المحادثة والمجالسة؛ آداب وأخلاق (1)

 529_1314798754

 

موضوع المحادثة والمجالسة من الموضوعات الأدبية الرائعة التي يزخر بها الأدب العربي شعرا ونثرا. كما أن المحادثة أو المجالسة من الأمور التي ترتاح لها النفوس وتهوي إليها القلوب. ثم إنها تختلف باختلاف طبقات الناس وتباين غاياتهم ومقاصدهم. فللعلماء مجالسهم، وللسياسيين مجالسهم، وكذلك أهل التربية والتعليم. وللتجار مجالسهم ونواديهم، وللعوام مجالسهم ومذاكراتهم، وهكذا...

ولا تخلو المحادثة أو المجالسة من فوائد مهما كان نوع أصحابها. بيد أنه تكثر المحادثات والمجالسات التي يسودها اللغو والباطل، أو الكلام الذي لا طائل تحته، ولا فائدة ترجى من ورائه، بل منها ما يفضي إلى الرذيلة ويوقع في مراتع الخنا. ومن هنا ينبغي أن تسيج المحادثة بسياج من الضوابط والآداب والأخلاق الرفيعة، سأتناول فيما يلي بعضها:

  • تجنب الحديث عن النفس:


كثيرا ما يغلب على المجالس وجود شخص معجب بنفسه، يكثر من ذكر أوصافه ومواقفه البطولية، ويمدح قدراته العقلية والنفسية. كما قد يخبر عن تدينه وتقواه واجتهاده في ألوان الطاعات، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز؛ "فلا تزكوا أنفسكم" (النجم 32). لكن بعض العلماء أجازوا للمسلم الحديث عن نفسه وتزكيتها في مواطن معينة؛ قال الإمام النووي رحمه الله:

" اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان: مذموم  ومحبوب .
فالمذمومُ : أن يذكرَه للافتخار ، وإظهار الارتفاع ، والتميّز على الأقران ، وشبه ذلك.
والمحبوبُ : أن يكونَ فيه مصلحة دينية ، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف ، أو ناهياً عن منكر ، أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة ، أو معلماً ، أو مؤدباً ، أو واعظاً ، أو مذكِّراً ، أو مُصلحاً بين اثنين ، أو يَدفعُ عن نفسه شرّا ، أو نحو ذلك ، فيذكر محاسنَه ، ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره ، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به ، أو نحو ذلك .
وقد جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص ، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( أنا النَّبِي لا كَذِبْ ) ، ( أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم ) ، ( أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ ) ، ( أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتْقاكُمْ ) ، ( إني أبِيتُ عنْدَ ربي ) ، وأشباهه كثيرة
وقال يوسف صلى الله عليه وسلم: (اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ)  وقال شعيب صلى الله عليه وسلم: (سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِين) .[1]

وهكذا، فيما عدا الضرورة، يجمل بالمسلم أن يجتنب الكلام المعبر عن مدح النفس والعجب والافتخار، لأن وقعه سيء وثقيل في نفوس المستمعين، كما قد يدفع بصاحبه إلى الكذب. قال عبد الله بن المقفع:
" وإن أنِسْت من نفسِك فضلاً، فتحرّج من أن تذكُره أو تُبدِيَه، واعلم أنّ ظهوره منك بذلك الوجه يقرّر لك في قلوب النّاس من العيب أكثرَ ممّا يقرّر لك من الفضل.

واعلمْ أنّك إن صبرت ولم تعجل، ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند النّاس" [2]

 

  • احترام مشاعر الناس:


