ثقافة الاستغراب



 

إن قراءة خاطفة في عناوين الإنتاج الأدبي، ومقالات الصحف والمجلات والدوريات، منذ مطلع الاستقلال إلى الآن، تمكننا من الإطلاع على ترعرع تيار الاستغراب الثقافي، ومسيرته التي قطعها، إلى أن اشتد عوده واستحكمت في الأرض جذوره. إن جيل ما قبل الاستقلال كان يؤمن بمبادئ وقيم ثقافية روحية، غير المبادئ والقيم التي آمن بها جيل الاستقلال. لقد كان الأول يؤمن بالحماس الوطني والمسؤولية والتضحية في سبيل الدين واللغة والأرض، بماله ودمه، وظل يكافح إلى أن طرد المستعمر عن أرضه. في حين نلمس في جيل ما بعد الاستقلال تحولا سلبيا وخطيرا في القيم الثقافية والروحية. تحول في اتجاه الاستلاب، والتبعية واللهاث وراء ثقافة فرنسا، وغيرها، مما أدى إلى ظهور كتابات وأعمال ثقافية تتمحور حول الإنسان الغربي، فكرا وسلوكا وثقافة وحضارة. وهكذا مدحت ومجدت الاختيارات السياسية والاقتصادية بشقيها الليبرالي والاشتراكي.
ولكم يطيب ويحلو لكثير من الدارسين تعليل وجود هذه الثقافة بعوامل خارجية، حيث يرون أن هذا النوع الجديد من الثقافة الذي أصبح سائدا، أي هذه القيم الجديدة التي نلاحظ وجودها في المجتمع المغربي الحديث، يمكن ردها في نظرهم إلى أسباب في مقدمتها هيمنة النظامين العالميين اللذين أصبحا مفروضين علينا؛ وهما وهما النظامالاقتصادي والنظام الإعلامي.

هذا تعليل صحيح، لكنه يتضمن نصف الحقيقة، أما النصف الآخر والأهم فإنه مغيب؛ إنه العامل الداخلي المسؤول الأساسي عن التبعية والوقوع في قفص النظامين الاقتصادي والإعلامي وغيرهما. لقد غاب عن هؤلاء الدارسين العامل الداخلي المتجلي في الاستغراب والانبهار بالإنسان الغربي، ذلك العامل الناتج عن الانحراف العقدي والثقافي، الذي أصاب المجتمع المغربي والأمة الإسلامية جمعاء.

ومن ناحية أخرى يمكن الحديث عن الثقافة السياحية كمظهر آخر من مظاهر الاستغراب الثقافي عندنا، إنها ثقافة تقوم أساسا على الميوعة والخلاعة من خلال الحفلات الفلكلورية والسهرات “الفنية”؛ حيث يكثر الرقص وما إلى ذلك. كما ينسب إلى هذه الثقافة ما يسمى بإحياء مواسم الأولياء، والاهتمام بأضرحة الأقطاب والصالحين، إلى غير ذلك من فنون الشعوذة والتدجيل والبلاهة وتنويم العقل وتخديره.
لماذا تقوم جهات مسؤولة بالإشراف على هذه الحفلات والمواسم؟ أليس الهدف الرئيسي من وراء ذلك شد أنظار السائح الأجنبي وتثبيت صورته الفلكلورية التي يحملها في ذهنه عن المغرب؟ ثم إرضاء رغبته في الاطلاع عن أنواع وعجائب العادات والتقاليد المنتشرة في الجبال والوديان عند أهالي البربر؟
أما كان لهذه الجهود أن تصرف في تشجيع وتنمية ثقافة ذاتية بدل بذلها في إنتاج ثقافة مائعة سخيفة ومبتذلة؟
ولعي لا أعدو الحقيقة إذا قلت بان الفلكلور بصورته الحالية يعبر عن المظهر الجامد والمشوه لجانب من تراثنا الثقافي. ذلك أن المستعمر عمل – بكل ما أوتى من دهاء ومكر – على مسخ تراثنا، كما حاولنا إقناعنا بأن التراث لا مصير له إلا متاحف التاريخ، وهكذا تم تحويله إلى مجرد إرث تاريخي نفتخر به ونغتني بأمجاده، ونختار منه النماذج الفلكلورية التي تكرس النظرة الغربية.

د. عبد الله الشارف
أثر الاستغراب في التربية والتعليم بالمغرب، ألطوبريس، طنجة 2000.

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. السلام عليكم
    أرجو أن تكون بخير..أستاذي
    هلا اطلعت على هذا الكتاب وأبديت رأيك فيه.. فقد تعددت فصوله بشكل كبير..كتاب "سؤال الاستغراب" متوفر الآن بصيغة Pdf على موقع مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث القطرية . تقبل الله منا ومنكم .
    http://wa3efoundation.net/…/%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84_%D8%A7…#!

    ردحذف