مدخل إلى الاستغراب

مقدمة



لا أحد يشك في أن تفاعل الحضارات يعتبر خاصية أساسية من خواص الحضارة الإنسانية، ويعبر عن الطبيعة التلقائية للحركة والعلاقات الاجتماعية بين مختلف المجتمعات البشرية . وللتفاعل الحضاري أسباب وعوامل شتى؛ أهمها الغزوات والفتوحات، والعلاقات التجارية وتبادل الخبرات المادية والمعنوية. ثم إن الأشياء والإنتاجات المادية والوسائل التقنية غالبا ماتكون أسرع انتقالا من الأفكار والعقائد والملل. ويلاحظ دارسو الحضارات أن قوة تأثر حضارة بحضارة ما، يتعلق بموقف إحداهما من الأخرى. فإذا كان الموقف يعبر عن نوع من الندية، كان التأثير المتبادل قائما على التوازن السليم. في حين إذا كان الموقف موقف إعجاب وانبهار من طرف إزاء طرف آخر، كان التأثر سريعا وعميقا من قبل الطرف الأول، قد يصل أحيانا إلى حد الذوبان.
ولعل العلاقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، خير دليل مجسد لموقف الإعجاب والانبهار. ولقد تدرجت الشعوب الإسلامية -على طول هذه الفترة- في الانغماس في الحضارة الغربية والتأثر بقيمها وعاداتها، كما سعت طبقة المترفين وأنصاف المثقفين من المعجبين بأوربا، جيلا بعد جيل، إلى تحويل مجتمعها إلى مجتمع تابع للغرب ، ولم تأل جهدا في الدعوة إلى التغريب.
وكان الاستعمار السياسي والعسكري للبلاد الإسلامية عاملا في تحريك عجلة الاستغراب والدفع بها إلى الأمام. فما أن انتصف القرن التاسع عشرالميلادي، حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيدا للغرب الأوربي وخولا له. فلما استيقظ المسلمون على إثر ضربات العدو المتوالية وصحوا من سكرهم، شرعوا في البحث عن الأسباب التي مكنت العدو من رقابهم وغلبت عليهم الأوربيين. غير أن ميزان الفكر كان مختلا أشد ما يكون الاختلال، وقد تجلى هذا الاختلال في أن شعورهم وإحساسهم بالذلة والهوان، كان يحثهم على تبديل حالتهم المزرية، لكن رغبتهم في الراحة وإيثارهم الدعة والارتخاء -من جانب آخر- حملهم على التماس أقرب الطرق والوسائل، وأسهلها لتغيير تلك الوضعية. وهكذا مال أولوا الأمر من الحكام ومن في حاشيتهم وعلى شاكلتهم، وكذا كثير ممن حمل راية الاصلاح من المفكرين والمثقفين، إلى محاكاة الغربيين في مظاهر تمدنهم وحضارتهم. ومن ثم لم تكن المحاكاة إلا الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن ترقى إلى استعمالها كل عقلية مرضية ومختلة.
إن هؤلاء الذين رفعوا لواء المحاكاة ومن تبعهم إلى الآن، يشكلون الجبهة الرابعة في الجبهات الأربع التي أنزلت الهزيمة بثقافتنا وبأصالتنا، وأبرزت ظاهرة الاستغراب. وأولى تلك الجبهات تتمثل في المنصرين الذين عملوا على غزونا بواسطة المدارس والمؤسسات التعليمية والخيرية وشتى الإعانات. ثم جبهة المستشرقين طلائع الاستعمار، وذلك بما يبثونه في كتبهم من سموم تستهدف الأمة الإسلامية وتراثها، بالاضافة إلى خدماتهم الجليلة للمستعمر. وثالثا جبهة المستعمرين المكشوفة خلال الاستعمار والمتسترة أو غير المباشرة بعد مجيء الاستقلال.
