مهاجر مغربي في بلجيكا





في هذا اليوم ( فاتح محرم 1430هـ/ 26 دجنبر 2008)، كنت على موعد مع السيد محمد آيت علي؛ وهو من الأصدقاء  الذين تعرفت إليهم في السنوات الأخيرة من سبعينيات القرن العشرين الميلادي، حيث جمعتنا الدراسة الجامعية في مدينة فاس.


سافر إلى بلجيكا لمتابعة الدراسات العليا في الاقتصاد. وبعد بضع سنوات، ولج ميدان العمل، كما يقع لكثير من الطلبة العرب والأفارقة في بلدان أوروبا. إنه الآن يزاول تدريس مادة الإسلام في ثانوية بمدينة شارل لوغوا جنوب بلجيكا.


سألته متعجبا: " كيف يدرس الإسلام للتلاميذ في بلد مسيحي؟".


 فقال: "ليس هناك ما يدعو للعجب، وهل تظن أنه بلدا علمانيا يعلم أبناءه ديننا، والعداوة الدينية مستحكمة، وقائمة بيننا وبينهم إلى يوم القيامة؟. والحقيقة أنه؛ على إثر زيارة قام بها ملك المملكة العربية السعودية، أو أحد أمرائها لبروكسيل، أيام أزمة البترول الأولى سنة 1973، وبعد إبرام اتفاقية بين الحكومتين، طلب هذا الملك أو الأمير من رئيس حكومة بلجيكا، أن يدرس الإسلام لأبناء الجالية الإسلامية في بلجيكا. فصدر ظهير ملكي بلجيكي ينص على هذا الشأن".


ثم سألته: "حدثني كيف كان موقف البلجيكيين بعد صدور الظهير؟" فقال: "لقد ثارت ثائرتهم، واستنكروا ذلك، وطفقت الصحف ووسائل الإعلام تنتقد وتتهكم".


"وماذا عن مضمون هذه  المادة وعدد ساعاتها؟"


فأجاب: "يا صديقي إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد إيهام أو دغدغة لعواطف المهاجرين والمسؤولين العرب. إن هذه المادة تندرج في إطار مادة الأخلاق والأديان. فعلى التلميذ، عندما يصل إلى السنة الخامسة أي ما قبل سنة الباكالوريا، أن يختار ما بين الأخلاق والأديان. فأما الأخلاق فيدرسون فيها بعض النظريات العلمانية؛ كنظرية التطور الداروينية، ونظريات أخلاقية فلسفية. وأما الأديان فيطلب من التلميذ أن يختار ما بين الكاثوليكية والأرثوذوكسية و البروتستانتية والعبرية والإسلام. وقد خصصت وزارة التربية والتعليم لهذه المادة ساعتين أسبوعيا، خلال السنتين الخامسة والسادسة (الباكالوريا) من التعليم الثانوي. ومما يلفت نظري أن معظم أبناء المهاجرين العرب، يفضلون مادة الأخلاق العلمانية، ولا يرغبون في مادة الإسلام. بل من المفارقات العجيبة أن تجد كثيرا من التلاميذ البلجيكيين المسيحيين يقبلون عليها، الأمر الذي استرعى انتباه المسؤولين في بعض الثانويات البلجيكية. وهذه الظاهرة بدأت تنمو بعد أحداث  11 سبتمبر 2001 بنيويورك. ثم زاد اطرادها ونموها، على إثر الهجمات الدانمركية على شخصية رسولنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وقبل سنتين، كان في قسم السنة الخامسة ثانوي بالمؤسسة التي أدرس فيها اثنا عشر تلميذا بلجيكيا من أصول مسيحية، وجلهم أبناء أطر؛ أطباء أو مهندسين... أو أرباب الشركات. وإنه لمما يثير الحيرة والاستغراب أن يقبل هؤلاء التلاميذ المسيحيون على ما يزهد فيه ويعرض عنه أبناء جاليتنا المسلمة.


