تجربتي الصوفية

تجربتي الصوفية
متابعة الدراسة الجامعية بفرنسا

...ومع بداية السنة الدراسية (1979 –1980م) غادرت مطار طنجة متجها نحو باريس طلبا للعلم والمعرفة.ثم قصدت جامعة السوربون، وولجت مكتب تسجيل الطلبة الجدد حيث تم قبولي في شعبة علم الاجتماع، تخصص الأنتربولوجيا الاجتماعية والثقافية.
وبعد سنة من البحث والدراسة، أحرزت على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في موضوع " دراسة حول الوضعية القانونية للعمال المغاربة المهاجرين بفرنسا".
ومما أثار انتباهي فور وصولي إلى باريس، اهتمام كثير من الكتاب الفرنسيين بالإسلام وقضايا المسلمين السياسية والاجتماعية، خاصة بعد اندلاع الثورة الإيرانية، التي وصلت أصداؤها إلى أسماع كل المواطنين، كما تسابقت الصحف إلى نشر أخبارها ووصف أحداثها ووقائعها. وقد دفع هذا الحدث التاريخي كثيرا من المعاهد والمؤسسات الثقافية، وكذا المتخصصين في موضوع الإسلام وشؤون المسلمين، إلى مزيد من البحث في هذا الموضوع، فلم تمض سنة واحدة حتى أضحت واجهات المكتبات الباريسية مليئة بالمؤلفات والدراسات حول الإسلام دينا وثقافة وسياسة، كما لاحظت فيما بعد إقبال كثير من الطلبة الفرنسيين على شعبة الدراسات الإسلامية في جامعة السوربون.
وذات صباح ركبت قطار المترو قاصدا معهد الدراسات العليا الشرقية لكي أحضر درس الأستاذ ميشال شولدفيتسك حول التصوف الإسلامي. ولما دخلت قاعة الدرس، وجدتها غاصة بالطلبة والباحثين المغرمين بالفكر الصوفي. عندما أخذت مقعدي كان الأستاذ على وشك الانتهاء من مقدمة تتعلق بكتاب عوارف المعارف  للسهروردي المتصوف، والحاضرون ينصتون إليه في خشوع كأن على رؤوسهم الطير. ثم شرع في قراءة نص طويل من الكتاب المذكور وأتبعه بترجمة فورية.
لم يكن الأستاذ الباحث ميشال شولديفيسك وحيدا في هذا المجال، بل هناك عشرات من الباحثين والأساتذة ممن يهتمون بالموضوع نفسه. ويبدو أن موضوع التصوف قد تبوأ مكانة لا بأس بها في الجامعات، والمعاهد، والمؤسسات والجمعيات الثقافية، التي تهتم بدراسة الحضارات الشرقية.كما أن دخول الفرنسيين في الإسلام غالبا ما يتم من باب التصوف. وهذا يسري حسب اطلاعي علي معظم الغربيين الذين اختاروا الإسلام دينا جديدا، ذلك لأنهم يلتجئون إلى الحياة الصوفية فارين من لهيب الحياة المادية. ولا يستغرب المرء عندما يسمع بوجود فرنسيين منتسبين إلى زاوية أو طريقة صوفية معينة. ولقد التقيت بمجموعة منهم ينتسبون إلى شيخ يعيش في دمشق و يقومون بزيارته عندما يشتاقون إليه، كما التقيت بآخرين لهم علاقة قوية بالزاوية البودشيشية ببركان.
وكما مال كثير من الفرنسيين إلى التصوف الإسلامي، بحثا عن السكينة وهروبا من جحيم الحياة المادية المعقدة، اختار آخرون عقائد الهند ودياناتها خاصة اليوغا والبوذية، فأسسوا نوادي ومقرات لمزاولة نشاطهم الديني والروحي. ولقد رأيت مجموعة من أتباع هذه العقائد، وقد حلقوا رؤوسهم ولبسوا ثيابا صفراء طويلة وهم يتجولون في شوارع باريس، مرتلين ومرددين لبعض العبارات مثل هاري كريشنا هاري … وعبارات أخرى لا أذكرها. وغني عن البيان أن الحياة في العواصم والمدن الكبرى الغربية لا تخلو من هذه الظواهر الفكرية والاجتماعية الشاذة التي تعبر عن التناقضات الحادة المميزة لطبيعة المجتمعات الغربية المعاصرة.
ولقد كنت من ناحية أخرى حريصا على حضور دروس ومحاضرات بعض كبار الأساتذة المتخصصين في الأنتربولوجيا الاجتماعية والثقافية؛ وعلى رأسهم الأستاذ كلود ليفي ستراوس الذي بلور الأنتربولوجيا البنيوية كما بلور نظريات كثيرة في ميدان الفلسفة البنيوية عموما. كما كنت أستمع الى دروس الأستاذ جورج بلاندييه المتخصص في الأنتربولوجيا السياسية، وكذا الى دروس ميشيل فوكو المتعلقة بفلسفة المعرفة، ومحاضرات الأنتربولوجي المستشرق جاك بيرك والأستاذ الأنتربولوجي أندريه آدم. ولقد كنت معجبا بهؤلاء الأساتذة الكبار، ومنكبا على قراءة وفهم ما كتبوه من كتب ومقالات، كما كنت منبهرا بالأساليب والطرق والمناهج العلمية التي يوظفونها في تحليل نظرياتهم وأبحاثهم.
بيد أن رياح التصوف هبت على حين غرة، فتغيرت الوجهة ومال القلب الى نسمات المعرفة الروحية.
العوامل الممهدة للخلوة الصوفية



1-جو الحرية والإباحية في العاصمة الفرنسية
لما حللت  بباريس في فاتح محرم الحرام سنة 1401ه موافق  نوفمبر 1979 وبدأت أحتك بأفراد هذا المجتمع الجديد، كانت تنتابني أحيانا حالة نفسية رهيبة، مصدرها الخوف من الذوبان وفقدان الهوية. غير أن اهتمامي بالدراسة والتحصيل كان يخفف من وطأتها، كما أن العلاقات الأولى التي نسجتها مع بعض الطلبة المغاربة، جعلني أشعر بنوع من الدفء النفسي. والحقيقة أن الواقع النفسي والشعوري للطالب العربي المسلم في البلدان الأوربية، قلما يسلم من الهزات العنيفة، لأن هذا الواقع يشكل  مسرحا للصراع بين  ثقافتين متعارضتين أشد التعارض.
ولقد أثبتت الدراسات النفسية المتخصصة في مجال الهجرات البشرية من آسيا وإفريقيا إلى أوربا، أن المهاجرين إلى هذه القارة قلما يجتازون عقبة التكيف بدون مشاكل، هذا إذا افترضنا وجود تكيف حقيقي وكامل؛  لأن هذا الأخير لا يتحقق في المجتمعات الغربية بالوجه الكامل والتام، إلا إذا تخلى المهاجر كليا عن ثقافته الأصلية. هذا هو منطق الثقافة الغربية؛ إنه منطق الاستعلاء[1][1]والقوة، ولم يحدثنا تاريخ الحضارات عن منطق مماثل. بل إن التعايش الثقافي كان سمة أساسية من سمات  الحضارات الإنسانية القديمة. وما سياسة العولمة التي تتزعمها و تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا دليل من بين عشرات الأدلة المعبرة عن ذلك المنطق السخيف المنافي لمفهوم الحضارة الإنسانيـة .
و لعل مظهر الحرية الفكرية و العقدية، و الإباحية الجنسية، من بين المظاهر العنيفة التي تواجه المهاجر المسلم وتتحداه، بل قد تحدث له مع الزمن شروخا خطيرة في كيانه الثقافي والعقدي، وإلا كيف نعلل تحول بعض الطلبة المغاربة عن عقيدتهم الإسلامية إلى الإلحاد، أو الزواج بالفرنسيات بعد الإعراض عن الدراسة، ثم التحلل من الإسلام قولا و فعلا. إن مناخ الحرية السائد في هذه البلدان له علاقة بماض تاريخي يرجع إلى حصيلة الصراع الذي كان قائما بين أصحاب الكنيسة و أصحاب الفكر المادي  والسياسي، و الذي توج بانتصار الفريق الثاني ، حيث شهدت البلدان الأوربية بزوغ العلمانية و انتشار المذاهب المادية و الإلحادية. فالحرية في هذه الديار جاءت نتيجة تطور ثقافي و عقدي وسياسي معين، ونتيجة فلسفة خاصة اختارها أصحابها و نسجوا انطلاقا منها أنواعا من النظم و القوانين.
أما انبهار بعض الطلبة العرب و غيرهم من المهاجرين بهذه الحرية، فانه لا يعبر إلا عن ضعف العقيدة الإسلامية لديهم، كما يعبر عن قوة المؤثرات و استعلاء الثقافة الأوروبية و رفضها للثقافات الأخرى، و كأن لسان حالها يقول: إما أن تعتنق مذهبنا في الحياة، وإما أن ترحل عنا . وممالا شك فيه أن مظاهر الخلاعة والإباحية الجنسية، والاختلاط الفاحش والعري، وما إلى ذلك من ألوان الحيوانية والبهيمية، بالإضافة إلى الإلحاد والاستهزاء بالديانات والأخلاق السامية مثل الحياء والمروءة… كل ذلك كان له وقع سيئ  في نفسي، الأمر الذي جعلني أمقت هذه  الحضارة، وأبحث في الدراسات التي اهتمت بنقدها وإبراز عيوبها؛ فقرأت في  هذا  الشأن  بعض مؤلفات أوزوالد شبنجلر، وبرنارد شو، ورونيه كينو وغيرهم.
وخلاصة القول؛ إن واقع الاستعلاء والهيمنة وإلغاء الآخر ، بالإضافة إلى ما ذكرت  من مظاهر التحرر والخلاعة والإباحية ؛ هذه الأسباب شكلت  أحد العوامل الرئيسة في ظهور ميلي إلى نوع من الانطوائية والهروب، الأمر الذي شجعني على الاهتمام بالتصوف واللجوء إليه واتخاذه حصنا وملجأ.
2  ربط علاقات الصداقة بفرنسيين متصوفة
شاء ربي وخالقي أن أتعرف إلى ثلاثة من الطلبة التونسيين؛ أحدهما يدرس الطب والآخران  يدرسان الهندسة. وكانوا  على صلة حميمة بأسرة فرنسية تدعى؛ روتي ، حيث كانوا يزورون  بيتها كل يوم سبت بعد العصر. وذات يوم اقترحوا علي مصاحبتهم فأجبتهم لذلك.
كان حديثنا ونحن في القطار، يدور حول موضوع هذه الأسرة الفرنسية وما تتصف به من صفات  التدين والمعرفة. وبعد ما يقرب من عشرين دقيقة، أشرفنا على مدينة صغيرة تدعى أنطوني، وهي من المدن الكثيرة التي تنتشر حول العاصمة الفرنسية. وبما أن الوقت  صيفا، فإن السيد يعقوب روتي قد استقبلنا في بستان منزله الجميل، وقدم إلينا أكوابا من المشروبات الطبيعية أعدتها زوجته.
ولقد كان إعجابي كبيرا، وأنا أستمع إلى حديث هذا الرجل في موضوع التصوف، حيث كان ينتقل من القرن الثالث الهجري إلى القرن العاشر، ثم ينحدر إلى القرنين السادس والسابع، متحدثا عن أقطاب الصوفية وأعلامهم، ومستشهدا بأفكارهم و أشعارهم و خواطرهم، وما قاموا به من أدوار في إصلاح و تربية النفوس و تزكيتها، كل ذلك بلغة فرنسية رصينة على طريقة الأساتذة المتخصصين .وكنت بين الفينة والاخرى أتفرس وجوه أصدقائي التونسيين فأجد عيونهم ترنو إليه بإعجاب كبير ، ناهيك عن العبارات الأدبية والاخلاقية التي كان يستعملها معنا و مع عموم الزوار، مما تجعل القلوب تهوي اليه والى منزله .كما كان يقوم بخدمة زواره بنفسه و يكرمهم أيما إكرام .
بعد أن أدينا صلاة العصر في قاعة فسيحة، بدأ الزوار يتوافدون على البيت إلى أن قارب  عددهم عشرين شخصا. وبعد بضع  دقائق غادروا تلك القاعة، ثم رجعوا إليها وقد  لبس كل واحد منهم عباءة بيضاء، واستعملوا الطيب وجلسوا في شكل حلقة صوفية. ثم دخل الشيخ عبد الحميد روتي، والد السيد يعقوب، وهو رجل في سن الثمانين، وكان قد دخل في الإسلام في بداية الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي. فلما جلس وحيانا، نظرت إلى القوم فإذا هم صامتون ينظرون إليه من طرف خفي.
وبعد قراءة الفاتحة، افتتح الشيخ حزبا من أحزاب أبي الحسن الشاذلي، فتبعه الحاضرون، وقد أخذ كل واحد منهم كتيبا يقرأ فيه، ثم تليت أحزاب  أخرى ودعوات. واستمر الحال إلى وقت آذان المغرب. وبعد الصلاة عاد  القوم إلى وضعهم الحلقي، ثم جئ بأطباق مليئة بالزيتون، وأخرى  بالخبز وكذا بأكواب من الماء. ولاحظت  أن الحاضرين كانوا أثناء الأكل، يتجاذبون أطراف الحديث بنوع من  المودة الصادقة، وكأنهم أعضاء أسرة واحدة. بعد ذلك انصرفنا وودعنا السيد يعقوب روتي وتواعدنا على اللقاء في السبت القادم.
وهكذا بعد أن توطدت العلاقة بيني وبين أسرة روتي، علمت أن السيد يعقوب وأباه قد كتبا  باللغة الفرنسية كتبا لها علاقة بالتصوف، وأخرى تعرف بالدين الإسلامي. وقد أهديا إلي نسخا منها. كما كنت أستعير من  مكتبتهما كتبا في التصوف كلما زرت منزلهم.