والجبهة الرابعة هي الجبهة الداخلية، جبهة منا وإلينا، عملت من حيث تدري أو لاتدري على تسهيل مهمة الغزو الاستعماري، بل منها من شارك المستعمر القديم ويشارك الغزاة المعاصرين في صرفنا عن أصولنا وجذورنا، بل وفي غسل أدمغتنا من كل ماله علاقة بماضينا وتوجيه قبلتنا نحو الغرب.
لقد سعت هذه الجبهة المستغربة ـ بكل ما أوتيت من وسائل ـإلى استيراد الثقافة الغربية، حتى أصبحت هذه الثقافة في ثقافتنا المعاصرة، ظاهرة تدعو للانتباه، وغدا العالم هو الذي له دراية بالتراث الغربي »وأصبح العلم نقلا والعالم مترجما والمفكر عارضا لبضاعة الغير «.
« فإذا بدأ التأليف، فإنه يكون أيضا عرضا لمادة مستقاة من الغرب حول موضوع ما، وإعادة ترتيبها، وكأن ما يقال عن الشئ هو الشئ نفسه، يكفي الجامع معرفته باللغات الأجنبية، وقدرته في الحصول على المصادر، وجهده وتعبه في الفهم والتحصيل، ووقته الذي وهبه للعلم، وهو لايعلم أنه واقع ضحية وهم أن العلم هو جمع المعلومات وليس قراءتها، أو استنباط علم جديد منها، أو معرفة كيفية نشأتها في بيئتها، أو التنظير المباشر لواقعه الخاص لينشئ منه علما جديدا يضاف إلى المعلومات القديمة(...) وكثرت الرسائل العلمية حول الموضوعات الغربية عرضا وتقديما للمذاهب والمناهج الغربية، حتى أصبحت مرادفة للعلم. فالعالم هو الحامل لها، المتحدث عنها، المؤلف فيها. كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول. وتكثر الدعاية بالرجوع إلى المصادر والمراجع بلغتها الأصلية، وكتابة المصطلحات بالافرنجية أمام المصطلحات العربية خوفا من سوء الاجتهاد، والشكوى من عدم طواعية اللغة العربية لمقتضيات المصطلحات الحديثة، وكثر تأليف الكتب الجامعية في المذاهب الغربية (...) وتنشأ المجلات الثقافية المتخصصة لنشرالثقافة الغربية، كما تقوم بذلك مراكز الأبحاث العلمية الغربية في البلاد. وتنتشر العلوم والأسماء الجديدة أمام شباب الباحثين فيشعرون بضآلتهم أمامها:
الهرمنيطيقا، السميوطيقا، الاستطيقا، الاسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الانثروبولوجيا، الترنسندنتالية. وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الابستيمة، أبوخية، الدياكرونية، السنكرونية..الخ. أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك، متأثرا بهذه الدراسة أو تلك (...) ثم ظهر في جيلنا "استغراب" مقلوب؛ بدلا من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه، رأى صورته في ذهن الآخر، بدلا من أن يرى الآخر في مرآة الأنا رأى الأنا في مرآة الآخر. ولما كان الآخر متعدد المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه، نبدأ بمرآة الآخر في صورة الأنا فيها، مثل "الشخصانية الإسلامية"، "الماركسية العربية" أو "النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية" أو "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي". ويمكن ان يستعار المنهج الغربي وحده بدلا من المذهب، وبالتالي يـدرس التراث بمنهج ماركسي أو بنيوي أو ظاهراتي أو تحليلي، يضحى بالموضوع في سبيل المنهج، وكأن الموضوع لايفرض منهجه من داخله، وكأن الحضارة التي ينتمي إليها الموضوع لامنهج لها. بل إنه يصعب في الفلسفة الأوربية ذاتها التفرقة بين المذهب والمنهج »[1][1].