أما عن مضمون مادة الإسلام، فإنه يشتمل على المحاور الأساسية التي تعرف بالدين الإسلامي؛ من توحيد وصلاة وصيام وزكاة وحج. لكن يطلب مني كمدرس ومن باقي  المدرسين العرب، أن يكون شرح هذه المحاور بطريقة عقلية وفلسفية. كما هو الشأن عندما يكون أستاذ مادة الفلسفة يلقي عرضا أو درسا يتعلق بعقيدة أو فلسفة ما. وبعبارة أخرى، ينبغي على  مدرس هذه المادة؛ وهو عربي مسلم ألا يبرز ذاته وعاطفته الدينية، بحيث قد يؤدي ذلك إلى التأثير في التلاميذ وجعلهم يهتمون بالإسلام، أو يميلون إليه. وفي هذا الصدد، ما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي انتقدني ولامني فيه مدير الثانوية، عندما انتهى إلى علمه أنني قرأت مرة سورة الفاتحة على التلاميذ باللغة العربية، قبل ترجمتها وشرحها. فقد قامت قيامته، وقال لي بلهجة صارمة: لا تستعمل العربية في درسك ولو كلمة واحدة؟


وبالمناسبة تذكرت كلاما نطق به عمدة بروكسيل السابق حيث قال: "مادمت أسمع مغربيا يتكلم العربية أو الدارجة المغربية فإن الخطر ما زال قائما؟؟"


 ثم إن المسؤولين في المدارس والثانويات يمنعون التلاميذ ذوي الأصول المغاربية من الكلام بالدارجة المغربية أو العربية داخل القسم. وإن هذا نادر ما يقع، لأن جل هؤلاء التلاميذ يتواصلون فيما بينهم بالفرنسية داخل القسم وخارجه، وفي كل مكان، بما في ذلك بيوتهم؛ حيث يخاطبون إخوتهم وآباءهم وأمهاتهم بالفرنسية أيضا. فبادرته قائلا: "ألا يدل هذا على نوع من الذوبان والانسلاخ من الهوية العربية الإسلامية؟"


فأجابني: "نعم إنه الذوبان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ذوبان في الحياة البلجيكية لغة وثقافة وسلوكا، وانسلاخ تدريجي من الهوية العربية و الدينية. ذلك الانسلاخ الذي يتجلى في عدم ممارسة الشعائر الإسلامية، والاستهانة بها؛ كالصلاة والصيام. فقلما تعثر على شاب من الجيل الثاني، أو فتى من الجيل الثالث يحافظ على صلاته وصيامه. وأظن أن هذه الشعائر والمظاهر الدينية آيلة نحو الاندثار والتلاشي، في أوساط الأسر ذات الأصول المغاربية أو التركية...


قبل قليل أشرت في كلامك إلى أثر "شهود يهو" في صفوف بعض المراهقين والشباب.


هلا حدثتني بشيء من التفصيل عن هذا الأمر؟


نعم، إن المسلمين المهاجرين في أوروبا، من بين المستهدفين الأساسيين من قبل المنصرين وأصحاب عقيدة "شهود يهو"، حيث يطرقون أبوابهم في أيام الآحاد، ويحدثونهم في موضوع الإيمان بالله محاولين إقناعهم بما يعتقدونه من تصورات عقدية باطلة. ورغم أن الجهود التي يبذلونها في سبيل هذه الدعوة غالبا ما تذهب سدى، فإن ذلك لم يثنهم عن عزمهم، إذ أنهم يقنعون فقط ببث الشكوك في عقيدة  هؤلاء المهاجرين. أما الظفر بتنصير أحدهم، أو جلبة إلى حظيرة "شهود يهو" فتتلك أمنية غالية!!


بيد أن صبرهم، وحزمهم، ومثابرتهم، وأخذهم للأمر عدته، جعلهم ينالون ويحققون بعض ما كانوا يحلمون به. فقلت له: وماذا حققوا؟


فقال، وهو يتنفس بملء رئتيه من شدة الأسف والتأثر:


"لقد زارني في السنوات الأخيرة بعض أتباع "شهود يهو". وكان بينهم  أشخاص من أصول مغاربية، إنهم شباب تحولوا من دين الإسلام إلى هذه العقيدة الفاسدة !! وعددهم في ازدياد. ولقد سر بهم أساتذتهم الدجالون سرورا كبيرا لكونهم يمثلون أحسن رسل للعقيدة الجديدة لدى إخوانهم وأسرهم؟!"


هذا  يا صديقي عبد الله، ما حضرني من ألوان المآسي والكوارث التي لحق بالمهاجرين المسلمين، وأبنائهم وأحفادهم في هذا البلد الأوربي. ولقد صدق الفقيه الداعية أبو بكر الجزائري  عندما سأله بعض المهاجرين عن حكم الإسلام في الإقامة ببلاد النصارى، فأجاب بأنها إقامة محرمة لاسيما إذا كان المهاجر المسلم لا يأمن على نفسه وأولاده الفتنة في الدين. ومن يأمنها  منا في بلد الغربة بين ظهراني النصارى المشركين؟!


د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/جامعة القرويين، تطوان المغرب، فاتح محرم 1430هـ/ 26 دجنبر 2008.

إرسال تعليق

2 تعليقات