علاقة الاستغراب بالتنصير


إن ظاهرة الاستغراب التي تجلت في الثقافة العربية الحديثة على اختلاف ألوانها وأشكالها، أفرزتها عوامل داخلية مرتبطة بالذات العربية فكرا ومجتمعا، وعوامل خارجية متعلقة بالغرب وحضارته ومؤسساته. لكن قد يقول قائل: ما علاقة الاستغراب بالتنصير؟ أو كيف يكون هذا الأخير الذي هو دعوة إلى النصرانية، سببا من أسباب نشأة الاستغراب، الذي من خصائصه النزوع نحو الحداثة والعلمانية في التفكير والممارسة؟! أو بعبارة أخرى؛ إذا كانت أوربا حريصة كل الحرص على تعميق أسس التوجيهات الإلحادية واللادينية في بنياتها الاجتماعية والسياسة والثقافية، فلماذا تبنت وأيدت حركات التنصير منذ زمن ليس بالقصير؟ ولماذا لا تزال إلى الآن تقدم الإمدادات والإمكانات لنجاح تلك الحركات؟.


في الواقع ليس في هذه السياسة المنطوية على هذا التناقض الصارخ ما يدعو للعجب، إذا كنا جميعا نعلم أن الوصول إلى الأهداف المرسومة عبر التناقضات، يشكل جانبا جوهريا في طبيعة النظام الرأسمالي. وهكذا، انطلاقا من  المنطق المكيافيلي، اقتنع الغرب بالدور الذي يمكن أن يقوم به التنصير في عملية تخدير الشعوب وإخضاعها لسلطته، وبادر بتعبئة رجال الكنيسة وإعداد الجنود المنصرين، وإنشاء المؤسسات وتنظيم البعثات والإرساليات التنصيرية إلى البلدان المستهدفة.


في البداية لم تستعمل أوربا منطق القوة في إخضاع الشعوب الضعيفة، وإنما مهدت لاستعمارها بالطرق " السلمية"، فكان التنصير أفضل تلك الطرق. إن هذه الطريقة الدينية، في الظاهر، برهنت قبيل الاستعمار وخلاله وبعده، على قوة هائلة في مجال اختراق المقومات الذاتية للشعوب التي خضعت للاستعمار، وتفكيك بنياتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وفي العمل على إذابة ذاتية هذه الشعوب في شخصية الرجل الغربي المستعمر، وبالتالي العمل على خلق أرضية الاستغراب.


لقد عمل المنصرون في المغرب وفي غيره من البلدان الإسلامية، على إظهار الرجل الغربي بمظهر الإنسان المتمدن والمتحضر، الذي يسعى إلى إخراج الناس من ظلمات الجهل والتأخر إلى نور العلم والتقدم. وجعلوا من أنفسهم مثالا على ذلك، فأسسوا المدارس لنشر التعليم، وبنوا المستشفيات والملاجئ، وعملوا على بث روح النصرانية في مؤسساتهم، وفي نفوس من يتعاملون معهم. هذا العمل الدؤوب من قبل المنصرين، جعل من الرجل الغربي السيد القوي والإيجابي، ورجل العصر الذي لا غنى لأحد عنه.


ومن ناحية أخرى، فإن لعمل المنصرين تأثيرا خطيرا في نفسية الأشخاص المستهدفين وخاصة فيما يتعلق بقواهم الذاتية، ذلك أن مبادرة المنصرين إلى بناء المدارس والمستشفيات إلى غير ذلك، ينتج عنه إضعاف أو عرقلة القوة الذاتية للمغاربة ولغيرهم من الشعوب الإسلامية، فتضعف لديهم المبادرة الشخصية، وإرادة التغيير والبناء ويصيبهم نوع من الشلل النفسي. وإذا أضيف إلى هذا كله ما قام به المنصرون في مؤسساتهم التعليمية، وفي كتاباتهم، وسائر أنشطتهم من هجوم على التاريخ الإسلامي، الذي أظهروه بمظهر العنف والوحشية والصراع، تبين مدى الجهود التي حشرها الأوربيون في شخص المنصر، ليعمل على استمالة الرجل المستهدف، بعد تجريده من كل المقومات.