لقد شكل هذا اللقاء منعطفا خطيرا في حياتي، كما كان  له أثر بليغ في كياني، ومن ثم فإني  أعتبره من العوامل الأساسية في ولوجي عالم التصوف والتجربة الصوفية. وكان ذلك سنة 1400 هـ موافق لسنة 1981م.
لم أعد أحفل كثيرا بمتابعة دروسي في علم الاجتماع بجامعة السوربون، وإنما ألفيتني أنتقل بين الكليات والمعاهد العليا باحثا عن أساتذة الدراسات الإسلامية والشرقية لعلي  أجد من بينهم من يشفي غليلي بحديثه عن التصوف الإسلامي. كما كنت أخصص الساعات الطوال لقراءة كتب المتصوفة، وذلك في مكتبات الجامعات، وكذا في المكتبات العمومية مثل المكتبة الوطنية الشهيرة. وهكذا قرأت لأبي حامد الغزالي كتابه "إحياء علوم الدين" ومجموعة من رسائله؛ مثل "المنقذ من الضلال"، "والأربعين في أصول الدين"، "ومعارج النفس إلى مدارج القدس"، و"مشكاة الأنوار"، و"المضنون به على غير أهله"، و"القسطاس المستقيم"، و"إلجام العوام عن علم الكلام"، و"الذرة الفاخرة في علوم الآخرة". كما قرأت كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، و"رسالة" أبي القاسم القشيري، وأجزاء من كتاب "الفتوحات المكية" لمحي الدين بن عربي، وعشرات من رسائله، كما قرأت رسائل الحكيم الترمذي، وكتب شهاب الدين السهروردي. وقرأت كتاب "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" لأبي نعيم، وكتابات ابن سبعين، وأقوال أبي منصور الحلاج، وأبي يزيد البسطامي، والشبلي، وأبي القاسم الجنيد، ورسائل الحارث المحاسبي، وأشعر ابن الفارض وحكم ابن عطاء الله السكندري وشرح أحمد بن عجيبة لها، وعشرات الكتب والرسائل الأخرى لا أستحضرها الآن، كما قرأت كتبا ومقالات كثيرة عن التصوف باللغة الفرنسية.
لقد مكثت ما يقرب من سبع سنوات وأنا ألتهم كتب الصوفية وأحلق معهم بخيالي ورؤاي في عوالمهم اللامحدودة، وأنعم بطمأنينة نفسية عميقة. فكان هذا العالم الباطني الذي أسبح في أرجائه، بمثابة الحصن المنيع الذي حال دون تسرب سموم الثقافة المادية إلى كياني، بل كنت أتجول في شوارع العاصمة الفرنسية وأنا مشغول بالذكر أو التفكر أو المحاسبة النفسية. ولم يعد للصور الخليعة المعلقة على جدران محطات المترو، ولا لمظاهر الخلاعة المنتشرة هنا وهناك، ولا لمعاني الثقافة المادية وجود في ذهني أو رسم في مخيلتي. وكانت شخصية أبي حامد الغزالي أهم شخصية صوفية أثرت في نفسي، بحيث لم أكن أمل من قراءة كتبه، كما كنت مولعا بتحديق النظر باستمرار في رسائل ابن عربي الحاتمي والغوص فيما تتضمنه من معاني وأفكار. كما كنت أكثر من قراءة مؤلفات الشيخ عبد الواحد يحيى – رونيه كينو سابقا – المفكر والمتصوف الفرنسي.
لقد كان لهذا الرجل مساهمة كبيرة  في ميدان التصوف العالمي، بحيث كتب عن التصوف الصيني والفارسي والهندي والإسلامي، وكان يتقن عدة لغات، فاقتنيت جل كتبه خاصة فيما يتعلق بالتصوف وبنقد الحضارة الغربية.
وعندما أنهيت رسالتي حول وضعية العمال المغاربة المهاجرين في باريس وضواحيها، وحصلت على شهادة دكتوراه السلك الثالث سنة 1984م، رجعت إلى بلادي راجيا من الله أن أجد مكانا بين أسرة التدريس في إحدى الجامعات المغربية، لكن بعد أسابيع من التنقل بين تلك الجامعات، رجعت إلى مدينة تطوان بخفي حنين راضيا بقضاء الله وقدره. ولكي لا أظل عاطلا، بدأت أطرق أبواب بعض الثانويات الخاصة، فانتهى بي المطاف إلى ثانوية ابن خلدون بمدينة طنجة، حيث قمت بالتدريس فيها بضعة أشهر. ثم ألم بي حنين الرجوع إلى الديار الفرنسية لمتابعة الدراسة والتحصيل وذلك سنة 1985م.
قصدت جامعة السوربون من جديد واخترت هذه المرة شعبة الفلسفة، وبدأت أبحث عن أستاذ مشرف بعد أن حددت موضوعا للبحث والدراسة، وهو : "الفكر الصوفي عند أحمد بن عجيبة المغربي"، فطلبت مقابلة الدكتور محمد أركون، وعرضت عليه الموضوع، لكنه اشترط علي استعمال منهجية التحليل النفسي، واستخدام آليات وأدوات علم النفس في دراستي لهذه الشخصية الصوفية. فقلت له : إن موضوع التصوف لا يمكن إخضاعه لآليات العلوم الإنسانية الحديثة، كما أن التجارب الصوفية لا علاقة لها بالأمراض والعقد النفسية كما تدعون.؟ََََ!! وبعد أيام عثرت على أستاذ آخر كان يدعى بيير تييه، فاقترحت عليه موضوعا آخر تحت عنوان : "دراسة حول المعرفة و الأخلاق عند أبي حامد الغزالي"، فقبل الإشراف وتم تسجيلي في الجامعة. وبعد ثلاث سنوات أنجزت الأطروحة وقدمتها للمناقشة، بيد أنني سافرت إلى المغرب في نهاية الموسم الدراسي لسنة 1988م، وحصلت على منصب أستاذ مساعد في كلية أصول الدين بتطوان، فلم أرجع بعد ذلك إلى فرنسا وبقيت الأطروحة بدون مناقشة!!
وفي سنة 1999 م حصلت على شهادة دكتوراه الدولة، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي، تطوان؛ في موضوع: "الاستغراب في المغرب الأقصى، ظواهره وقضاياه"، الأمر الذي زهدني في الرجوع إلى باريس لمناقشة الأطروحة المعلقة ؟!!
3-معاناة روحية ونفسية

وذات صباح بينما أنا جالس في غرفتي وقد أطلقت العنان لمخيلتي، إذا بي أطل من نافذة على عالمي الجنة والنار؛ ينشرح صدري تارة وينقبض أخرى، ويهيم قلبي لحظات ويطرب لانعكاس ألوان النعيم في مرآته، ثم يضيق ويتألم لورود ما يخيفه ويزعجه من صور العذاب وهول الجحيم ، حتى غدا باطني مسرحا لصراع عنيف بين النعيم والجحيم، والشقاوة والسعادة، والطمأنينة والحيرة. وما هي إلا دقائق معدودة حتى فوجئت بنداء ينبعث من صميم قلبي وهاتف يهتف بي: إلى متى هذا النوم؟ إلى متى هذه الغفلة؟ ألا من يقظة توقظ عزمك، وتضيئ ما ادلهم من ليل حالك، وتذيب حجارة القسوة الجاثمة فوق قلبك . أما آن لهذا القلب أن يلين ويخشع؟ ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق)؟ ولهذه العين أن تبصر وتتبصر وتدمع؟ ما لهذا خلقت يا عبد الله؟ وما خلق الله شيئا عبثا أو سدى بل كل في فلك يسبحون وبكل لسان يسبحون، فأين لسانك؟ وأين قلبك؟ وأين قصدك؟ وما وجهتك؟.
هيهات هيهات، أتظن الأمر سهلا والوجود عدما كلا، فالأمر أعظم مما تتصور والخطب أجل مما قد يخطر على بالك، والفضاء ضاق بما رحب وعجلة الزمان أوشكت على التوقف، بعد أن أباد الأمم والقرون تعاقب الحركة والسكون ، وليل نهارك قد جن عليك ولما تعاين نجومه، أقم قيامتك قبل قيامها فهول القيامة أشد ما ينتظر والساعة أدهى وأمر؟!!. وليوقفنك رب العزة بين يديه، وليسألنك سؤال عزيز مقتدر، وقتئذ تبلغ القلوب الحناجر، وتفترس الندامة الصدور، ويعض الظالم على يديه ولات حين مناص.
ياعبد الله أنت أكرم على الله من أن تسحرك الدنيا بظلها الزائل، أو تعبث بك الشياطين وتزج بك في حمأة الشهوات والضلالات، وإلهك ينتظر رجوعك وتوبتك ويفرح بذلك أكثر من فرح أم برجوع ولدها المفقود.
ومرت الأيام وشعاع ذلك الهاتف يزداد توقدا، وصوت النداء الباطني يزداد قوة وحدة، فعزمت على الخروج عن العادات والمألوفات، والاقتـداء بأرباب العزائم ، ووطنت نفسي على ذلك كيف لا "والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق"
فلما استقرت في باطني بوارق اليقظة، وانزعج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، أخذت في أهبة السفر إلى الله لا ألوي على شيء، وعقدت عقدا جازما على المسير ومفارقة كل قاطع ومعوق، ومرافقة كل معين وموصل.


" قال الشاعر[2][2]:
فحــي على جنات عدن فإنهــــا
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعـود إلى أوطاننا ونسلـــم
ثم أعقب حال اليقظة والانتباه شعور عميق بالذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب سبحانه وتعالى، يقول رب العزة: " ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد" [3][3]
فأدركت تمام الادراك أن صلاحي وخلاصي وهداي وسعادتي بيده جل وعلا، وأن هذا الخير وهذه اليقظة منه وحده، وأن رحمته بي اقتضت تذكري له وسياقتي إليه. فالتجأت إليه لجوء المضطر الذليل المستعطف، "ووضعت خذي على عتبة العبودية، ناظرا بقلبي إلى ربي ووليي نظر الذليل إلى العزيز الرحيم". ثم بعد ذلك أحسست بحياة الهمة والإرادة تسري في كياني سريان الدم في شرايين الجسد، وإنها لهمة عالية وإرادة صادقة، والحياة الطيبة لاتنال إلا بذلك. قال العلامة الفقيه محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: " لما كان في القلب قوتان؛ قوة العقل والتمييز وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين  القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق، ومعرفته، والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل، فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملهــا في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث همام بالطبع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء: حارث وهمام" فالحارث الكاسب العامل، والهمام المريد. فإن النفس متحركة بالإرادة، وحركتها الإرادية متصورة لها، متميزة عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وترده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولابد." [4][4]
ياعبد الله ، أول ما يلزمك معرفته الطريق الموصل إلى الله، طريق يبصرك بعيوبك ويرفع حجاب نفسك ويحرق ظلمات الطبع وكدورات النفـس بأشعة البصيرة، حتى يقوم بقلبك شاهد من شواهد الآخرة، وتغدو كأنك تعاين بعض معالمها فتنجذب إليها بكليتك، ولن تظفر بذلك ما لم تعمـل على تجديد التوبة وتصحيحها،  وتسع جادا في القيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة. وكن على يقين أنك مهما اجتهدت في هذا الأمر وصدقت الله فيه، فستحظى بمحبة الرسول محمد (ص) وذلك بتعظيمك لشخصه واتخاذه إماما ومعلما، وقد تستولي روحانيته على قلبك  فتغدو مشكاة النبوة مصدرا وسراجا لسلوكك وآدابك، بل وعينا تنهل منها معارفك وخواطرك،ولا تعجبن لهذا فالأمر أبين من فلق الصبح، إذ محبتك الصادقة لله ستفضي بك لا محالة إلى اتباع رسوله صلوات الله وسلامه عليه.أليس رب العزة يقول: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"[5][5]
فطوبى لك يا عبد الله إن أنت بلغت هذه المنزلة، ولا تسل عما سينعم الله به عليك من العطايا والمنح، والتي أجلها محبة كلامه وقرآنه وفهم رسالته وخطابه، وكذلك الترقي في فهم معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا ، مما سيزيدك تقربا وانجذابا إلى الله، فيستولي التعظيم والإجلال والمحبة والإنابة والخشية على قلبك، وتصبح محبا ومحبوبا قال رسول الله (ص) فيما يرويه عن رب العزة :"من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي  عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته   "[6][6]
ومضت أسابيع بل شهور، وأنا على هذه الحال أشعر بانجذاب قوي نحو الحق سبحانه وتعالى، وصرت حريصا على أداء الصلوات في وقتها، وكما شرعت في الاجتهاد في نوافل الطاعات، وفي مطالعة كتب فقه العبادات، بالرغم من صعوبة ظروف العيش والإقامة في بلاد الغربة. وتبين لي مع مرور الأيام بيان يقين أن الدنيا حقيرة قليلة الوفاء، كثيرة الجفاء، تحزن أكثر مما تسر، وتجرع سم العذاب أكثر مما تسقي حلو الشراب، وتذكرت قول الله تعالى : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور"[7][7]  وقوله جل وعلا : " يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور."[8][8]وقول النبي (ص) لابن عمر رضي الله عنهما : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"[9][9]. وقوله (ص) : "مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" [10][10]وقوله: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما"[11][11]،.
وروي أن الحسن البصري رضي الله عنه بعث برسالة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز عندما تولى الخلافـة،قائلا : " بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإن  رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك، الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين واليقين بالتفكر،والتفكر بالاعتبار. فإذا أنت تفكرت في الدنيا لم تجدها أهلا أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلا أن تكرمها بهوان الدنيا، فإن الدنيا دار بلاء وموطن غفلة "[12][12]
فلما رأيت أن القرآن العظيم مملوء  بالتزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها ودناءتها وسرعة انقطاعها وفنائها، وأنها  " دار من لا دار له ولها يجمع من لاعقل له"، حمدت الله على حالي وشكرته إذ لم يبتلني بالغنى الذي يطغي،  وإنما جعلني طالب علم بعد أن جاء بي إلى ديار الغربة.
