما لا يطيقون وبما لا يفهمون أو بما هو غامض. ومن الأدلة النقلية قوله تعالى " إن هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" ( الإنسان 3 ).

ومن السنة قول النبي (ص): "تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".

ثم إن قول أبي حامد الغزالي: " فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة"، قول مردود عليه. نعم نحن جميعا نعلم  أن الشيطان عدو الإنسان الأكبر، لا يتوقف عن إغواء الآدميين والكيد لهم واهلاكهم، بيد أن الله يقول:"إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" ( الحجر 42)، ويقول أيضا :" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف  من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" (الأعراف 201).

والغريب أن المطلع على شطحات كثير من الشيوخ الطرقيين، وانحرافاتهم وتكالبهم على الدنيا، واستعبادهم لمريديهم، وأكاذيبهم ودعاواهم، ومسوخاتهم ومنكراتهم، لا يشك أن هؤلاء هم الشياطين حقا، كما قال تعالى: "شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" (الأنعام 113).

إن قول الصوفية باستحالة الوصول إلى إصلاح النفس وتزكيتها دون الاعتماد على التصوف، قول لا ينهض على دليل، بل يكذبه واقع وحياة المسلمين على مر العصور. فإذا رجعنا مثلا إلى حياة المسلمين الدينية فيما بين القرنين الأول والسادس، حيث خلو هذه المرحلة من التصوف الطرقي، وجدنا أن هؤلاء المسلمين كانوا يمارسون عبادتهم وحياتهم الدينية بطريقة تلقائية، كل حسب مستوى إيمانواجتهاده وتقربه إلى الله.

ولم يكن التصوف الذي ظهر في أواخر القرن الثاني للهجرة، مشاعا بين الناس. وإنما اهتم به طائفة من المسلمين ودعوا إليه. فنسبتهم إلى عامة المسلمين ضعيفة جدا، وعددهم لا يذكر إذا قورن بعدد المسلمين.

فهل معنى هذا أن غير الصوفية من المسلمين لم يعملوا على إصلاح النفس وتزكيتها ؟ إن كتب التاريخ والتراجم مليئة بذكر حياة كثير من العباد والزهاد والفقهاء والعلماء من الذين شهد لهم المسلمون بالصلاح والاستقامة والورع، ولم يكونوا صوفية.

وهل تصوف الأئمة الأربعة؛ مالك والشافعي...؟ وهل تصوف تلاميذهم الذين أخذوا عنهم العلم ؟ وهل تصوف مئات العلماء والأدباء والأطباء و... وغيرهم ممن أثروا الثقافة الإسلامية بإنتاجهم العلمي والأدبي ؟ فكيف نحكم على هؤلاء بعدم ممارستهم لتزكية النفس لكونهم لم يكونوا من الصوفية ؟

نعم لقد كثر عدد المتصوفة بعد القرن السادس الهجري، بسبب ظهور وانتشار الطرق الصوفية التي مال إليها كثير من المسلمين، الذين جعلوا من الشيوخ الطرقيين أئمة يهتدون بهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى تقديسهم والاستغاثة بهم أحياء وأمواتا. وإن المطلع على حياة أولئك الشيوخ وحياة مريديهم، ليدرك أن هؤلاء كانوا ولا يزالون أبعد الناس عن إصلاح النفس وتزكيتها وتطهيرها على منهج النبوة.ولا يتسع المجال هنا لذكر المصائب والويلات والانحرافات السلوكية والعقدية، التي انتشرت بين أتباع الطرق الصوفية.

وأما قولهم؛ إن التصوف دعت إليه الشريعة الإسلامية من خلال حثها على التحقق بمقام الإحسان الذي يرادف في تصورهم مقام التصوف، فإنه قول بعيد عن الصواب، وليس له من الأدلة والبراهين إلا ما هو من قبيل السراب. والإحسان كما جاء في الحديث الصحيح: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، ومعناه مقام أو منزلة إيمانية تجعل المؤمن مستحضرا ربه في قلبه حتى كأنه، من شدة اليقين، يراه. إنها مراقبة الله سبحانه وخشيته. إن منزلة الإحسان هي أسمى منزلة إيمانية يبلغها المؤمن بتوفيق من الله مع المجاهدة والتحلي بصفات المتقين.

وإذا كان الإحسان يعني أن تعبد الله كأنك تراه، فإنه يستلزم العبادة كما أمر الله ورسوله. فكيف نرادف بينه وبين التصوف الذي ابتدع أهله وشيوخه في مجالات متعلقة بالعبادة كذكر الله سبحانه ؟

إن مصطلح الإحسان مصطلح ديني إيماني يقوم على معاني إيمانية مستلهمة من الكتاب والسنة، ومسيجة بسياجهما. في حين أن مصطلح التصوف تؤسسه معاني وآراء مستلهمة من اجتهادات ومواقف المتصوفة والتي لا تخلو من أهواء وميولات شخصية. فلا ترادف ولا تطابق بين المصطلحين. وبعبارة أوضح؛ كيف يمكننا الجمع أو التوفيق بين الإحسان كمصطلح إيماني رصين ودقيق، وبين التصوف الطرقي كسلوك في العبادة قائم على البدع والأباطيل والدجل ؟

 

د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين تطوان المغرب. رجب 1437- ماي 2016

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. ناصر الدين2 مارس 2017 في 4:35 م

    بارك الله فيكم أستاذنا الكريم و نفعنا بعلمكم ، حبذا لو ذكرتم كتاب إحياء علوم الدين للغزالي هل هو من كتبه المتقدمة أو المتأخرة ، لأن هناك فرقا شاسعا بين كتاباته المتقدمة و المتأخرة ،

    ردحذف