وتجدر الإشارة من جديد، إلى أن أوربا خصوصا منذ مطلع القرن التاسع عشر، لم تكن تسعى، عن طريق التنصير، إلى تنصير المسلمين وإدخالهم في المسيحية، بقدر ما كانت تهدف إلى زعزعة عقائدهم ليسهل عليها استدراجهم وجعلهم تحت سلطتها. إن المنصرين الذين يجوبون البلدان الإسلامية حاليا، لا يطمعون في أن يعتنق أحد المسلمين المسيحية، لعلمهم بكراهية المسلمين الشديدة لدين الكنيسة، وإنما يعملون على استقطاب الشباب وإغرائهم بالأموال ووسائل أخرى جذابة، ثم إخضاعهم لعميلة أشبه ما تكون بعملية غسل الدماغ، حيث يوجهون عقولهم توجيها خاصا، بعد أن يوحوا إليها بأفكار تهدف إلى التحلل من الدين والتقاليد والأعراف، وسلوك مسلك الحرية والإباحية. ويأملون بعد ذلك في أن يكون أفراد هذه العينات نماذج لغيرهم، ويفتتن بهم أصحاب العقول الضعيفة من الشباب. قال زويمر[1] في المؤتمر التبشيري بالقاهرة سنة 1906: " لا ينبغي للمبشر المسيحي أن يفشل أو ييأس ويقنط، عندما يرى أن مساعيه لم تثمر في جلب كثير من المسلمين إلى المسيحية، لكنه يكفي جعل الإسلام يخسر المسلمين بذبذبة بعضهم، عندما تذبذب مسلما وتجعل الإسلام يخسره تعتبر ناجحا أيها المبشر المسيحي، ويكفي أن تذبذبه ولو لم يصبح هذا المسلم مسيحيا"[2].


إن العمل التنصيري بهذه الممارسة الخبيثة، يعمل على إبقاء المغاربة وغيرهم من المستهدفين داخل دائرة التخلف والتبعية، كما يمكن من جانب آخر، لسيادة الغرب وهيمنته الثقافية، ويظل التنصير أيضا شكلا من أشكال التحديات الغربية الموجهة تجاه المسلمين، لجعلهم يتدرجون في الأخذ بأساليب حياة الغرب وقيمه، مما نتج عنه ارتجاج وخلخلة في بنية مجتمعاتهم، حيث حلت العادات والتقاليد الغربية المنحرفة، محل العادات والتقاليد الإسلامية الضابطة لسلوك المسلم، واستعيض عن الثقافة الإسلامية المتينة بثقافة الغرب الخادعة، بدعوى أن الأولى تخلفت عن الركب ولم تواكب تطور العصر. في حين أن الثانية تجسد واقع العصر وتستشرف مستقبله. وهكذا انخدع جماعة من المستغربين بثقافة المستعمر الغاشم، واستلبوا حضاريا وثقافيا وسقطوا في أسر الحضارة الغازية.


لقد أدرك المستعمر أهمية " الإنجيل الاجتماعي" ودوره في إضعاف هوية المجتمعات الإفريقية الآسيوية وتهميش عاداتها وتقاليدها، فشجع عمليات التنصير وأنفق الأموال الطائلة على إنشاء المؤسسات، والمصالح الاجتماعية المتعلقة به. وبما أن الضعيف مولع بتقليد القوي كما يقول ابن خلدون، فإن كثيرا من أفراد المجتمعات التي أصيبت بنكبة الاستعمار، شرعوا تدريجيا في التأثر بالمستوطنين وبالنشاط التنصيري الذي يستهدفهم، وبدأوا ينبذون، أو على الأقل يحتقرون عاداتهم وتقاليدهم ويعظمون عادات النصارى. ولا يتسع المجال هنا لذكر أنواع العادات الدخيلة المستوردة، ولعل الاحتفال برأس السنة الميلادية في البلدان الإسلامية أحسن دليل على ذلك.


يستنتج مما سبق أن الحركات التنصيرية كان لها دور حاسم في خلق ظاهرة الاستغراب في المجتمعات الإسلامية، حيث ترعرعت تحت عيون المنصرين فآت اجتماعية أفرزت عددا من المستغربين، كان من بينهم كثير من المسؤولين، أصحاب المناصب العليا، والكتاب، وكثير من أهل الفن والتجارة،  ومن البورجوازيين، وهذا لا يعني أن الاستغراب لم يغز الطبقات الاجتماعية الأخرى، لكنه كان أشد ظهورا وتمثلا في فآت المسؤولين وأشباه المثقفين، وأفراد الطبقة البرجوازية.









[1] - صموئيل زويمر من أكابر قادة التنصير الإنجليزي في الشرق الإسلامي أثناء الحكم الاستعماري البريطاني في أوائل هذا القرن.





[2] - د. علي جريشة " الاتجاهات الفكرية المعاصرة" دار الوفاء للطباعة والنشر المنصورة 1986 ص: 30.


د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/جامعة القرويين- تطوان المغرب. جمادى الأولى 1434/ مارس 2013




إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. اشرف الخباز29 مارس 2013 في 2:18 م

    و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين ...مهما فعلوا سينقلب السحر على الساحر و سيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون

    ردحذف
  2. أستادي الفاضل نشكرك على هذه التغريدة،
    مهما يكن، فلن تجد دعوتهم هاته طريقا معبدا في أوساط المجتمعات الإسلامية التي ذاقت نعمة الإسلام والإيمان، ما دام فيها أمثالك وأمثال خالد مشعل ومحمد مرسي و..........
    فديننا دين يقين ودينهم دين شك فاتركهم في شكهم يهمعون الى أن يصلوا الى حقيقة مفادها أن الإسلام دين حق. فكل هذه الحركات مجدية في الحياة، فهي تدفع كل مسلم غيور أن يتحرك

    ردحذف