لقد جاء الإسلام بمكارم الأخلاق والآداب، بحيث لم يترك فضيلة من

الفضائل إلا دعا إليها ورغب فيها، ونهى عن الرذائل وأمر باجتنابها. ولسان الإنسان سلاح ذو حدين؛ إما أن يستعمله في الخير وإلا استعمله في الشر. وليس أشق عليه من ضبط  كلامه وألفاظه والتحكم في لسانه. فكم من فم لا يصدر عنه إلا الكلام الحسن الحلو كأن صاحبه مجبول على ذلك، كما أن أصحاب الألسنة البذيئة لا يخلو منها زمان ولا مكان.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ" (رواه الترمذي). ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حسن مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم. كيف لا وهو المخاطب بقوله تعالى ؛ "وإنك لعلى خلق عظيم" (سورة نون آية 4). وسار الصحابة الأخيار ومن تبعهم على نهجه وسبيله، فكانوا أعلاما يقتدى بهم. ولعمري كيف يطيب لمتحدث وسط جماعة من الناس أن يسخر من بعضهم أو ينتقص من قدره، أو يمن عليه مذكرا إياه بخير ساقه إليه في يوم ما، وما إلى ذلك..؟
قال العلامة محمد بن القيم: "ومنهم من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه؛ فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم؛ فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه، وفرحه به، فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس!وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها، ولا جرها على الأرض"[3].

والخلاصة أن الذي يجالس الناس ولا يحترم مشاعرهم، قد يكون شخصا خسيسا ردئ المعدن، مريض القلب، قد انطوى باطنه على ألوان من الصفات المذمومة كالحقد والحسد والكبر وحب الظهور.

  • حسن الاستماع للمتحدث:


إن من العادات السيئة التي يمكن ملاحظتها في كثير المجالس؛ قلة الإصغاء للمتحدث، حيث تجد المستمع لا يحفل بكلام من يحدثه. وقد تخاله، وهو ينظرإليه، مصغيا لما يقول، في حين أن قلبه في غفلة تامة من ذلك. ولو سألته:  ماذا قال محدثك؟ لسكت. بل يتعدى الأمر أحيانا إلى سلوكات تنم عن سوء الأدب وقلة المروءة؛ منها محاولة المستمع قطع كلام المتحدث، أو الاشتغال عنه بالنظر في كتاب أو جريدة، أو الإكثار من إجالة النظر في فضاء المجلس، ومنها كلامه، بين الفينة والأخرى، مع جليس عن يمينه أو يساره... وكل هذا مما يؤذي المتحدث ويؤثر سلبا في نفسيته.

ومما لا شك فيه أن هذا الإنسان الذي لا يحسن الاستماع والإصغاء، لن يحسن الكلام والحديث. ذلك أن السداد في القول والخطاب متوقف على البراعة والاجتهاد في الإصغاء. ولذا قد تجد المستمع، عندما يأخذ الكلمة، يخوض في موضوع غير موضوع المتحدث، ويسلك شعابا وأودية لا صلة لها بأرض الموضوع، مما قد يعرضه للسخرية من طرف الحاضرين.

قال الحسن البصري رضي الله عنه: "إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، ولا تقطع على أحد حديثه"[4]

ومما لا شك فيه أن رسولنا صلى الله عليه وسلما كان مثالا حيا وراقيا للإنسان المستمع والمصغي لمن يكلمه ولو كان غلاما أو طفلا. وهذا ما يجده الباحث مبثوثا في كتب السيرة النبوية، وفي أقوال الصحابة والتابعين، وفي أمهات الكتب الأخلاقية في التراث الإسلامي.

 

[1] -  الإمام النووي؛ "الأذكار"، ص 246.

[2] -  عبد الله بن المقفع؛ "الدب الصغير والأدب الكبير"، ص 135.

[3] -  محمد بن القيم؛ "بدائع الفوائد" /2-274.

[4] - أبو بكر محمد السامري الخرائطي؛ "المنتقى من مكارم الأخلاق ومعاليها"، ص155.

 

د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف، مكة المكرمة، محرم 1436/ نوفمبر2014.

إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. بارك الله في علمك أستاذنا الفاضل

    ردحذف
  2. ذات النطاقين6 أغسطس 2016 في 5:08 ص

    كم نحن في حاجة ماسة الى التذكير بمثل هذه الاخلاق التي باتت منعدمة قي سلوكاتنا.فحبذا لو نذكر بها بعضنا البعض من حين لاخر.وهذه المقالات تحيي قلوبنا وتريحها.نسال الله العلي العظيم ان يجعلها في ميزان حسناتك.

    ردحذف