ومن ناحية العامل النفسي في نشوء ظاهرة الاستغراب، يمكن القول إن البون الشاسع على المستوى العلمي والتكنولوجي والثقافي، بين المجتمع المغربي والمجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان له التأثير العميق في نفس الرجل المغربي، وهو يلاحظ عجزه أمام قوة الغازي المستعمر المتسلح بكل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية. لقد فوجئ الرجل المغربي آنذاك وأخذ على غـرة، واكتشف أن مايملكه من عتاد وأدوات الانتاج وثقافة هزيلة، لايمكنه من الصمود أمام المستعمر الغاشم. في حين كانت ردود المغاربة ـ إذا استثني المجاهدون وبعض المصلحين ـ تتسم عموما بالطابع السلبي على اختلاف أنواعـه. إذ منهم من نظر إلى المسألة من زاوية "القضاء والقدر"، والتزم الصمت دون أن يسلم من المعاناة النفسية.ومنهم من انتسب إلى مختلف الطرق الصوفية ولاذ بالزوايا وعاش في عالم الطقوس والخرافات و"الكرامات". بهذه الوسيلة استطاع أن يخدر عقله "ويتعالى" عن واقعه، ويحلق في عالم "الملكوت". وبالنسبة له، ليس هناك استعمار أكبر من استعمارالنفس لصاحبها، فاشتغل باصلاح نفسه عن طريق الرقص وممارسة الشطحات الصوفية. والبعض الآخر انبهر بما حمله المستعمر من وسائل تكنولوجية، وأشياء حضارية راقية وثقافة متطورة، وأسلوب "رفيع" في الحياة. فلم يتمالك نفسه واندفع محاولا الاستفادة من هذا الجديد والإصابة منه. وهذه الفئة المنبهرة التي أصبحت أسيرة مستغربة، لم يتعامل أفرادها مع الاستعمار ومعطياته تعاملا واحدا، وإنما تنوع سلوكهم تجاهه بتنوع طبقاتهم الاجتماعية وظروفهم الخاصة. فبعضهم سلك في البداية سبيل التوفيق بين ثقافته وعاداته وثقافة المستعمر، لكنه في منتصف الطريق غالبا ماكان يميل إلى الثقافة الثانية، لقوة جذبها ولكون الانبهار قد حصل في الوهلة الأولى. ويمثل هذه الفئة مختلف شرائح الطبقة البورجوازية المغربية. وذلك أن هذه الطبقة ـ بعد أن أخد المستعمر بناصية الاقتصاد المغربي ـ أصبحت بين خيارين؛ إما أن تضحي بمصالحها المادية والطبقية فلا تتعامل مع اقتصاد المستعمر، وبالتالي تحافظ على ثقافتها ودينها وهويتها، وإما ان تظل في وضعيتها الطبيعية مع خضوعها للشروط الاقتصادية الجديدة. وفي أغلب الأحيان كانت تفضل الخيار الثاني.
ومع مرور الزمن وبفضل الاحتكاك مع المستعمر عن طريق البيع والشراء، وممارسة مختلف أنواع النشاط الاقتصادي، كان من الضروري أن يتأثر أسلوب حياة الفئة البورجوازية بأفكار المستعمر ونمط عيشه . وإقبال أبناء هذه الفئة، قبيل الاستقلال وبعده، على المدارس والمراكز الثفافية الفرنسية ثم الالتحاق بفرنسا، دليل من بين عشرات الأدلة على ذلك الذوبان.
وهناك عناصر داخل الفئة المنبهرة، ثارت بدافع من الفقر أو الجهل بمبادئ الإسلام، أو من الأمرين معا، في وجه التقاليد المغربية والدينـية والثقافـية والتراث، وعانقت ثقافة المستعمر وأحبت لغته، وعبرت من خلالها عن مشاعرها وآمالها. وهذه الفئة هي التي نذرت نفسها "عـن وعـي" لتكريس نفوذ المستعمر وثقافته ولغته. فكان منها كتاب وقصاصون وروائيون وغيرهم.