لم تكد تمضي سنة واحدة على عالم التصوف الفكري من خلال الاحتكاك المتواصل بمجموعة  "روتي" ، والإكثار من قراءة كتب المتصوفة والإطلاع على التجارب الصوفية لأقطابهم، حتى بدأت أفكر جديا في ممارسة تجربة صوفية عملية، وتراءت لي الخلوة – ولو مؤقتا- أحسن وسيلة ناجعة في درب التصوف العملي. لكن كيف أختلي بنفسي يا ترى وأنا مقيم في عاصمة لامكان فيها للخلوة أو العزلة؟ بالإضافة إلى أنني كنت على صلة دائمة بالطلبة التونسيين الثلاثة وبطالبين أخوين مغربيين، ثم بدا لي أن أؤجل الخلوة إلى حين. لكنني اجتهدت في تربية النفس وتزكيتها، ومعلوم أن الصوفية يركزون على معرفة النفس، ويعدون ذلك شرطا أساسيا في طريقهم لسببين :أولهما؛ أن دراسة النفس توقف الإنسان على غوائلها ورغباتها ومخالفاتها، وفي ذلك عون له على مقاومتها. والسبب الثاني؛ أن معرفة النفس تؤدي إلى معرفة الله، والنفس عندهم هي عدو الإنسان الأكبر الذي يجب مجاهدته، كما أنها تتحالف مع الشيطان لإهلاك هذا الإنسان وسوقه إلى الكفر والمعصية.
أصبحت النفس موضوع تفكيري وتأملي، وصرت أبحث عن عالمها في بطون كتب الفلسفة وعلم النفس، بالإضافة إلى كتب التصوف. فتكونت لدى حصيلة لا بأس بها، لكنني كنت كل يوم أزداد اقتناعا بأنه لا يمكن لإنسان فهم نفسه حق الفهم دون امتلاك أداة الذوق، إذ أن أداة المعرفة غير كافية لكونها توقفك فقط على عتبة العالم النفسي. أما اجتياز العتبة ودخول المنزل فأمر متوقف على الذوق، وما أدراك ما الذوق!!. ثم اهتديت بعد ذلك من خلال مطالعتي وتأملي إلى وسيلة كثيرا ما ينصح بها الصوفية مريديهم وهي الرياضة الروحية، فبدأت أكثر من الصيام، حتى أنني اغتنمت فرصة غياب أصدقائي في عطلة الصيف، فصمت أربعين يوما متتالية مع الاجتهاد في الذكر والعبادة. ثم بدأت أقلل من كمية الطعام، بل أمسكت عن أكل اللحم والسمك والبيض...الخ، واقتصرت على القطنيات والحليب والخبز، ما يقرب من سنة لغاية أن جسمي بدأ يهزل، وقل وزني كثيرا وصرت أشعر بخفة في نفسي، وصفاء في ذهني مع ميل إلى الصمت، واعتزال أصدقائي ما أمكنني ذلك. كما صرت أتحسس خمود القوى النفسية الحيوانية كالقوة الغضبية والقوة الشهوانية. والحقيقة أن هذا التحول العميق هو ما يعبر عنه الصوفية ب " الولادة الثانية". وهـي ولادة معنوية جديدة تشكـل نقطة البدء في الحياة الصوفية الجديدة، والتي هي طريق صوفي باطني تطهيري قائم على قطع علاقات الصوفي المختلفة بالعالم وإضعاف ذاتيته إلى حد التضاؤل والفناء.
ولما كان أصل المجاهدة وملاكها يكمن في فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها وإبعادها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل، باتت مسألة الخلوة من المسائل التي تؤرقني وتصير ليلي نهارا. فصرت أحلم بخلوة أربعينية على منهج الصوفية، تلك الخلوة التي حببها إلي أبو حامد الغزالي غفر الله له، عند ما ذكر حديثا منسوبا إلى النبي (ص): " من أخلص لله أربعين يوما أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه "[13][13]فتأثرت بهذا الحديث وظننته صحيحا لقلة زادي في علم الحديث،ولم أتحمل عناء البحث في أصله ومدى صحته شأني في ذلك شأن معظم الصوفية. فأصبح شغلي الشاغل هو إيجاد مسكن أعيش فيه وحدي بعيدا عن الأصدقاء، وحيث يمكنني أن أمارس فيه خلوتي. وبعد أن أنهكني البحث وبلغ مني اليأس مبلغه، إذا بي أرى في منامي صديقا لي طالبا مغربيا كان يمارس التصوف، وكنت قد أعجبت به وبأخلاقه، ثم انقطعت عني أخباره ولم أعد أراه، فعجبت له عندما بادرني قائلا: " يا عبد الله إنك تبحث عن مسكن تختلي فيه بنفسك، أليس كذلك ؟ قلت له: بلى،  فقال لي: لكنك  أخطأت الطريق عندما لم تستخر الله ،ألا تعلم أن النبي (ص) كان يستخير الله في كل أموره؟! ". ولما استيقظت من نومي مبشرا بالرؤيا حمدت الله وأثنيت عليه، وبعد صلاة العشاء صليت ركعتين وقرأت دعاء الاستخارة ثم طلبت من الله أن ييسر لي أمري، وإذا بي أرى في منامي في الليلة التالية طالبا مغربيا آخر كان يدرس الهندسة فقال لي: يا عبد الله إنني أعلم بأنك تبحث عن مسكن، وبما أنني أنهيت دراستي فسأسلم لك- إن شئت- مفتاح غرفتي بالحي الجامعي بمدينة أنطوني جنوب باريس، غير أنك لا تخبر إدارة الحي بسفري، وما عليك إلا أن تؤدي ثمن الكراء كل شهر".
وبعد أسبوعين زارني الشخص نفسه، فلم أحدثه بالرؤيا لكنه بادرني قائلا: إن كنت تريد مغادرة هذا البيت فإني أعرض عليك الإقامة في غرفتي بالحي الجامعي، فقد أنهيت دراستي وإني أنوي الرجوع إلى المغرب. فدهشت لمطابقة حديثه رؤيتي بالأمس، وازددت يقينا بأن طريق الخلوة يتهيأ بقدرة قادر!!.
لقد أيقنت بأن التصوف غدا بالنسبة لي خيارا روحيا لامفر منه بل، صرت أشعر بما يشبه النداء الباطني أو هاتف غيبي يهتف في كياني يدعوني إلى الخلوة والعزلة.
الخلوة الأربعينية
1-ولوج الخلوة
اشتريت ثلاثة أو أربعة كيلوغرام من الدقيق، و لترا واحدا من الزيت وقليلا من السكر والعنب المجفف، و الملح و بعض العلب من الحليب، ودخلت مسكني الجديد في الحي الجامعي بمدينة أنطوني بعد أن ودعت أصدقائي . كان المسكن يحتوي على غرفة واحدة و مطبخ صغير، حيث كنت أهييء طعامي؛ أجعل جزءا منه للافطار بعد صلاة المغرب، و جزءا آخر أحتفظ به لوقت السحور،  وهو عبارة عن  رغيف كنت أصنعه بنفسي ، و اعتمدت طريقة الإقلال من كمية الطعام تدريجيا، حتى صرت بعد أسبوعين أكتفي بربع الرغيف في المغرب، وربع في السحور مع حبات من الزبيب المجفف.
لقد كنت أوزع وقتي بين الصلاة، و التلاوة و الذكر، و التأمل و التدبر ، واجتهدت كل وسعي في تجريد عقلي من كل الخواطر النفسية المضنية، و التي لاطائل تحتها، وفي طرد الوساوس و الأفكار المتعلقة بالدنيا ...و بعبارة أخرى أخضعت نفسي لعملية التخلية باعتبارها خطوة أولى وأساسية في درب التجريد و التصفية الروحية . قال العلامة ابن قيم الجوزية : » ...حراسة الخواطر وحفظها و الحذر من إهمالها و الاسترسال معها. فان أصل الفساد كله من قبلها يجئ، لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب. فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى، حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال .ولاريب ان دفع الخواطر أيسر من دفع الارادات و العزائم، فيجد العبد نفسه عاجزا أو كالعاجز عن دفعها بعد ان صارت إرادة جازمة. وهو المفرط اذا لم يدفعها و هي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها .
إن تلك الخواطر هي وادي الحمقى و أماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، و اذا غلبت على القلب أورثته الوسواس و عزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته، وألقته في الاسر الطويل. وكما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية، فهكذا الخواطر الايمانية الرحمانية؛ هي أصل الخير كله فان أرض الخير إذا بذر فيها خواطر الايمان والخشية و المحبة و الانابة  والتصديق بالوعد، ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة و تعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، و ملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات، واستقر بها الملك في سلطانه واستقامت له رعيته ، ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين بذلك، عملت على حفظ الخواطر، فكان ذلك هو سيرها وجل عملها، وهذا نافع لصاحبه بشرطين، أحدهما أن لا يترك به واجبا ولا سنة، الثاني أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لايتم ذلك الا بأن يجعلها خواطر الايمان والمحبة والانابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها. وإلا فمتى عمل على تفريغه منهما معا كان خاسرا فلابد من التفطن لهذا.
ومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة، فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات، فظنوها تحقيقا وفتحا رحمانيا،  وإنما هي خيالات شيطانية، و الميزان هو الكتاب الناطق والفطرة السليمة والعقل المؤيد بنور النبوة والله المستعان" [14][14].
وما أن شارف الأسبوع الأول على النهاية، حتى كانت ثمرات الذكر قد أينعت؛ إذ فارقت الهموم قلبي وحل محلها هم واحد وهو مذكوري وخالقي، وانكشفت غيوم الغموم وأقبلت وفود الفرح  والسرور والبسط، وبذرت أرض القلب، وإذا بنبات المحبة يعلوه البهاء قد كسا سطح تلك الأرض، فخضعت الجوارح وخشع الكيان وأقبلت المراقبة والإنابة ، وغدا المذكور جليسي وأنيسي. وشعرت بالسكينة والطمأنينة والأمان وشيء من حلاوة القرب، كما أن إرادتي بدأت تفنى في مرادي وهو الذكر الذي يحملني إلى مذكوري وحبيبي، ثم حيل بيني وبين دنياي البتة، حيث فقدت إرادة  التفكير في موضوع الدراسة الجامعية، ولم أعد أقوى على استحضار صور أقاربي وأصدقائي أو مناجاتهم عبر مخيلتي.
نعم إن الذكر بمفهومه اللساني والقلبي، وكذا من حيث أنه تأمل وتفكر وتدبر وطاعة وامتثال لأوامر الله، هذا الذكر له تأثير في تقوية الإرادة المثالية الهادفة واستثارة طاقاتها.
ولما كانت النفس ميالة بطبعها إلى الملذات  والشهوات  واتباع سبل الغواية، كانت بذلك السبب المباشر في إضعاف الإرادة الإنسانية والحيلولة بينها وبين القيام  بالوظائف السامية ولا سيما وظيفة الاستخلاف في الأرض. وهنا تبرز أهمية الذكر بمفهومه الشامل، باعتباره أعظم وسيلة  لتهذيب نوازع النفس وميولاتها،  والأخذ بيدها إلى ساحل السعادة والطمأنينة، كما تبرز أهميته  أيضا في إعادة الحياة إلى الإرادة الحقيقية الهادفة، خاصة وأن عنصر الإرادة هو أحد العناصر الجوهرية المكونة لحقيقة الإنسان، إذ لولاها لما كان مكلفا ولما تحمل الأمانة.
ولما كان الإنسان في أغلب أحواله إذا مسه الخير منوعا وإذا مسه الشر جزوعا، وكانت نفسه دائمة الشعور بالفاقة والحاجة، متحملة للمشاق في سبيل الحصول على رغباتها المتجددة والتي لا تنقضي، أنعم الله عليه بالإسلام والقرآن، وعلمه على لسان نبيه كيف يمكن أن يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية. ومن هنا كان ذكر الله أفضل طريق موصلة على الحقيقة إلى الاطمئنان والاقتناع بأنه لا فاقة يمكن الشعور بوطأتها مع وجود الذكر الصادق وممارسته بمفهومه الشامل والعميق.
ولعل أحسن من عبر عن هذا المعنى؛ العلامة محمد ابن قيم الجوزية رحمه الله إذ يقول: "في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة ويفني الفاقة، فيكون  صاحبه غنيا بلا مال، عزيزا بلا عشيرة، مهيبا بلا سلطان. فإذا كان غافلا عن ذكر الله عز وجل فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته، ذليل على سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته"[15][15]
ولعل أسمى أنواع الذكر؛ أن تستحضر الله في قلبك حتى تغدو كأنك تسمع الذكر بلسان الكائن الروحي المتعلق بذلك العضو الذي بين جناحيك، أو تشعر بعد التحقق بالخشية والحياء، بأن نظر الله المصوب إليك قد ملك  عليك كيانك، فأنت مستغرق في الذكر وإن لم يتحرك به لسانك، أو مستغرق فيه وأنت تمارس وظيفة الاستخلاف، أو تتفكر في مخلوقات الله، أو تنعم بما أحل الله لك من النعم.
وإذا غدا الاستغراق في الذكر لسان حالك، غمرتك حلاوة لم تعهدها من قبل، إنها حلاوة الذكر الناتجة عن الأنس بالله والقرب منه، وكلاهما ثمرة الطاعة والمحبة. فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش، ومن أنست نفسه بالله لم يجد لذة في الأنس بغيره، ومن أشرق قلبه  بالنور لم يعد فيه متسع للظلام.
ولقد أثر عن بعض الذاكرين قوله: "إنه لتمر بي أوقات  أقول معبرا عنها؛ إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم إنهم لفي عيش طيب". فمحبة الله تعالى ومعرفته، ودوام ذكره والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل، بحيث يكون هو المستولي على هموم العبد وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم الذي لايشبهه نعيم. وفي هذا المعنى يقول الفقيه ابن قيم الجوزية:
و"الذكر منشورالولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل. وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا. وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق. وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق. ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب. والسبب الواصل، والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم                ونترك الذكر أحيانا فننتكس
به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات. وتهون عليهم به المصيبات إذا أظلهم البلاء. وإذا نزلت بهم النوازل، فإليه مفزعهم. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون. يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا. ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورا.
وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة. و"الذكر" عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة. بل هم مأمورون  بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال: قياما، وقعودا، وعلى جنوبهم. فكما أن الجنة قيعان، وهو غراسها، فكذلك القلب بور خراب، وهو عمارتها، وأساسها.
وهو جلاء القلوب وصقالها. ودواؤها، إذا غشيها اعتلالها. وكلما ازداد الذاكر ....، نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء.به يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار.
زين الله به ألسنة الذاكرين. كما زين بالنور أبصار الناظرين. فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء.
وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
قال الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة. وفي الذكر. وقراءة القرآن. فإن وجدتم..... وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.
وبالذكر يصرع العبد الشيطان. كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان.
قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان. فيجتمع عليه الشياطين. فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي".[16][16]
2- آفات الذكر البدعي
في بداية الأسبوع الثاني عزمت على ممارسة الذكر بالاسم المفرد "الله، الله".. وكنت قبل بضعة شهور قد قرأت كتابا لابن عطاء الله السكندري تحت عنوان "القصد المجرد في معرفة الاسم المفرد"، كما أن كثيرا من المتصوفة أشاروا إلى المزايا والمنح التي يجنيها الذاكر من ممارسته لهذا النوع من الذكر. وهكذا توكلت على الله واستقبلت القبلة وأغمضت عيني، واستحضرت عظمة الله سبحانه وتعالى ، وجلاله وجماله وكماله وفضله ولطفه، وتأملت أسماءه الحسنى وصفاته العلا، حتى تغلغلت معانيها في ذهني ونهل من رحيقها قلبي، كل ذلك وأنا أستحضر في مخيلتي لفظ الجلالة. ثم شرعت في قولي: "الله، الله، الله.... " بكل بطء وسكينة مع تحريك اللسان حركة ضعيفة جدا، وسرعان ما حصل تواطؤ اللسان والقلب وانشرح الصدر، وخمدت الجوارح والأعضاء. ومكثت على هذا الوضع ما يقرب من ساعتين.
لم يكد يمر يومان على ممارسة الذكر بالاسم المفرد، حتى حصل في باطني ما لم أستطع تحمله في الساعات الأولى، لقد فوجئت بموسيقى تنفجر في دماغي ويصل صداها إلى أذني الباطنيتين!!. فقلت في نفسي لعل ما أسمعه قد حمله إلي الأثير من إحدى الغرف المجاورة، ففتحت نافذة الغرفة ولم أسمع شيئا، لا سيما وأن معظم الطلبة القاطنين كانوا في سفر بسبب عطلة من عطل السنة الدراسية. غير أن صوتا واحدا كان يصل إلى مسمعي مصدره حركة السيارات على طريق سيار بالقرب من مبنى الحي الجامعي. والغريب أن تلك الموسيقى كانت ألذ ما سمعت أذناي من أنواع الموسيقى، ولها شبه كبير ببعض مقاطع السنفونيات الشهيرة. وأحيانا كان صوتها يفتر قليلا لكي يعلوه صوت آخر حيرني كثيرا؛ وهو عبارة عن ترتيل لدعوات وأشعار وأذكار يبدو كأنها تصدر من حلقة صوفية لاتبعد عني كثيرا‼ وسرعان ما تذكرت ما قاله بعض الصوفية في هذا الشأن فاطمأن قلبي قليلا[17][17]، لكنني تساءلت قائلا: وما مصدر الذكر الذي أسمعه؟ ثم فكرت قليلا وأعملت عقلي لكن دون جدوى، فلم أهتد إلى تفسير ولم أعثر على جواب، بيد أن النشوة الروحية الناتجة عن ألحان الموسيقى والذكر، حملتني بعيدا إلى عالم لا محدود أحس فيه بسعادة باطنية لا مثيل لها. لم أكن أشك وأنا في غمرة هذه النشوة الروحية أن هذه هي الحال الذي طالما عبر عنها الصوفية بالمنزلة الروحية التي يحصل فيها الإشراق وتفيض عليهم فيها المعرفة الذوقية. ،
ولقد كان ذلك الإشراق يتجلى لي أحيانا في صورة البرق الذي يومض لحظة ثم يخبو، وأحيانا يدوم لحظات. وهي حال تجل عن الوصف وتصحبها لذة هي من أعظم ما قدر للإنسان أن يحظى به في هذه الحياة الدنيا.كما كان النشيج يباغتني بين الفينة والأخرى، وتنهمر الدموع مدرارا تعبيرا عن الفرح بهذه "النعمة" ، وخوفا من فقدانها زمن الجلوة أي بعد الخروج من الخلوة والعودة إلى مجتمع الناس.
وأحيانا كنت أظل أبكي أوقاتا طويلة وأنا مضطجع في غرفتي واضعا خدي على الأرض وقد أصابه بلل الدموع التي امتلأت بها المآقي، يا له من طرب وهيام وأنس!!. وأعقب ذلك إحساس بشهود المنة والجمال، وبقيت أصوات الموسيقى والذكر منبجسة لا تعرف خمودا أياما طويلة، حتى بعد خروجي من الخلوة.
وذات يوم تذكرت كلاما متعلقا بهذا الأمر كنت قد قرأته في كتاب لأحد المتصوفة لم أتذكر اسمه الآن، ولعله ابن عطاء الله السكندري، ومفاده أن المريد السالك إذا ما أكثر من ذكر الله وهو يردد الله، الله،...، قد تنبعث من كيانه أصوات وألحان وموسيقى يجد بها لذة باطنية عظيمة الشأن. وسبب ذلك - حسب قوله- يرجع إلى أن الذاكر بحكم الخلوة والصوم وكثرة الذكر يحصل له من الصفاء الذاتي ما يجعله يستمع إلى ذكر كيانه المادي والعضوي وذلك من خلال العناصر الأربعة الأساسية المكونة لبدن الإنسان؛ وهي الماء والهواء والنار والتراب. فلهذه العناصر لغتها في الذكر والتسبيح يسمعه الذاكر بسمعه الباطني على شكل ألحان موسيقية؟؟‼  وهذا تفسير أو تأويل غير مقنع، ولعله أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة.
وفي هذا الصدد يقول الإمام محمد بن قيم الجوزية: "إن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة: صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن، ومصير الحكم لهما. فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما، وتشتد عناية الروح بها. وتصير في محل تلك العلائق والشواغل. فتملأ القلب، فتصرف تلك المعاني إلى المنطق، والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة. ويتفق تجرد الروح، فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة. وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية. فيرى صورها، ويسمع الخطاب. وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء. ويحلف أنه رأى وسمع، وصدق، لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز، وقلة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الروح، وتجردها عن الشواغل."[18][18]
ومن ناحية أخرى، فإن ذكر الله بصيغة لفظ الجلالة استدرجت إليه استدراجا من خلال قراءتي لكتب المتصوفة . ولم يثبت عن النبي (ص) ولا عن الصحابة أو التابعين أنهم كانوا يذكرون الله بتلك الصيغة أي وهم يرددون "الله، الله، الله".
وفي الموطأ والصحيحين أن النبي (ص) قال: "أفضل ما قلت أنا والنبيئون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك الله له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله. "وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل" لا إله إلا الله" ومثل "الله أكبر" ومثل "سبحان الله والحمد لله" ومثل "لاحول ولا قوة إلا بالله" ومثل (تبارك اسم ربك)، (تبارك الذي بيده الملك)، (سبح لله ما في السموات والأرض) (تبارك الذي نزل الفرقان).
فأما الاسم المفرد" مظهرا مثل: "الله" الله". أو "مضمرا" مثل "هو" "هو". فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة ، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.
وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه، مثلما يروى عن الشبلي انه كان يقول: "الله، الله". فقيل له: لم لا تقول لا إله إلا الله؟ فقال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات. وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان، ويحلق لحيته. وله اشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها؛ وإن كان معذورا أو مأجورا، فإن العبد لو اراد أن يقول: "لا إله إلا الله" ومات قبل كمالها لم يضره ذلك شيئا. إذ الأعمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه.
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الإسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة وربما قال بعضهم: "لا إله إلا الله" للمؤمنين، و"الله" للعارفين ، و "هو" للمحققين، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو جماعته على "الله، الله، الله". أو على "هو" أو "ياهو" أو "لاهوإلا هو" [19][19]
والخلاصة أن الشارع كان حكيما عندما نص على أن صيغة الذكر ينبغي أن تكون مفيدة وذات معنى، فالذاكر عندما يردد لا إله إلا الله، فإنه ينتقل من معنى النفي إلى معنى الإثبات، أي أنه ينفي صفة الألوهية عما سوى الله ثم يثبتها لله وحده، وهو بذلك يعمل على غرس بذور التوحيد الخالص في قلبه وينفي عنه كل أنواع الشبه والوساوس والضلالات. وهكذا تتأصل شجرة التوحيد في صدره، تم تمتد فروعها في جوارحه وأقواله وأفعاله ويصبح كيانه مشرقا ومتلألئا بنور التوحيد. أما إذا كان الذاكر يردد لفظ الجلالة قائلا: "الله، الله، الله......"،فإن ذهنه لا يكون مرتبطا بكلام مفيد، أضف إلى هذا أن الله اسم يدل على الذات الإلهية، والذات الإلهية لا يحيط بها ولا يتصور حقيقتها عقل. وبالتالي فإن الإنسان الذي يفكر في موضوعها يضرب في حديد بارد ويطلب المستحيل، وقصارى ما يصل إليه أو ما يظفر به مجموعة من الخيالات والأوهام الفاسدة، التي قد تفضي به إلى الحلول والاتحاد، أو وحدة الوجود وما إلى ذلك من الاعتقادات الضالة. لهذا نهى الشرع عن التفكر في الذات الالهية وجوهرها أو حقيقتها.
وبالمناسبة أسوق كلاما لابن عطاء الله السكندري وهو من المتصوفة الذين غرقوا في هذا اليم:" ولذاكر هذا الاسم المفرد أعني الله حالات. حالة الوله والفناء وحالة الحياة والبقاء، وحالة النعيم والرضا. فأما الحالة الأولى من الوله والفناء وهو الذي يقتصر على ذكره ، خاصة في بدايته دون غيره من الأسماء ويجعله نجيا. ويحقق ذكر الهاء فيه حين يذكره. فمن داوم على ذلك محي ظاهره وأمحق باطنه، فكان في ظاهره كالمجنون والموله الممحق عقله عنه، لا يقبل عليه أحد من الخلق، ويفر الخلق منه ولا يسكن اليه، لأجل ثبوت الوله الذي كسى ظاهره[20][20]
وأحمد الله سبحانه وتعالى أن صرفني عن ذكره بلفظ الجلالة بعد أيام قليلة، والتزمت ذكري له بما شرع من الأذكار. ولولا لطفه ورحمته لقذف بي في بحار الأوهام والجنون كما حصل للشبلي وغيره.
أما فيما يتعلق بالأذكار والأمداح التي كانت تنبعث من كياني وأنا أستمع إليها بشغف ومحبة، فإني قد عثرت على كلام لأبي القاسم القشيري يشتمل على توضيحات هامة متعلقة بهذا الأمر، لاسيما  وأن هذا الكلام ذكر في سياق الحديث عن الآثار النفسية والروحية الناتجة عن الذكر بالاسم المفرد أي اسم الجلالة.
يقول أبو القاسم القشيري "يقول له الأستاذ: قل: الله الله الله ثم يوصيه أن يواظب على قول هذا الذكر، وأن لا يشهد غيره، وأن لا يفكر في غيره. وإن أشغله عن هذا الذكر أمر من الأمور يطرح ذلك الأمر ولو كانت موت والديه. ولا يفعل من الطاعات إلا الفرائض والسنن وركعتى الضحى وبعد كل وضوء ركعتين. فأما ما سواه من النوافل وقراءة القرآن، فلا يشتغل الا بهذا الذكر إلى أن يغيب بالذكر عن جميع الأشياء بتوفيق الله لقوة ارادته. ثم يغيب بالذكر عن نفسه ثم يغيب بالذكر عن الذكر، يتردد مدة طويلة بين غيبة عن  الذكر بالذكر وبين حضور الذكر. ثم لا يزال يرتقى في كل غيبة وحضور إلى رتبة أخرى. ثم يرد ورود آخر عليه أعلى من هذا فيفنى العبد عن الذكر وعن هذه  الأحوال. فإذا رد إلى حال البقاء بعد هذه الغيبة يسلب عنه  لسانه وسمعه وبصره إلا شهادة القلب ولا يمكنه أن  يقول باللسان، ويقول بالقلب نطقا لا علما ومشاهدة، بل كما كان ينطق بلسانه قبله يذكر بقلبه حتى يرد ورود آخر عليه بعد مدة ما شاء الله أعلى من ذلك من حيث  الهيبة، فيبدو على العبد من الهيبة ورود يظن أنه  قريب من الحق. فيفنى العبد فيه ثم يتردد بين البقاء والفناء، وكل مرة يرد إلى البقاء تزداد عبارات قلبه، حتى ينتهي إلى أذكار يجدها مرة قلبه بألسنة مختلفة وعبارات  لم يسمعها قبله، ولا  خطرت بباله قبله يجد ذلك "الله" في قلبه حتى يتوهم أن جملة الكون يذكر الله بعبارات مختلفة أحيانا، ويصير بحيث لا يميز بين ذكره الذي يبدو من قلبه وذكر الكون من غلبات الذكر عليه، فيسمع جميع هذه الأذكار ثم بعده يرد ورود آخر بحيث لو ذاق هذا الورود غير من سلك هذه الطريقة على سبيل الوهلة لمات من هيبة الله سبحانه حتى يفنى هذا العبد ولا يبقى منه شيء."[21][21]
وخلاصة القول أن قوله: "وكل مرة يرد إلى البقاء تزداد عبارات قلبه حتى ينتهي إلى أذكار يجدها مرة قلبه بألسنة مختلفة وعبارات لم يسمعها قبله ولاخطرت بباله قبله". يذكرني فعلا بتلك الأصوات والأذكار والأمداح المشار إليها آنفا. وهذا يجعلني أخلص إلى نتيجة مهمة وهي أن هذا النوع من الذكر هو الذي يؤدي بصاحبه إلى هذا الشعور وإلى تلك الاحساسات الباطنية التي تتجلى في صيغة أصوات وأذكار..... خاصة إذا كان الذاكر ممارسا للخلوة، بما تتضمنه من شروط وترتيبات(الصمت الدائم، الصوم، الجوع، السهر....)
