مشهد من حياة الطفولة

 



نشأت في منزل صغير يشتمل على ثلاث حجرات بحي يدعى باب السعيدة، وهو أحد الأبواب المقامة على السور المحيط بمدينة تطوان القديمة. وكان هذا الحي كغيره من الأحياء التي بدأت تتولد خارج أسوار المدن العتيقة بالمغرب؛ مثل فاس، ومكناس، ومراكش، وسلا، وطنجة، وآسفي وغيرها، وذلك بعد مجيء الاستعمار. بيد أن هذا النمط من العمران في نهاية الخمسينيات؛ أي في السنوات الأولى من طفولتي، كانت تعلوه مسحة من الجمال الرومانسي، حيث أن الدور المتناثرة هنا وهناك، تحسبها في فصل الربيع قطعا من الأحجار الكريمة الملقاة فوق بساط أخضر. ثم إن معظم المنازل المشيدة وقتئد تجدها إما قائمة وسط بستان صغير، أو مشرفة من الجهة الأمامية أو الخلفية على حديقة صغيرة غاية في الجمال والبساطة كما هو الشأن بالنسبة للمنزل الذي نشأت فيه. والحقيقة أن أهل تطوان، كغيرهم من أهالي المدن التي تربطهم بالأندلس روابط النسب والتاريخ والحضارة، كانوا منذ سقوط غرناطة وإلى حدود العقدين الأول والثاني من الاستقلال السياسي، يحافظون بعناية فائقة على ماتبقى من إرثهم الأندلسي، لاسيما فيما يتعلق ببعض العادات والتقاليد الاجتماعية، وبالمأكل والملبس وشكل البناء وأسلوب التأثيث المنزلي. ولقد كان من لطائف الأقدار أن قضيت سنواتي الأولى حتى سن البلوغ، في هذا الجو المفعم بنسمات البقية الباقية من حضارة سادت ثم بادت.


 ومع حلول السبعينيات، اشتد لهيب آلة التغريب وذلك على يد المستغربين الذين تسلموا معاولها من المستعمرين، فتغيرت معالم المجتمع المغربي، وأصاب التغريب النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كلها، وظهر الجيل الجديد الذي ولى وجهه شطر أوربا، وتعلق بالجانب المتفسخ من ثقافتها وحياتها، فانمحى ما كان قد تبقى من شهامة الرجل المغربي ومروءته، وأودعت الثقافة الأندلسية و الثقافة المغربية الأصيلة في المتاحف. واستعيض عنها بالثقافة السياحية الفلكلورية التي تلبي رغبة السائح !! تلك الثقافة القائمة على الميوعة والخلاعة من خلال الحفلات الفلكلورية والسهرات الفنية حيث يكثر الغناء والرقص، كما ينسب إلى هذه الثقافة ما يسمى بإحياء مواسم الأولياء والاهتمام بأضرحتهم، إلى غير ذلك من فنون الشعوذة والدجل والبلاهة. ولعلي لا أعدو الحقيقة إذا قلت بأن الفلكلور بصورته الحالية يعبر عن المظهر الجامد والمشوه لجانب من تراثنا الثقافي؛ ذلك أن المستعمر عمل، بما أوتي من دهاء ومكر، على مسخ تراثنا، كما حاول إقناعنا بأن هذا التراث لا مصير له إلا متاحف التاريخ، وهكذا تم تحويله إلى إرث تاريخي نفتخر به ونتغنى بأمجاده، ونختار منه النماذج الفلكلورية التي تكرس النظرة الغربية.


 وعلى مسافة بضعة أمتار من المنزل، يوجد فدان السيد اللبادي ، ذلك المكان الفسيح المخضر حيث كان يحلو لي أن ألعب وأركض مع إخوتي عبد الوهاب وزبيدة ورشيدة وحورية، وكثيرا ما كان يشاركنا في لعبنا بنات عمنا رحمه الله وبعض أطفال الحي مثل أولاد الفقيه العربي اللوه وأولاد محمد الريسوني، وكذا أولاد محمد الصفار ومحمد الفخار… ولم نكن نفزع كفزعنا يوم نرى السيد اللبادي صاحب الفدان، وهو متجه نحونا يطاردنا كي يبعدنا عن ضيعته خاصة عندما يكون الزرع قد نما والسنابل قد أينعت.


وكم كنت أشعر بالسعادة والفرح، وقد أرهقت بدني باللعب، لما يحملني أبي على ذراعه اليمنى فور رجوعه من العمل زوالا أو قبيل الغروب. لقد كان رحمه الله دباغا يعمل في دباغة الجلود، تلك الحرفة التي ورثها عن أبيه وجده، بل مارسها أجدادي في هذه المدينة ما يقرب من ثلاثة قرون. فكان يقضي يومه متنقلا بين المكان الذي توجد فيه صهاريج الدباغة، والدكان الذي يبيع فيه الجلود المدبوغة. ولم يكن عمله يمنعه من قراءة كتب الفقه والحديث، أو الاستماع إلى دروس بعض فقهاء المدينة، مثل الفقيه محمد الفرطاخ، أو أحمد الرهوني، أو الفقيه الداعية تقي الدين الهلالي رحمهم الله أجمعين.


د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب/ غرة رجب 1433/ماي 2012.

إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. شكرا لك استاد لقد رجعت بنا الى الوراء وعشنا معك لحظات الطفولة تفكرنا في طفولتنا كانت فعلا ممملؤة بالسعادة جزاك الله خيرا عنا مزيد من العطاء في هذه المدونة الشيقة التي تحظى باهتمام كبير لدى الممتبعين وطلاب العلم

    ردحذف
  2. هذه يطلق عليها الان باب العقلة او لا

    ردحذف