وتبوأ كثير منهم ومازالوا، مقاعد مهمة داخل مرافـق الدولة، خصوصا فيما يتعلق بالإدارة والثقافـة والتربيـة والتعليم. ومن ناحية أخرى لم يكن الاستغراب لينحصر في الفئة البورجوازية وأبنائها وفي الفئة المثقفة الثائرة فقط، وإنما سيعم المجتمع المغربي والمدني فيما بعد الاستقلال. هذا الاستغراب يتجسد في إقبال الناس على كل منتوج غربي،مادي أو معنوي، ولو كان مضرا ومتعارضا مع عاداتهم وتقاليدهم الدينية. فالناس في المدن يطربون للموسيقى الغربية، ويفتخرون باللباس الأوربي، ويتباهون بالسلوك الغربي المتحرر. باختصار إنهم يلمسون في باطنهم ميلا إلى اقتناء أو ممارسة كل مايأتي به الغرب، ميلا إلى تقليد الأوربيين إلا في العلم والمعرفة.
إن ظاهرة الاستغراب ولدتها عوامل اجتماعية وتاريخية قبل مجيء الاستعمار وبعده. لكن العامل النفسي قد يضطلع هو الآخر بدور أساسي، ويبدو أن الاستغراب سيظل مكرسا في كل مجتمع عاش زمنا تحت نير الاستعمار، مالم يصح من إغمائه الذي أصابه عندما داهمه المستعمر. لقد كان المغربي قبيل مجيء الاستعمار يعيش في وضعية متردية ومنحطة تشوبها الفوضى والصراعات القبلية، مع تفشي الجهل وضعف الإيمان والعقيدة، بالاضافة إلى وجود نوع من التقوقع على الذات، وعدم الانفتاح على العالم الأوربي الذي كان وقتئد على مستوى كبير من التطور والتقدم والقوة.فلما أصبح المستعمرأمام بابه وعاين قوته وعظمته، أصابته الحيرة ثم دخل عالم الإغماء النفسي، ولم يعد يملك ماكان قد تبقى له من قوة العقل والتمييز، فخارت قواه واستسلم للأمر الواقع.وبما أن الضعيف مولع بتقليد القوي كما يقول ابن خلدون، كان من المتوقع أن يسلك المجتمع المغربي سلوكا يناسب المجتمع الضعيف والمنهزم نفسيا.
ويبدو ان آثار الصدمة النفسية التي أصابت المغربي عند مجيء الاستعمار مازالت تنخر باطنه. إن ممارسته للاستغراب دليل على أنه مافتئ يعاني الإغماء النفسي أو "الدوار" الذي أصابه منذ مايقرب من قرن من الزمان، لأنه لايمكن أن يفسر تعلق وحب إنسان لإنسان آخر، يعلم الأول منهما أن الثاني وطئ أرضه، وداس كرامته وقتل آباءه وشرد أهله وعشيرته، ومازال يستعمره عن طريق الغزو الفكري، إلا بكون الإنسان الأول مستلبا وواقعا تحت تأثير نفسي خطير، وفاقدا لقدرة التمييز.
ومن هنا يتبين أن الشعوب الأوربية المستعمرة تحارب كل نهضة أوعودة إلى الذات، تظهر في بلد كانت تحكمه أيام الاستعمار، لأن العودة إلى الذات ستجعل الإغماء النفسي ينجلي ويصحو صاحبه بعد سكر.
ثم إن المستغربين من "المثقفين" المغاربة انخدعوا ـ كغيرهم من المستغربين في الشرق الإسلامي ـ بأسطورة الحضارة العالمية أو الثقافة الكونية، تلك الاسطورة القائمة على أساس ان العالم وطن واحد ـ ثقافيا وفكريا وحضاريا ـ رغم وجود الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، وأن الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد للحضارة المعاصرة. ومن ثم لاحرج من أن نتبنى الثقافة العالمية، ونسلك السبل المؤدية إلي تمثلها، بل من الواجب علينا المبادرة بذلك قبل فوات الأوان. كما أن هذا التطور العالمي للثقافة يروج له في الداخل والخارج بشتى الأساليب والإمكانيات، ويبذل القائمون عليه مجهودات كبيرة لإخفاء دوافع نشره والدعوة إليه، لدرجة أن المستغربين ـ من شدة انخداعهم ـ يرون أن عبور الفكر الغربي لحدوده وسريانه في جسد الأمة الإسلامية، لاينطوي على أدنى شبهة غزو أو أثر عدواني. وياليت مستغربينا دعوا إلى الاستفادة من الثقافة الكونية جمعاء، أي تلك التي تنطوي تحت لوائها الثقافات والحضارات المتعددة، غير أنهم اختزلوا كل ذلك في ثقافة وحيدة هي ثقافة الغرب.
وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاستغراب من جهة، والدعوة إلى الثقافة الكونية من جهة أخرى، لايمكن فهمهما بعمق إلا في اطار عملية التغريب التي يضطلع بها الغربيون منذ أزيد من قرنيين. والتغريب من بين الموضوعات الأساسية التي نالت اهتمامات المعنيين بالمجال الثقافي في العقود الأخيرة. ذلك أن بلدان ما يسمى بالعالم الثالث أضحت منذ زمن الاستعمار هدفا للأطماع الغربية والغزو الفكري الخبيث.
ولعل من نافلة القول التأكيد بأن ثقافات "العالم الثالث" لم تتعرض طوال تاريخها لما تتعرض له الآن من محاولات الهيمنة والاحتواء والإذابة. ويذهب بعض الدارسين إلى أن التهديد الذي يستهدف الهوية الثقافية في الدول النامية أخـذ يخيف البلدان الأوربية نفسها، مما حـذا بالمسؤولين الأوربيين إلى عقد لقاءات ومؤتمرات أشهرها المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية، الذي انعقد في المكسيك سنة 1982م من أجل الدفاع عن الثقافات المحلية، والحيلولة دون ذوبانها في الثقافة الأمريكية، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى من خـلال سياستـها الثقافيـة الخارجيـة إلى ماسمي ب "أمركة العالم ثقافيا".
ومن الناحية التاريخية تمتد جذور التغريب إلى القرن السادس عشرالميلادي الذي تزامن مع الحملة الاستعمارية الكبرى بقيادة "الغزاة". ثم تدرج مع زمن الاكتشافات العلميـة الكبرى، إلى أن بلغ ذروته في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وبعد أفول مرحلة الاستعمار، انتقل التغريب من مظهر العنف والقوة إلى مظهر الهيمنة الخفية والتوجيه العقلي المخطط والمدروس، ومايصاحب ذلك من الاغراء والفتنة وخلق الآمال الكاذبة بالخلاص، عبر وسائل التأثير الأكثر تغلغلا، وبطرق غير مباشرة لايتفطن إليها معظم المثقفين بله العوام.
يقول سرج لاتوش :« ذكرت في كتابي السالف الذكر[2][2]طريقة توضح ما أسميه ب "التأحيد الكوني". ذلك أنه خلال سنة 1985 وأنا أتجول في شوارع الجزائر العاصمة مع أحد قدماء طلبتي، بادرني بالقول: "انظر، إن الشوارع أصبحت فارغة، إنه موعد بث فيلم "دلاس". وكان الأمر فعلا ملفتا للنظر في مدينة تتميز بالصخب والازدحام. إن هذه الظاهرة تبرز مع عالمية وسائل الإعلام قضية العولمة الكونية شبه التامة، والتي لاتمس الا جانبا من جوانب وجودنا، ولكن بشكل عميق جدا، ان هذه الظاهرة حديثة جدا جاءت بعد التخلص من الاستعمار.