ولم يثبت عن الصحابة أو التابعين ولا عن الأئمة الكبار أمثال مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل وابي حنيفة، ولا عن رجالات السلف الصالح أنهم خاضوا في هذا البحر وسمعوا أصواتا وأذكارا باطنية- مع كثرة ذكرهم وقوة عبادتهم وتبتلهم وخشوعهم- لأنهم كانوا أحرص الناس على اتباع سنة المصطفى(ص) في الذكر وفي سائر العبادات وأعمال الطاعة، كما أنهم لم يمارسوا الخلوات الصوفية ولا السياحات الرهبانية.
3-  حلاوة الذكر
ولقد أصبح باطني مستقرا لمعاني أسمائه وصفاته، وغدت حقائق الآخرة أقرب إلي من حبل الوريد، بحيث أن نسبتها لقلبي صارت كنسبة المرئي إلى العين. كذلك  ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، أي امتلأ بنور الهداية لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى، فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته كما أن مخلوقاته لا تحل فيه، فلا اتحاد ولا حلول ولا ممازجة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وشيئا فشيئا قذف بي الاستغراق الروحي المتصل في عالم الذوق والوجد الإيماني... وقد ذكر النبي (ص) ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقهما بالإيمان، فقال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا" [22][22]،أي أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم الطعام والشراب. قال العلامة محمد بن قيم الجوزية  : "  ثم ذكر أهل الإيمـان الذين ذاقوا طعمه، وهم الذين آمنوا به وبرسوله. ثم لم يرتابوا في إيمانهم. وإنما انتفى عنهم الريب: لأن الإيمان قد باشر قلوبهم. وخالطتها بشاشته. فلم يبق للريب فيه موضع. وصدق ذلك الذوق: بذلهم أحب شئ إليهم في رضا ربهم تعالى؛ وهو أموالهم وأنفسهم. ومن الممتنع حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان، ووجود حلاوته. فإن ذلك إنما يحصل بصدق الذوق والوجد. كما قال الحسن: "ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل".
فالذوق والوجد: أمر باطن، والعمل دليل عليه ومصدق له. كما أن الريب والشك والنفاق أمر باطن، والعمل دليل عليه ومصدق له. فالأعمال  ثمرات العلوم والعقائد"[23][23]. وقال النبي (ص) أيضا: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن كان يحب المرء لايحبه إلا لله. ومن يكره أن يعود في الكفر – بعد إذ أنقذه الله منه – كما يكره أن يلقى في النار".[24][24]
وبدأت أحس بمحبة الله تسري في كياني، بل وكأني أستمع إلى لغتها تتغنى بها جوارحي وأضلعي وخلاياي، فتبين لي بيان يقين أن كل ما وقع عليه بصري في الكون وما لم يقع عليه، يسبح ويسبح في فلك محيطه قبضة جلالية. وإذا تجلت لي أنوار الجلال وكنت في موطنه، قوي يقيني فسمعت ذلك التسبيح، وحد بصري بنور بصيرتي، وأحالتني آيات الكون على المكون، فشغلت بمحبوبي عما سواه، وطوي زماني، وقصرت المسافات، وغدا الآجل عاجلا والعسير سهلا .
ويقول العلامة محمد بن قيم الجوزية أيضا: "من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وإن كان على غفلة، ثم لايزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطآ على الذكر.
ومنهم من لايرى ذلك، ولا يبتدئ على غفلة، بل يسكن حتى يحضر قلبه، فيشرع في الذكر بقلبه، فإذا قوي استتبع لسانه فتواطآ جميعا.
فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه. والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه، من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه. فإذا أحس بذلك نطق قلبه، ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني، ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرا." [25][25]  فقوله "حتى يجد كل شيء منه ذاكرا" ينطبق تماما على الحال الذي كنت أشعر به بعد الأيام الأولى من ممارسة الذكر، كما يعبر أحسن تعبير عن روح الذكر عندما تسري في الكيان الجسدي فتمتزج بالخلايا وتصيرها ذاكرة, فيحس الذاكر  من أثر ذلك بخشوع في جوارحه وكل بدنه فيغدو كل شيء منه ذاكرا.
ثم إن الإنسان يعتبر جزءا لا يتجزأ من هذا الكون العظيم، وبالتالي فإن مفهوم التسبيح الذي يشكل القانون والمنهج الجوهري الذي تنتظم فيه كل المخلوقات انطلاقا من قوله تعالى " يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض "، يعبر عن  الخاصية الذاتية لهذه المخلوقات، وبالتالي فإن هذا الانسجام والتناغم الذي يعم الكون له علاقة وطيدة بمنطق التسبيح. وإذا كان الخالق سبحانـــه قد أودع في مخلوقاته، من حيوانات ونباتات وخلايا وأنهار وبحار ونجوم وكواكب، قانون التسبيح وألهمها ذكره والدوران في فلكه، فإنه قد هدى الإنسان إلى نفس القانون بواسطة الوحي المنزل من عنده.
ومن هنا فإن الإنسان الذي يعرض عن تعاليم القرآن التي هي تعاليم فطرته المفطور عليها، يتحول إلى عنصر شاذ يصطدم بعناصر الكون بما في ذلك نفسه التي بين جنبيه، كما أن كل ما في الكون ينقلب ضده ويدخل في صراع معه، لأن الكون يدور ويسبح ويسبح في فلك مادي ومعنوي. وما دام الإنسان جزءا من الكون فإما أن يدور ويسبح وتلك فطرته، وإما أن يلفظه الفلك فيغـدو نشازا شاذا. وكمثال حي على الإنسان الذي لفظه فلك التسبيح ؛ الشخص المنتحر، أو اللعين المطرود من رحمة الله، أو المصاب بأمراض نفسية حادة، أو المشرك بالله الذي خر من السماء ولم يعد له مكان فيها مصداقا لقوله تعالى: " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق"[26][26]. وهذا أبلغ تعبير وتصوير لطرد الإنسان من فلك التسبيح.
ولولم يكن الذكر والتسبيح من أعظم  ما يتلذذ به الذاكر الصادق المحب له، لماكان التسبيح مما يلهم عليه أهل الجنة  في غرفاتهم وجنانهم قال رسول الله (ص): "يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس"[27][27].
وبلغت مناجاة قلبي لربي مداها وإن سكت لساني عن الذكر، إذ أن لذة استيلاء ذكره تعالى ومحبته على قلبي وحضوري بين يديه وأنسي به وقربي منه صيرني كأني أخاطبه وأحدثه، فأعتذر إليه تارة وأرجوه وأتملقه تارة أخرى، وأسر إليه ما يختلج في صدري... ثم غدوت أتنسم روح الأنس بالله
"والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها. وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه. فحينئذ تنسم روح الأنس بالله. ووجد رائحته. إذ النفس لا بد لها من التعلق. فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله. وهبت عليها نسماته. فريحتها وأحيتها " [28][28].
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيــب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول مـــنزل
وجميع طرق الأدلة عقلا ونقلا وفطرة وذوقا، تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده قال تعالى: " يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"[29][29]
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى :" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلي عبدي  بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ".[30][30]
وفي الصحيحين عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أحب الله العبد دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا، فأحبه. فيحبه جبريل. ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في الأرض"[31][31]. وذكر في البغض عكس ذلك.
"والمحبة حقيقة العبودية. وهل تمكن انابة بدون المحبة والرضى، والحمد والشكر، والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه.
وكذلك "الزهد" في الحقيقة: هو زهد المحبين. فإنهم يزهدون في محبة ما سوى محبوبهم لمحبته.
وكذلك "الحياء" في الحقيقة. إنما هو حياء المحبين. فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم. وأما ما لايكون عن محبة: فذلك خوف محض.
وكذلك مقام "الفقر" فإنه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها. وهو أعلى أنواع الفقر. فإنه لا فقر أتم من فقر القلب إلى من يحبه. لاسيما إذا وحده في الحب، ولم يجد منه عوضا سواه. هذا حقيقة الفقر عند العارفين.
وكذلك "الغنى" هو غنى القلب بحصول محبوبه. وكذلك "الشوق" إلى الله تعالى ولقائه فإنه لب المحبة وسرها" [32][32]
قال الشاعر: [33][33]
فما كل عين بالحبيب قريـــــرة
ولا كل من نودي يجيب المناديـــــا
ومن لا يجب داعي هداك فخلـه
يجب كل من أضحى إلى الغي داعيــــا
وقل للعيون الرمد: إياك أن تري
سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليــــا
وسامح نفوسا لم يهبها لحبهــــم
ودعها وما اختارت ولا تك جافيـــــا
وقل للذي قد غاب: يكفي عقوبــة
مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيــــا
4- محبة القرآن
ولقد حبب إلي القرآن وأقبلت على تلاوته أشد ما يكون الإقبال، وبما أن القلب كان خاليا من الشواغل ونوافذه موصدة في وجه الخواطر الشيطانية،  فإن معاني الآيات كانت تنساب في كياني انسياب الماء العذب الزلال في مرئ الظمآن، فكنت أتذوقها وأتنعم بحلاوتها، كيف لا والقرآن " نور البصائر من عماها، وشفاء الصدور من أدوائها ، وحياة القلوب، ولذة النفوس، ورياض القلوب، وحادي الأرواح، إلى بلاد الأفراح، والمنادي بالمساء والصباح: يا أهل الفلاح حي على الفلاح. نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم:  "يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم".
أسمع- والله – لو صادف آذانا واعية، وبصر لو صادف قلوبا من الفساد خالية. لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها. وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها. وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا. وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل.[34][34]
"أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟ أو بالإشارات والشطحات، وأنواع الخيال." [35][35].
" وبعد، فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح. وهما الهدى ودين الحق، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين، كما قال تعالى: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، أقسم سبحانه أن كل واحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه، فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما –كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره- بل أنفاسه- فيما ينال به المطالب العالية، ويخلص به من الخسران المبين، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه، وصرف العنايــــة إليه، والعكوف بالهمة عليه. فإنه الكفيل بمصالح العباد، في المعاش والمعاد. والموصل لهم إلى سبيل الرشاد. فالحقيقة والطريقة،  والأذواق والمواجيد الصحيحة،كلها لا تقتبس إلا من مشكاته، ولا تستثمر إلا من شجراته".[36][36]
ومن ناحية أخرى فإن إدراك الطبيعة العلوية للخطاب القرآني واستشعار الحق الكامن فيه، يتطلب تجريد النفس من أهوائها والإنصات إلى معانيه بقلوب  صادقة. والأسباب المساعدة على ذلك كثيرة، سأقتصر على ذكر أهمها:
أولا: حضور القلب أثناء التلاوة، وهو أس هذا البناء وشرطه اللازم، إذ كيف يتصور جني ثمار التلاوة والقلب ساه أو غافل. قال تعالى: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد". ولكي يتم للعبد حضور القلب أثناء التلاوة، ينبغي له أن يجمع همته ويركزها في القصد المطلوب. وهذا أمر منطقي ومجرب؛ فإن الذي عقد العزم على إتيان أمر ما أو القيام بمهمة معينة واستفرغ لذلك وسعه وبذل فيه جهده، لا بد أن يحصل له من التركيز فيما هو مشغول به والانصراف عن كل ما يشوش عليه عمله. وعلى قدر محبته وتعظيمه لذلك الأمر ماديا كان أو معنويا، يتحرر باطنه من الوساوس والأفكار المثبطة وصنوف من أحاديث النفس الجالبة للكسل والوهن والمسببة في الإعراض عن القيام بجلائل الأعمال. وإذا كان التركيز وجمع الهمة في أمر دنيوي ابتغاء تحقيقه ونيله يفضي في غالب الأحيان إلى الغرض المقصود، فمن باب أولى أن يؤدي هذا الشرط إلى الغرض المرجو إذا تعلق الأمر بقراءة القرآن.
وغني عن البيان أن الذي يقبل على قراءة الذكر الحكيم بشغف وهمة ووقار، مع تعظيم للرب وإخلاص الدين له، وصدق لهجة المناجاة من خلال الترتيل، يجد من اللذة الروحية ما يعجز عن وصفه الواصفون.
ثانيا : الخشوع. ثم إن حضور القلب ينتج عنه الخشوع، وذلك بطريقة تلقائية، فمن حضر قلبه خشع. قال تعالى : "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق"[37][37]. وقال أيضا: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله "[38][38].
والخشوع يجعل قلب المسلم يذل ويخضع لخالقه كما تلين جوارحه لطاعته، وبالتالي فإن باطنه يغدو محلا لتنزل الرحمات وورود الإشراقات والنفحات الإلهية. ثم إن اللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في علم المادة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد. والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يخطر على بال غافل ولا يرقى إليه عقل جاهل.
ثم إن الآيات القرآنية تتأرجح في صورها ومشاهدها بين الوعد والوعيد محدثة بذلك توازنا وطمأنينة في باطن المسلم. ولولا ذلك لما كان في مقدوره أن يحافظ على سكينته النفسية، ومن هنا فإن الآيات المعبرة عن مشاهد النعيم تخفف من وطأة الخشوع والخوف الناتجين عن التأمل والتمعن في الآيات المعبرة عن مشاهد العذاب وأهوال القيامة.