إن هذه الظاهرة تختلف تماما عن الشكل التقليدي للتغريب الذي عرف إبان الحقبة الاستعمارية. فأندونيسيا مثلا، رغم الاستعمار القاسي الذي عرفته على يد البرتغال والذي كان قصيرا نسبيا، ثم على يد الهولانديين والذي يوصف بحدته عادة، استطاعت ان تحافظ على جوهر عاداتها وتقاليدها، ولكن بضع سنوات من السياحة كانت كافية لتحطيم نمط حياتها التقليدية بعد الاستقلال. وبما أن الظاهرة حديثة وجاءت عقب التخلص من الاستعمار، فهل يبقى مشروعا الحديث عن التغريب وتحمل الغرب لهذه التطورات؟ يبدو لي أن الأمر كذلك. إن ما يصطلح عليه صديقي جون شينو في كتاب له "الحداثة/ العالم" أي تعميم الحداثة على مجموع العالم ، ما هو إلا تمديد عالمي لظاهرة نشأت أصلا في الغرب. وأعتقد أن الحداثة أصبحت الآن نوعا من الآلية التي لم يعد في استطاعة أحد التحكم فيها، وهو مسلسل يشتغل على المستوى الكوني ويتسم أكثر فأكثر بالغموض. هذه "الحداثة / العالم" ترتكز على القيم التي تدعي العالمية، والتي نشأت وتجذرت جغرافيا وتاريخيا في الغرب »[3][3].
وفيمـا يخـص العالم الإسلامي، فقد قامت حركة التغريب ـ وماتزال ـ بمحاولات متعددة تستهدف احتواء الفكر الإسلامي وسلخ المسلمين عن هويتهم وشخصيتهم وحثهم على التكيف مع ذهنية الغرب والاستئناس بها.
»لم يكن الاستعمار الغربي ليكتفي بالغلبة "الظاهرة" ، الغلبة العسكرية والسياسية والاقتصادية والتقنية، ذلك أن استقرار الغلبة وديمومتها قد احتاج ليس فقط للقضاء على القوة الظاهرة أو ما اصطلحنا على تسميته " بالمقاومة الأولى" ، وإنما أيضا للتوغل في عمق الإسلام لضرب القوة الباطنة، هذه القوة الكامنة في الدين رغم الهزيمة السياسية ـ العسكرية والانهيار الحضاري وجمود الحركة في المجتمع. وبما أن وجود الجماعة المسلمة ملتحم بالشرع، فـإن نفي هذا الاخير وتطويقه وتهميشه وعزله، بات يشكل هما استراتجيا عند الغالبين.ورغم كل محاولات التفسيخ والتفكيك العنفي، فقد استمرت الجماعة كأساس لنسق حضاري، يؤمن تواصل الحاضر بالماضي عبر مروحة من العلاقات التي ليست من الضروري أن تكون في موقع الغلبة والهجوم لتكتسب شرعيتها التاريخية.
كانـت الحضارة الأوربيـة من خلال مشروعها الاستعماري تحاول تسريب نموذجها المشرع بالعنف في ثنايا المجتمع العربي ـ الإسلامي، مستهدفة إلغاء عراه الداخلية المعاندة لوجه تسربها، فتعمل على استئصالها واحدة تلو الاخرى، وقطع الشرايين التي توحد المجتمع الاهلي، وعزل القنوات المترابطة في المجتمع كمقدمة لإلغاء الإسلام، والحاق المجتمع واحتوائه وتغريبه، مما يسهل خلق دولة تابعة منفصلة عن المجتمع ومتناقضة معه، ويساعد على دفع المجتمع في متاهات ثقافية تحول دون وعيه لذاته الحضارية وتحول دون رفضه للآخر؛ أي للغرب الحضاري.