وإذا تعود المؤمن استحضار قلبه والتحلي بحلية الخشوع أثناء تلاوة القرآن فقد أذن لنفسه في ولوج عالم التدبر، وهو فضاء معنوي فسيح لا يتوقف عن الاتساع بفضل إمدادات حالتي الحضور والخشوع، وترى العبد يسبح في أرجائه ممتطيا معاني الآيات، منتهلا من حروف "إقرأ" وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. تارة تعتريه الدهشة والحيرة من شدة الأنوار الساطعة من أصل تلك الحروف وما تحمله من إيحاءات ربانية متلألئة، وتارة أخرى ينجذب إلى صلصاله الطيني حتى لايزيغ عن دورته الفلكية، أويحمله هيمانه إلى عالم قد يكون فيه حتفه كما لأصحاب الحلول ووحدة الوجود من الصوفية، وحتى يعرف أن التحقق بالعبودية الحقة يستلزم القيام بواجبات الاستخلاف وتطبيق شريعة الله.
قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: "ومما انفرد به القرآن وباين سائر الكلام، أنه لايخلق على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة؛ وكلما أخذت فيه على وجهه الصحيح فلم تخل بأدائه، رأيته غضا طريا، وجديدا مونقا، وصادفت من نفسك له نشاطا مستأنفا وحسا موفورا، وهذا أمر يستوي في أصله العالم الذي يتذوق الحروف ويستمري تركيبها ويمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه. وهو لعمر الله أمر يوسع فكر العاقل ويملأ صدر المفكر، ولا نـرى جهة تعليـله ولا نصحح منه تفسيرا  إلا ما قدمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم، بالهمس والحس والجهر والقلقلة والصفير والمد  والغنـة ونحوها، ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطا وإيجازا،  وإفرادا وتكريرا" [39][39]
توالت الأيام... ولم يكد يقبل اليوم الأول من الأسبوع الثالث حتى أصبح قلبي مشغوفا بالقرآن، وصرت كلما شرعت في قراءته أجهشت بالبكاء فتنهمر الدموع مدرارا، فأشعر ببرد اليقين والأمن والطمأنينة ويخترق صدى قراءتي طبلة أذني، قاصدا شغاف قلبي فيحدث هزات وقشعريرة أجد أثرها اللذيذ في صدري وجوارحي وسائر أعضائي وخلاياي. فتساءلت مع نفسي لماذا لم أكن أشعر بنفس الشعور عندما كنت أقرأ القرآن قبل الخلوة؟ لنستمع إلى كلام العلامة محمد بن قيم الجوزية وكـأنه يجيب عن هذا التساؤل:
" وقد يكون هذا المسموع  شديد التأثير في القلب. ولا يشعر به صاحبه، لاشتغاله بغيره، ولمباينة ظاهره لباطنه لذلك الوقت. فإذا حصل له نوع تجرد ورياضة، ظهرت قوة ذلك التأثير والتأثر.فكلما تجردت الروح والقلب، وانقطعتا عن علائق البدن، كان حظهما من ذلك السماع أوفى، وتأثرهما به أقوى.فإن كان المسموع معنى شريفا بصوت لذيذ، حصل للقلب حظه ونصيبه من إدراك المعنى، وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له. وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه، فابتهجت به. فتتضاعف اللذة ويتم الابتهاج ويحصل الارتياح، حتى ربما فاض على البدن والجوارح وعلى الجليس".[40][40]
وقد حضرني أثناء الذكر وقراءة القرآن بعض المعاني والإشارات فكتبتها على شكل ابتهالات:
إلهي أسألك أن تلقي علي محبة منك وتفتح
لي من رحمة لاممسك لها أصبــح وأغدو
وأمسي متفيئا ظلالــها حتى ألقــاك.
إلهي أنت الذي هديتني وأنت الذي أرشدتني،
لكن من عساه يؤمنني مكرك أو ينقذني منك
يوم تبطش البطشة الكبرى، ألم يكن إبليس من
الطائعين أعوذ بك منك لا ملجأ منك إلا إليك،
لعلي أعمل في غير معمل أو أحسب أنـــي
أحسن صنعا. إن لم تأخـذ بناصيتي ضللت، وإن
أوكلتني إلى نفسي هلكت، من علي بالطمأنينـة
واربط على قلبي كما ربطت عـلى قلـب أم
موسى أو قلوب الفتية، "إذ قامـوا فقالوا ربنـا
رب السماوات والأرض لن ندعو من دونــه
إلها لقد قلنا إذا شططا". حسبي أنت حسبـي أنت
حسبي أنت.
إلهي أسألك أن تعصمني في حركاتي وسكناتي
وخطراتي، وأن تسبل علـــي كثيـــف
سترك حتى تغيب عيوبي عن عيون خلقــك،
كي أذكرك في نفسي فتذكرني في نفسك.
إلهي أسالك أن تعيننـي على اقتفــاء أثـر
الرسول محمد عليه أفضل الصـلاة وأزكــى
السلام، وأن تضئ جوانب قلـبي بشعلة مــن
نور سراجه الوهاج.  وأسالك أن تقـذف فـي
قلبي نورا من عندك يزيـح شبــح الظلمـات،
ويبدد أستار الأوهام كما تقذف بالحق علــى
الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
إلهي أسألك أن تجعلنـي أعبدك كأنــي أراك
وإذا هممت بفعل سوء أو مسنــي طائف من
الشيطان تذكرتك فخفت مقامك. وامـلأ قلبي
بخشيتك حتى لا يبقـــى فيه خاطر سوء قد
يغضبك، وحتى لا تتحرك جوارحـــي إلا بما
يرضيك، واجعل الوقار نابتا في أصل فــؤادي
واجعل الصمت إلا عن ذكــرك وفيما تحب
أفضل شيمي.
إلهي أسألك أن تحبب إلي عبادتك ومناجـــاتك
والأنس بك؛ فإذا أظلم الليـل ولمـع النجـــم
وسكنت النفـوس، اجعلني ممن تتجافى جنوبــهم
عن المضاجع وممـــن يهجــرون الفــراش
متأسين بنبيك ومقبلين عليك عسى أن ينفعني
ذلك يوما يجعل الولدان شيبا.
إلهي أسألك أن تجعلنـي في زمـــرة الذين
بايعوك فعلمت ما في قلوبهم، فأنزلت السكـينة
عليهم فسكنت نفوسهم، وهدأ عنهم الــروع،
وثبت إيمانهم ويقن، حتى غدت كل حركاتهــم
وسكناتهم بك ومنك وإليك.
إلهي اشتقت إلـى لقـائك وحيرني حنيــن
الرجوع إليك،  فاجعل سفري إليك سفر نوح
في الجارية، ولجوئي إليك لجوء الفتيـــة إلى
الكهف، واجعل لي عندك زلفى وحسن مـآب.
إلهي لطفك وعنايتك بي جعلاني أوقن بــأن
كل شئ في هذا الكون يسبح بحمـدك، وكل
حي وكل جامد له لسان يسبح به، ومـا مـن
موجود إلا والتسبيح سار في كيانه؛ إذ ليـس
في الوجود إلا معبود ومسبحون، فـامنن علـي
بلسان لا يفتر عن تسبيحك وقلـب لا يسـأم
معلقا بك لعلي بذلك أحقق عبوديتي لك.
إلهي أسألك سؤال من غشيه الموج  وظن ألا
ملجأ منك إلا إليك، أن تجعلني أفر إليك قبل
أن يفر مني أخي وولدي وأمـي وأبي وكل
عشيرتي يوم مجيء الصاخــة يوم العـرض،
وقد خاب من حمل ظلما. إن لم تفك أسـري
من شهوات نفسي، ولم تنقذني من أوحــال
الدنيا، ولم تتغمدني برحمتك فكيف لي أن أفـر
إليك وقد قلت (ففروا إلى الله إني لكم منـه
نذير مبين ). كن بي رحيما، ولا تكلني إلــى
نفسي طرفة عين.
إلهي أعرضت عن أصنامهم التي هـم لهــا
عاكفون، وأقبلت بوجهي عليك فأقبل بوجهك
العزيز علي، واجعلني أنظر إليه ببصـــيرتي،
وأدم علي نورك حتى لا أضل وأشقــى أو
تهوي بي الريح في مكان سحيق.
إلهي طغى الماء أو كاد ولست خبيرا بصنــع
الجارية العاصمة، فألهمني بناءها وإلا كنــت
من المغرقين. وارزقني براءة مثل براءة هــود
أخي عاد إذ قال لهم (واشهدوا أني برئ ممـا
تشركون من دونه ) وامنن علي ببينة منـك
تطمئن بها نفسي، ويقوى بها عضدي، وبشرني
يا وهاب بهبة من عندك تسرني وترفعني بـها
واجعلني ممن قلت فيهم ( لهم البشــرى في
الحياة الدنيا وفي الآخرة ) آمين.
إلهي إذا صح أن عبادا ممن ذاقـوا حـلاوة
الانقطاع إليك، شــق عليهم الاشتغـال
بأمور تتعلق بمعيشتهم ودنياهم لا مفر لـهم
منها، لما في ذلك من تشويش لصفو الأنــس،
فكيف ستكون حالتهم إن أنت أدخلتهم النار
لأنك مقلب القلوب، وحرمـوا رؤيتــك
وقد تقطعت أوصالهم شوقا إليك ولما يروك.
أتوسـل إليك بما تحب أن يتوسل به إليك
أن تثبتني وإياهم، وتسكننا جنتك وتقر أعيننا
برؤية وجهـك الجميل.
إلهي هما نظرتان لا ثالثـة لهما؛ نظرة
إلـى الدنيا ونظرة إليك. فمــن
أسرته الأولى تحسر على الثانية يوم
يكشف عنه غطــــاؤه. ومن
منحته البصيرة وكان على نور منك
كفــي سحر الدنيا وعجل إليك
لترضى. فيا من يجيب المضطر إذا دعاه،
أسألك بحق النور الذي أضأت به الكون
أن تجعلنـي أحيا على بصيرة حتى ألقاك
آمنا يوم الفزع الأكبر.
وذات ليلة بينما أنا أقرأ سورة لقمان، إذا بهاتف يهتف بداخلي: لماذا لا تتعلم الحكمة كما تعلمها لقمان الحكيم؟ اطلب من رب العزة أن يفيض عليك بشيء منها؟ فما كان مني إلا أن ألححت الدعاء سائلا  الله أن يرزقني علما تكون التقوى أساسه والحكمة تاجه.
ولما توفى الله نفسي في منامي تلك الليلة، زارني رجل يناهز السبعين، في حلة جميلة يعلو الوقار محياه قد تعمم بعمامة بيضاء، فبادرته قائلا من أنت؟ فأجابني: أنا الحكيم الترمذي؟؟!! فقلت: ما الذي جاء بك عندي؟ قال: أتيتك لأفسر لك سورة لقمان وأعلمك الحكمة ؟؟!! فعجبت لكلامه واستبشرت بقدومه خيرا فقلت في نفسي: لقد جاء على قدر، أو لعل الله قد بعثه إلي ليدلني على طريق الحكمة.
فبدأت أرتل بعض آيات سورة لقمان، ثم انطلق يفسرها تفسيرا باطنيا غريبا ذكرني بتفاسير الشيعة الباطنية...عندما أنهى تفسيره التفت  إلي قائلا: أبشر يا عبد الله فإنك قد بدأت معراجك الروحي، وإنك الآن في السماء الثانية على قدم عيسى؟!! ثم ودعني قائلا:سأتركك الآن لأن وقت الفجر قد حان فانتبهت من سباتي.
لقد كان لكلامه وقع كبير في قلبي، دفعني إلى البحث بعد الخروج من الخلوة، في موضوع المعراج الروحي الذي مارسه بعض الصوفية وخاصة محي الدين بن عربي. وفهمت من خلال هذا الموضوع أن المتصوفة يؤمنون بإمكانية المعراج الروحي إلى السماوات العلا، وأن كل سماء تعرج إليها روح الصوفي تناسب مقاما من المقامات أو مستوى من مستويات الترقي الروحي.
واتضح لي بعد بضع سنوات أي زمن التوبة، أن هذه الرؤيا كانت من تلبيس الشيطان ومن إيحاءاته المضللة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس". (المنذري أبو الحسين، مختصر صحيح مسلم، باب إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب.)
وانطلاقا من هذا الحديث يتضح أن رؤياي كانت من نوع حديث النفس. ثم إن الشيطان الذي جاءني في نومي وهو متلبس بشخصية الحكيم الترمذي، أراد أن يكذب علي ويضلني بكلامه وإشاراته الماكرة مدعيا أنني قد بدأت معراجي الروحي، وما إلى ذلك من الأوهام والترهات.
ومرة أخرى رأيت في منامي رجلا عرفني بنفسه قائلا: أنا محي الدين ابن عربي جئت عندك كي أعلمك كلمات، ففرحت فرحا شديدا وذلك لمكانة ابن عربي في نفسي وقتئذ، ولكوني كنت معجبا أيما إعجاب برسائله وفتوحاته، فنطق  بعبارات ما أن بلغت مسامعي حتى طرب لها قلبي، لكني بعد الانتباه من النوم لم أحتفظ منها سوى بالعبارة التالية:"ولسان حالي قول روحي أنا لم أكن يوما هنا أو في مكان......."
ولا يخفى على ذي بصيرة أن العبارة المذكورة لها علاقة متينة بنظرية وحدة الوجود الصوفية،ذلك أن "الروح التي لم تكن يوما هنا أو في مكان"، على حد قول ابن عربي، هي روح مستغنية عن الحيز والمكان، وإذا كانت كذلك فهي غير حادثة ومخالفة للمحدثات... !!!