على المستوى التنفيذي باشرت عملية التغريب بتحطيم مفاصل المجتمع الإسلامي المرتكزة على العقيدة والثقافة، ووضعت في رأس مهماتها تبديل العلاقات الاجتماعية وإبعاد الشرع عن أنماط التعليم والتربية. هذه الأمور ـ إذا ما تحققت ـ كان من شأنها المساعدة على استقرار النهب الاقتصادي ووضع المجتمع في علاقة تبعية دائمة للمركز الأوربي الغالب. ومن ناحية العلاقات الاجتماعية، استهدفت سياسة التغريب إحلال نسيج آخر للروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعة من خلال إدخال المفاهيم الأوربية المتعلقة ببنية العائلة ودور المرأة، وعلاقة الألفة والتضامن في القرية والعائلة والحي، واستبدالها بوحدات أخرى أضعف، وأكثر تسهيلا للتفتيت والسيطرة؛ كالفرد والمدينة. فالمدينة تسعى لتجميع الأفراد بعد أن هجروا وحداتهم الاجتماعية الأصلية بحثا عن الحياة والمال والسلطة، إثر ضرب العلاقات الزراعية، وتقوم «المدينة» بربط هؤلاء الأفراد المشتتين بمؤسسات جديدة غريبة عنهم لم يعرفوها، مؤسسات تقمعهم وتكبتهم. وفي هذه المدن نمت وسادت الطبقة الوسطى حيث أخـذ اللباس وتعميم الزي الغـربي أهمية خاصة، يبدو الغرب وكأنه " آلة تعمم الشبه بين المجتمعات من دون كابح وتتوسل أداة السيطرة لهذا التعميم". كانت دعوة الغرب التمدينية تقوم عل فرض حضارة مكتملة ومتميزة على مجتمعات مختلفة في سياقها التاريخي ـالتقافي «[4][4].
وقد كان المستعمر في المغرب ـ شأنه في البلدان الإسلامية الأخرى ـ يحرك آلة التغريب من خلال ثلاث قوى كبرى هي: المدرسة والثقافة والصحافة. وبعد الاستقلال ظلت هذه القوى مرتبطة بالتغريب اللامرئي البالغ النفاذ والتأثير. واستعمل التغريب من أجل إحكام قبضته على المسلمين، مؤسسات التنصير والاستشراق، في تحريك الخلافات والصراعات داخل الشعوب الإسلامية عبر إثارة النزعات العصبية القديمة، وإحياء القوميات القديمة كالفرعونية والفارسية المجوسية، وتشجيع البحوث والدراسات في الحركات الهدامة كالباطنية والخرمية والبابكية.
ومن مظاهر التغريب في المغرب الأقصى زمن الاستعمار والاستقلال يمكن ذكر مايلي:
أ) تأسيس المدارس والمؤسسات الفرنسية الداعية إلى التنصير والإباحية.
ب) حث المسؤولين على الدخول في اتفاقيات التبادل الثقافي والتعاون الفكري، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الجامعات الغربية ليخضعوا لعملية التغريب.
ج) ممارسة الضغط والدخول في مساومات مع الزعماء السياسيين، والاستغلال الاقتصادي الذي كرس التبعية للغرب. د) إصلاح التعليم عبر إدخال برامج غربية ذات أهداف تغريبية.
هـ) إبعاد الشريعة الإسلامية عن التعليم والقضاء والتنظيم الإداري والسياسي والاجتماعي.

الدكتور عبد الله الشارف
من كتاب : الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر
قوة تأثر حضارة بحضارة ما، يتعلق بموقف إحداهما من الأخرى. فإذا كان الموقف يعبر عن نوع من الندية، كان التأثير المتبادل قائما على التوازن السليم. في حين إذا كان الموقف موقف إعجاب وانبهار من طرف إزاء طرف آخر، كان التأثر سريعا وعميقا من قبل الطرف الأول، قد يصل أحيانا إلى حد الذوبان.
ولعل العلاقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، خير دليل مجسد لموقف الإعجاب والانبهار. ولقد تدرجت الشعوب الإسلامية -على طول هذه الفترة- في الانغماس في الحضارة الغربية والتأثر بقيمها وعاداتها، كما سعت طبقة المترفين وأنصاف المثقفين من المعجبين بأوربا، جيلا بعد جيل، إلى تحويل مجتمعها إلى مجتمع تابع للغرب ، ولم تأل جهدا في الدعوة إلى التغريب.