ولما أشرفت على نهاية الأسبوع  الثاني للخلوة، أيقنت بأن ما يغمرني من السعادة الباطنية و الطمأنينة، وما أسمعه من ألوان الذكر والموسيقى وما أحس به من حلاوة روحية تجل عن الوصف، كل ذلك قد تحقق بعد الزهد في الدنيا والعزوف عن زينتها وزخرفها وكذا بعد اعتزال الناس ولو لمدة يسيرة. فغدا عقلي مشغولا بالتفكير في الطريق المؤدية إلى الاحتفاظ بهذا الكنز الثمين والذخيرة الفريدة.
وبعد طول تفكير وإعمال عقل، تبين لي أن الخلاص يكمن في الاقتداء بأرباب السلوك من القوم، والسير على آثارهم. فعقدت العزم على الإعراض عن الزواج وعدم التفكير في موضوعه!! واعتبرته العائق الأول والرئيس الذي يحول دون الممارسة الصوفية الحقة، ويمنع من الترقي في المقامات. وقلت في نفسي "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه "؟!! كيف يمكنني الجمع بين محبة الله والزواج والأولاد، ولو كان ذلك ممكنا لسبقني إليه أقطاب الصوفية وأبدالهم. فطفقت أتخيل الحياة الزوجية، وكذا أعباءها من إشراف ونفقة وسهر وجسامة الحقوق الزوجية، وثقل الميثاق الغليظ، وخلصت إلى أن هذا يتعارض كليا مع ما أنا فيه من السكينة والطمأنينة وراحة البال. !!
ولما تم لي الفصل في موضوع الزواج، انشغلت بموضوع العمل، فتساءلت مع نفسي :  ما هو نوع العمل الذي ينتظرني بعد إنجاز رسالة الدبلوم؟  إنه التعليـــم بلا شك، وهب أني ظفرت بمنصب في كلية من كليات المغرب، ماذا عساي أدرس فيها؟ . قد يسندون إلي تدريس بعض العلوم الإنسانية خاصة علم الاجتماع أو الانثربولوجيا الاجتماعية، لكن ما أصل هذه العلوم وما غايتها ومن هم واضعوها ومؤسسوها؟ أليس أربابها كفارا ملاحدة أمثال أوجست كونت وسبنسر ودوركايم؟ ،أليس غايتهم القصوى من هذه العلوم هي إقامة القطيعة التامة بين الإنسان وخالقه من خلال المنهج العلماني اللاديني، التي تنبني عليه هذه العلوم. أترضى لنفسك يا عبد الله أن تكون مفسدا في الأرض بتدريسك لهذه العلوم، وهب أنك توفقت في نقد و إظهار عيوب هذه العلوم، واقتصرت على تدريس ما قد تتضمنه من أفكار ونظريات عملية تفيد في فهم الواقع المغربي ودراسته، ألن يكون عملك في الكلية شاغلا لك عن الذكر والعبادة والخلوة؟ أتضمن لنفسك المكوث في عالم الطمأنينة والتحليق في فضاء الروح والتنعم بنسيم الإشراقات والإلهامات؟
كان هذا الحوار الذاتي كفيلا بإعراضي عن التفكير في العمل، بل إن الأمر تعدى إلى أكثر من هذا، ذلك أنني كنت أفكر في عدم الرجوع إلى وطني البتة واستبداله بتركيا أو الهند حيث يمكنني أن أحيى حياة صوفية بعيدا عن الأقارب والأحباب والأصدقاء. وبعد أن تمكنت هذه الأفكار الشاذة من عقلي واستحوذت عليه وصرت أحلق في أرجائها وأتخيل الحياة الطليقة المفعمة بسكينة الروح وحلاوة الذكر والانقطاع إلى الله، بعد كل هذا تدخلت مشيئة الله  وحلت عنايته ولطفت بعبده الذي أضحى مشلولا ومستهدفا، وانتشلته من أيدي الشياطين التي كانت على وشك الإلقاء به في أودية الهلاك والضلال.
ما الذي حصل يا ترى؟ لقد رأيت في منامي ليلة السابعة عشرة ذلك الشخص الطالب الذي عرض علي الغرفة التي أقمت فيها خلوتي وهو يطرق الباب. فانتبهت من نومي حزينا خائفا من تحقق الرؤيا لما في ذلك من إيقاف لخلوتي ونقض لعزلتي. وازداد قلقي لما رأيته في منامي ليلة الثامنة عشرة وهو يطرق الباب ايضا. ثم استسلمت لأمر الله لما تكررت الحالة في ليلة التاسعة عشرة حيث رأيته جالسا في إحدى زوايا الغرفة وهو يحدثني عن المغرب وأحواله.... وفي منتصف النهار سمعت.... دقات الباب، فلما فتحته وجدت الشخص ذاته. لقد جاء لأمر يتعلق بدراسته ومكث معي بضعة أيام، كانت كافية لتبديد بعض الغيوم التي تجسدت في تلك الأفكار الشاذة .


توبة وأوبة
لقد كنت أثناء ممارستي لهذه التجربة الصوفية مرتبطا بملكة خاصة، غير ملكة العقل المنطقي، تلك الملكة التي كانت تصلني ببعض الحقائق على نحو خاص، وتقوم فيها اللوامع والإشارات مقام التصورات والأحكام والقضايا  المنطقية. ويغمرني من خلالها شعور عارم بقوى تضطرم في باطني كفيض من النور الباهر، ومن هنا كنت أشعر بإثراء في كياني الروحي، وتحرر في أفكاري وخواطري وانطلاق لطاقات حبيسة عميقة الغور في نفسي.
إن هذه المعرفة الذوقية لم تكن قط عملا من أعمال العقل الواعي، ولا أثرا من آثاره، كما أنه لا شرط لتحققها في وجدان الصوفية غير شرط القانون الذي يحكمهم ويمتثلون أوامره وهو قانون المجاهدة ورياضة النفس على طريقتهم ومنهجهم، فإذا هذه المعرفة إرادة، وإذا هذه الإرادة امتثال والتزام. وهكذا تصبح المعرفة الذوقية مظهرا من مظاهر الإرادة والوجدان والاتصال الروحي.
إن الأساس في تكوين التجربة الصوفية هو المجاهدة والرياضة، ثم الترقي في المقامات والأحوال، ولا تفهم الأحوال الروحية في عين التجربة بغير هذا الاعتبار، وما دام الأمر كله معلق على سلطان هذه الأحوال، فإن مستند الدعاوى التي يدعونها هو منطق الوجدان لا العقل. ولما كانت علوم ومعارف الصوفية يغلب عليها الذوق والكشف الصوفيين، كان من البديهي أن يتسرب إليها الزلل والدخن، ويسودها منطق الأهواء والبدع.
بيد أن هذا لا يمنع الباحث الحصيف والناقد المنصف، من ذكر الصفحات المشرقة من أقوال وكتابات الجيل الأول من الزهاد والمتصوفة المسلمين أمثال الحين البصري، والفضيل بن عياض، ووهب بن منبه، وبشر الحافي الحارث،المحاسبي وأبو القاسم الجنيد وأبو سعيد الخراز، وغيرهم ممن عاشوا في القرنين الثاني والثالث للهجرة. فقد خلف هؤلاء الرجال من الأقوال حكما، ومن المعارف دررا ولآلئ جادت بها قرائحهم وترجمتها ألسنتهم وسطرتها أقلامهم، يتذوق قارئها حلاوة معانيها، ويتنسم من خلال كلماتها صدق لهجة أصحابها، ومدى محبتهم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ومجاهدتهم في سبيل تزكية النفس وتربيتها والسمو بها، ومدى شغفهم بالزهد والعبادة والتأمل والتدبر والمراقبة والمحاسبة. لقد كانت ألفاظهم كالتباشير مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس تعبق بالراح والريحان، كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه، ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها.
إن هؤلاء الرواد الأوائل من الزهاد والمتصوفة قد أرسوا، بما خلفوه من تراث زاخر ينبض صدقا وحيوية، قواعد متينة وطرقا تتعلق بمجال تربية النفس وتزكيتها ومداواة أمراض القلوب، والحض على طرق باب التوبة ونبذ الرذائل والتحلي بالفضائل، ولزوم التقوى وتفيئ ظلال الأنس والمحبة، مستأنسين ومسترشدين بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين من فقهاء وعلماء السلف الصالح. ثم إن هذا التراث الثمين الذي يعبر عن أدب الزهد والرقائق، يتناغم وينسجم مع روح الوحي وأسس الهدي القرآني، إلا أنه لا يخلو من هفوات وأخطاء  وانزلاقات، وجب على علماء الأمة وفقهائها التنبيه عليها وإصلاحها.
أما فيما يخص التراث الصوفي المتعلق بالأجيال والقرون اللاحقة، فإنه قد ارتوى من عيون الفلسفة اليونانية، وعقائد اليهود والنصارى والفرس والهنود، ودبت في روحه نظريات الفيض والإشراق والحلول ووحدة الوجود، فأضحى تراثا لا علاقة له بزهد وتصوف الجيل الأول، وغدت الخيوط التي تربطه بالإسلام أوهن من خيوط العنكبوت.
ثم طلع نجم التصوف الطرقي، وازدادت الهوة اتساعا حيث تعقدت التربية السلوكية بظهور نظام المشيخة الطرقية، فتعددت الطرق الصوفية وتفنن الشيوخ في وضع القواعد والضوابط ذات الطابع التكليفي، وكذا إلزام المريد بأذكار وعادات وأعمال كثيرا ما تتنافي مع مبادئ السنة النبوية وروحها.
كما واكب تطور التصوف الطرقي أدب نثري وشعري ملئ بموضوعات تتعلق بمدح الشيوخ وتعظيمهم، وبشطحات تعبر عن حالات نفسية ووجدانية غير منضبطة؛ لا تخضع لعقل ولا شرع، أو موضوعات تركز على كرامات الشيوخ وقدرتهم على التأثير في النفوس والتدخل في شخصية المريدين وتوجيه إراداتهم، بل التدخل والتصرف في أمور أخرى لا داعي لذكرها، أو أذكار وأوراد وأحزاب من وضع الشيوخ يتلوها ويرددها المريدون في زواياهم أو في بيوتهم كل يوم؛ وهي كلمات وصيغ أو نصوص نثرية إذا عرضت على الكتاب والسنة اتضح زللها وانحرافها.
وبعد، أحمد الله سبحانه وتعالى أن رد السفينة إلى الساحل وشاطئ الأمان، بعد أن أوجعتها ضربات الأمواج العاتية. لقد كانت رحلتي الصوفية – سواء أيام الخلوة التي دامت تسعة عشر يوما، أو خلال السنوات السبع التي قضيتها مع التجربة الصوفية في فرنسا- مليئة بالاكتشافات في عالمي النفس والثقافة الدينية، كما أن غرائب هذه الرحلة وعجائبها ومظاهرها ومعانيها، أثرت في شخصيتي تأثيرا قويا حتى كأنني ولدت للمرة الثانية. والحقيقة أن طبيعة الرحلة الصوفية أهول من السيل بالليل، وطريقها وعر ملئ بالأشواك وأكثر ما يتراءى لصاحبها من معاني وحقائق هي  أكذب من البرق الخلب "ورب غيث عاد عيثا" ، ووبل صار وبالا.  نعم هذا الذي حسبته غيثا كان سيقذف بي في كهوف تركيا أو الهند أو وسط غاباتها هائما على وجهي.... !!!
لم أكن أتصور وقوع هذه الأمور الفاسدة قبيل الخلوة، بل كان أملي يتلخص في تربية النفس ومجاهدتها وتزكيتها والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى. لكن كيف يا ترى طرأ هذا الخور والهذيان، وحضرتني تلك الخيالات والرؤى الفاسدة المضلة؟! لقد كانت نيتي صادقة، غير أنني أخطأت الطريق عندما مارست الخلوة.
"قال الفضيل بن عياض: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل. وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: ما كان لله. والصواب: ما كان على السنة. وهذا هو المذكور في قوله تعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" وفي قوله: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن".
فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، على متابعة أمره. وما عدا ذلك  فهو مردود على عامله، يرد عليه –أحوج ما هو إليه- هباء منثورا. وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي (ص): "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"، وكل عمل بلا اقتداء فإنه لايزيد عامله من الله إلا بعدا. فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء"[41][41].
إن الخلوة الأربعينية التي يحث عليها أرباب التصوف مريديهم وأتباعهم لا أصل لها في الكتاب والسنة، يقول محمود عبد الرؤوف القاسم  :" الخلوة (أو العزلة): طقس إشراقي أساسي، لابد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة "الإشراق" التي كانت على مدى التاريخ، وما زالت، تسمى "المعرفة" وجاء إشراقيو المسلمين فغلبوا عليها اسم "الصوفية والتصوف".
كان إشراقيو الأمم، وما زالوا، يمارسون الخلوة في كهوف الجبال والوديان وفي شعابها، وفي أعماق الغابات، أو في كهوف(غرف صغيرة) تبنى في المعابد خصيصا لهذه الغاية.
ومثلهم تماما، مارسها متصوفة المسلمين، لكن قرونهم الأولى، استعاضوا عن كهوف المعابد بخلوات في بيوتهم، لأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا يعرفون الإسلام ويفهمونه، وكانوا يعرفون أن هذه الزندقة غريبة عن الإسلام، فكل من عرف بها أقاموا عليه حد الردة.
وتوالت الأيام، وشيئا فشيئا فعلت السموم الصوفية التي كانوا ينفثونها بهدوء فعلها في المجتمعات الإسلامية، ففشا فيها الجهل والخرافة، وأخذ كهان الصوفية حريتهم بإعلان عقيدتهم الفاسدة والدعوة إليها، وسموها أسماء فيها من الوقاحة بقدر ما فيها من الجرأة والافتراء على الله سبحانه، وبنوا لها هياكلها الخاصة التي سموها "الخانقاه" وفي الخانقاهات أقاموا، وفيها أقاموا كهوف الخلوة". [42][42]
قال أبو حامد الغزالي: "وفي العزلة خلاص، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إثارة للخصومات، وتحريك لغوائل الصدور، ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالبا"[43][43]!!؟
كما أن شيوخ الصوفية ينصحون مريديهم بالإكثار من الجوع والسهر والتزام الصمت التام.
وقال الشبلي :"كنت في بدايتي إذا غلبني النوم اكتحل بالملح فإذا زاد علي الأمر أحميت الميل فأكتحل به".[44][44]
هذه الممارسات والسلوكات التي يطلق عليها الصوفية اسم المجاهدة أو الرياضة النفسية، بعيدة كل البعد عن وسطية الإسلام وهديه، ومنافية لأهدافه السامية القائمة على بناء المجتمع الإسلامي، وإقامة الاستخلاف في الأرض.... وكما أصابتني سهام الخلوة بما تشتمل عليه من جوع وسهر وصمت دائم، حيرتني التغيرات النفسية والروحية العميقة التي باغثتني بعد يومين على بدء ممارستي للذكر بالاسم المفرد. لقد كان لصدى الموسيقى والأصوات والأذكار الجميلة وقع قوي في نفسي مما دفعني إلى التفكير في إقامة قطيعة كلية مع المجتمع خوفا على هذا الكنز من الضياع!!.
والخلاصة أن الحالة النفسية التي كنت أعيشها كانت أشبه بحال من الأحوال النفسية التي تعتري الصوفية. وكثيرا ما يطغى الحال على العقل والعلم عند أهل التصوف، فيحصل الزيغ وتظهر بعض الشطحات، فإن كل حال لا يصحبه علم غالبا ما يكون من خداع الشيطان. يقول العلامة محمد ابن قيم الجوزية: " والبلية التي عرضت لهؤلاء ،أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه. وأحكام الحال تتعلق بالكشف. وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم.. فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره، تعارض عنده العلم والحال.. فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال.
واعلم أن المعرفة الصحيحة: هي روح العلم. والحال الصحيح: هو روح العمل المستقيم. فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم: فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة. ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال، لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها. فمتى عارض الحال حكما من أحكام العلم، فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص. ولا يكون مستقيما أبدا.
فالعلم الصحيح والعمل المستقيم: هما ميزان المعرفة الصحيحة والحال الصحيح، وهما كالبدنين لروحيهما"[45][45]
وقال أيضا:" من أحالك على الحال فما أنصفك. فإنه أحالك على أمر مشترك بين الحق والباطل. فإن كل من اعتقد شيئا وطلبه صادقا، واستفرغ وسعه في الوصول إليه، كان له لامحالة في حال ليست لغيره بحسب صدقه في طلبه، وجمع همته وقصده عليه. وهذا يكون للأبرار والفجار، بل لأولياء الله وأعدائه. فيكون الرجل له شهود بمشهوده، وحال في طلبه، لايوجب كونه حقا ولا باطلا. فإن كل من اعتقد عقيدة، وارتاض وصقل قلبه بأنواع الرياضة، وجزم بما اعتقده تجلت له صورة معتقده في عالم نفسه. فيظن ذلك كشفا صحيحا وإن كان صادقا في طلبه وحبه لما اعتقده كان له فيه حال وتأثير بحسبه. فالحوالة على الحال حوالة مفلس من العلم على غير مليء به.
ومن ههنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم، حيث أحالوا العلم على الحال وحكموه عليه.
وسير أولياء الله وعباده الأبرار والمقربين بخلاف هذا، وهو إحالة الحال على العلم، وتحكيمه عليه وتقديمه، ووزنه به وقبول حكمه. فإن وافقه العلم، وإلا كان حالا فاسدا، منحرفا عن أحوال الصادقين بحسب بعده عن العلم. فالعلم حاكم والحال  محكوم عليه. والعلم راع والحال من رعيته. فمن لم يكن هذا أصل بناء سلوكه، فسلوكه فاسد. وغايته الانسلاخ من العلم والدين كما جرى ذلك لمن جرى له. والله المستعان." [46][46]
وقال أيضا:" فصاحب الرياضات، والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات،  والخلوات هيهات هيهات، إنما يوقعه ذلك في الآفات، والشبهات، والضلالات. فإن تزكية النفوس مسلم  إلى الرسل. وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليما وبيانا وإرشادا، لاخلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله  تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" وقال تعالى: "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون".
وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد. فمن زكى نفسه بالرياضة  والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب. فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد، والتسليم لهم. والله المستعان." [47][47]
نعم إن منطق الحال وليس منطق العقل والعلم، هو الذي أملى علي الأفكار السوداء المتعلقة باستهجان الزواج وتركه والابتعاد عن الوظيفة والعمل، ثم الاغتراب في البلدان النائية، متنقلا بين الزوايا أو الكهوف والغابات. وهذا سلوك يمجه العقل بله الدين الحنيف، يقول محمد بن قيم الجوزية رحمه الله:"إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته، عرضت له الخوادع والقواطع؛ فينخدع أولا بالشهوات والرياسات والملاذ والمناكح والملابس. فإن وقف معها انقطع، وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه، ابتلي بوطء عقبه، وتقبيل يده، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته، ونحو ذلك. فإن وقف معه انقطع به عن الله وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي بالكرامات والكشوفات؛ فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الوحدة والفراغ من الدنيا.
فإن وقف مع ذلك  انقطع به عن المقصود، وإن لم يقف معه، وسار ناظرا إلى مراد الله منه، وما يحبه منه، بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه أين كانت وكيف كانت، تعب بها أو استراح تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم، لايختار لنفسه غير ما يختاره له وليه وسيده، واقف مع أمره ينفذه بحسب الإمكان، ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره. فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيء البتة. وبالله التوفيق" [48][48]
وهذا الكلام يتضمن حججا وبراهين غاية في الصواب والدقة، ويبين أن الانقطاع الحقيقي إلى الله يكون بطاعته وامتثال أوامره والاستجابة لندائه وتلبية دعوته مهما كان نوعها ووقتها، وألا يفضل ما تميل إليه نفسه مثلا من التجريد والتخلي وعزة الوحدة إلخ....... على ما يختاره الله له من معاشرة الناس ونصحهم، وهدايتهم والتودد إليهم، والصبر على أذاهم، وتلك وظيفة من وظائف الأنبياء, فكيف يتخلى عنها من يدعي مقام القرب والأنس بالله ومحبته؟؟‼ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ؛ " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لايخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "[49][49] ولو كان صادقا في أنسه بالله ومحبته له، للبى نداءه وبادر إلى ممارسة وظيفة الأنبياء والرسل، لكنه أحب نفسه وأنس بها وركن إلى كشوفاته وكراماته، واطمأنت نفسه إلى تجريده وخلوته، فذاك حظه ونصيبه، وليعلم أنه قد انقطع إلى نفسه ولم ينقطع إلى ربه. وهذا العبد ليس عبد الله وإنما عبد الحظوظ النفسية، يدور معها كيفما دارت ويحط رحاله في فنائها أينما حلت وارتحلت، وينزعج لفواتها أو لمكروه يصيبها فيكدر صفوها عليه.
ومن باب الجمع والتوفيق، يمكن القول بأن الخلوة الحقيقية والنافعة هي الخلوة بالله وسط عياله؛ أي أن المحب الصادق يعيش خلوته بالله ومعه وهو في أهله بين أولاده، وفي غرفته أو متجره أو إدارته، وفي كل أعماله المشروعة.
مكثت خلال السنوات السبع التي تلت الخلوة الصوفية متشبعا بأفكار المتصوفة ومتأثرا بمنهجهم في السلوك والعبادة. لكنني في منتصف هذه المرحلة الزمنية، بدأت أستعمل حاسة النقد في تحليل بعض المعتقدات الشاذة، التي سادت عند كثير من المتصوفة؛ مثل الأفكار المتعلقة بالمذهب الإشراقي الذي عرف ع،د شهاب الدين السهروردي وغيره من الإشراقيين، أو الأفكار التي تدور حول نظرية العشق والمحبة التي اشتهر بها ابن الفارض، وكذلك بعض ما كان يعتقده الحكيم الترمذي، وأبي حامد الغزالي، وابن عربي الحاتمي، من تصورات منحرفة وضالة متعلقة بطبيعة النفس، يظهر أثر الفلسفة اليونانية والفلسفات المشرقية واضحا في ثناياها.
وهكذا بدأت شيئا فشيئا أتخلص من أدران وشوائب كانت عالقة بذهني حتى انتهى بي المطاف، وأنا في خضم النقد الذاتي، إلى الشك في منهج العبادة والسلوك عند المتصوفة. وأظن أنني لو كنت متصوفا على طريقة صوفية مرتبطة بشيخ حيا أو ميتا حيث الأوراد والطقوس ... لكان تخلصي من التصوف أصعب، لأن المتصوف الطرقي لا يحتكم إلا إلى شيخه وفلسفة طريقته الصوفية، وكذا إلى الإلهامات والإشراقات والرؤى، كما يكون مسلوب الإرادة بعدما تمكنت منه شخصية شيخه، بحيث لم يعد في نفسه متسع لغيره، فيكثر الحديث عنه وعن كراماته طوال النهار، ويراه في أحلامه أثناء نومه. وباختصار فإنه يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويتنفس بنفسه !!؟ ولذا فإن روحه لا تنفك ممتزجة بروح شيخه، ولا يتصور وجود عيب فيه، كما لا يطيق الاستماع إلى من ينتقده أو ينتقص من قدره.
وأحمد الله أني كنت قد ولجت هذا العلم الصوفي وأنا أحمل في نفسي هم التوبة وتزكية النفس، ثم تنسم عبير المعرفة الصوفية، فكانت المغامرة وكانت الرحلة. لكن لما هدأ بحر النفس، ولم تعد أمواج الذوق الصوفي متلاطمة، وانحلت سحائب (الإشراقات)، وغاب صدى الموسيقى والألحان الغريبة عن الصدر والقلب والدماغ، توقدت بإذن الله عين النقد من جديد وصحوت بعد سكر، فتكسرت القيود، وعادت الإرادة إلى مجراها الطبيعي؛ حيث العبودية ونهج المصطفى الكريم صلوات الله عليه وعلى آله.


وكتبه المفتقر إلى الله تعالى
أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف
تطوان/المغرب؛ محرم 1428
فبراير 2007
ملاحظة: هذه الصفحات تلخيص لكتابي "تجربتي الصوفية في ميزان الكتاب والسنة"، وهو كتاب لم أنته بعد من تحريره.



1-راجع مقالي:  -"الهجرة العمالية من زاوية المثاقفة" ، جريدة "النور" 15 ربيع الاخر،   سنة  1410
[50][2] لم أعثر على اسمه
[51][3] سزرة فاطر  آية 15
[52][4] محمد بن قيم الجوزية ؛ إ غاثة اللهفان من مصائد الشيطان ،  دار ابن زيدون بيروت  ص31-32
[53][5] سورة الأعراف 156-157
[54][6] رواه البخاري
[55][7] سورة الحديد 20
[56][8]     سورة لقمان آية 32
[57][9]رواه البخاري
[58][10]-مسند أحمد، سنن الترمذي
[59][11]رواه الترمذي
[60][12]ابن الجوزي سيرة عمر بن عبد العزيز ، ص 124
[61][13] هذا الحديث موضوع، انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ج 9     ص 176مكتبة المعارف الرياض 1419
[62][14] ابن قيم الجوزية ؛ طريق الهجرتين وباب السعادتين ص 221-222/ دار الكتاب العربي بيروت/ د.ت
[63][15] محمد بن قيم الجوزية ؛ الوابل الصيب من الكلم الطيب ، دار الكتب العلمية ص 78
[64][16] محمد بن قيم الجوزية ؛ مدارج السالكين، ج 2 ص475-476 دار الجيل بيروت/ د.ت
[65][17]  انظر ص
[66][18] مدارج السالكين ؛ ج1 ص73-74
[67][19] أحمد ابن تيمية؛ مجموع الفتاوى، ج10 ص556-557
[68][20]   ابن عطاء الله السكندري؛ القصد المجرد في معرفة الإسم المفرد، مكتبة الثقافة الدينية بيروتً  ص78
[69][21] أبو القاسم القشيري ؛ الرسائل القشيرية، تحقيق د. فير محمد حسن، المكتبة العصرية، ص65-66-67
[70][22] رواه مسلم
[71][23] محمد بن قيم الجوزية؛ مدارج السالكين، ج3ص104-105
[72][24] رواه البخاري ومسلم
[73][25] محمد بن قيم الجوزية ؛ الفوائد ، ص 234/ المكتبة العصرية/ صيدا بيروت 1422/2002
[74][26] سورة الحج آية 31
[75][27] رواه مسلم
[76][28] مدارج السالكين ج2 ص34
[77][29] سورة المائدة آية 54
[78][30] رواه البخاري
[79][31]
[80][32] مدارج السالكين، ج3 ص30-31
[81][33] مدارج السالكين ج3 ص36
[82][34] مدارج السالكين ج1 ص25-26
[83][35]        ""            ج1 ص28
[84][36] مدارج السالكين ج1 ص28-29
[85][37] سورة الحديد آية 15
[86][38] سورة الزمر   "   23
[87][39]  مصطفى صادق الرافعي ؛ إعجاز القرآن والبلاغة النبوية،  ص218  دار الكتاب العربي بيروت 1410/1990
[88][40] مدارج السالكين ج 2 ص462-463
[89][41] مدارج السالكين ج   ص
[90][42] محمود عبد الرؤوف القاسم "الكشف عن حقيقة الصوفية" المكتبة الإسلامية، عمان ، ص334-335
[91][43] أبو حامد الغزالي؛ إحياء علوم الدين، ج 2  ص 250
[92][44] كتاب  اللمع ؛ ص270
[93][45] مدارج السالكين ج2 ص112-113
[94][46] المدارج ج2 ص223-224
[95][47] المدارج ج2 ص 356
[96][48] محمد ابن قيم الجوزية ؛ الفوائد ص
[97][49] رواه احمد والبخاري في الأدب والترمذي..5






إرسال تعليق

0 تعليقات