وكان الاستعمار السياسي والعسكري للبلاد الإسلامية عاملا في تحريك عجلة الاستغراب والدفع بها إلى الأمام. فما أن انتصف القرن التاسع عشرالميلادي، حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيدا للغرب الأوربي وخولا له. فلما استيقظ المسلمون على إثر ضربات العدو المتوالية وصحوا من سكرهم، شرعوا في البحث عن الأسباب التي مكنت العدو من رقابهم وغلبت عليهم الأوربيين. غير أن ميزان الفكر كان مختلا أشد ما يكون الاختلال، وقد تجلى هذا الاختلال في أن شعورهم وإحساسهم بالذلة والهوان، كان يحثهم على تبديل حالتهم المزرية، لكن رغبتهم في الراحة وإيثارهم الدعة والارتخاء -من جانب آخر- حملهم على التماس أقرب الطرق والوسائل، وأسهلها لتغيير تلك الوضعية. وهكذا مال أولوا الأمر من الحكام ومن في حاشيتهم وعلى شاكلتهم، وكذا كثير ممن حمل راية الاصلاح من المفكرين والمثقفين، إلى محاكاة الغربيين في مظاهر تمدنهم وحضارتهم. ومن ثم لم تكن المحاكاة إلا الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن ترقى إلى استعمالها كل عقلية مرضية ومختلة.
إن هؤلاء الذين رفعوا لواء المحاكاة ومن تبعهم إلى الآن، يشكلون الجبهة الرابعة في الجبهات الأربع التي أنزلت الهزيمة بثقافتنا وبأصالتنا، وأبرزت ظاهرة الاستغراب. وأولى تلك الجبهات تتمثل في المنصرين الذين عملوا على غزونا بواسطة المدارس والمؤسسات التعليمية والخيرية وشتى الإعانات. ثم جبهة المستشرقين طلائع الاستعمار، وذلك بما يبثونه في كتبهم من سموم تستهدف الأمة الإسلامية وتراثها، بالاضافة إلى خدماتهم الجليلة للمستعمر. وثالثا جبهة المستعمرين المكشوفة خلال الاستعمار والمتسترة أو غير المباشرة بعد مجيء الاستقلال.
والجبهة الرابعة هي الجبهة الداخلية، جبهة منا وإلينا، عملت من حيث تدري أو لاتدري على تسهيل مهمة الغزو الاستعماري، بل منها من شارك المستعمر القديم ويشارك الغزاة المعاصرين في صرفنا عن أصولنا وجذورنا، بل وفي غسل أدمغتنا من كل ماله علاقة بماضينا وتوجيه قبلتنا نحو الغرب.
لقد سعت هذه الجبهة المستغربة ـ بكل ما أوتيت من وسائل ـإلى استيراد الثقافة الغربية، حتى أصبحت هذه الثقافة في ثقافتنا المعاصرة، ظاهرة تدعو للانتباه، وغدا العالم هو الذي له دراية بالتراث الغربي    »وأصبح العلم نقلا والعالم مترجما والمفكر عارضا لبضاعة الغير  «.
« فإذا بدأ التأليف، فإنه يكون أيضا عرضا لمادة مستقاة من الغرب حول موضوع ما، وإعادة ترتيبها، وكأن ما يقال عن الشئ هو الشئ نفسه، يكفي الجامع معرفته باللغات الأجنبية، وقدرته في الحصول على المصادر، وجهده وتعبه في الفهم والتحصيل، ووقته الذي وهبه للعلم، وهو لايعلم أنه واقع ضحية وهم أن العلم هو جمع المعلومات وليس قراءتها، أو استنباط علم جديد منها، أو معرفة كيفية نشأتها في بيئتها، أو التنظير المباشر لواقعه الخاص لينشئ منه علما جديدا يضاف إلى المعلومات القديمة(...) وكثرت الرسائل العلمية حول الموضوعات الغربية عرضا وتقديما للمذاهب والمناهج الغربية، حتى أصبحت مرادفة للعلم. فالعالم هو الحامل لها، المتحدث عنها، المؤلف فيها. كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول. وتكثر الدعاية بالرجوع إلى المصادر والمراجع بلغتها الأصلية، وكتابة المصطلحات بالافرنجية أمام المصطلحات العربية خوفا من سوء الاجتهاد، والشكوى من عدم طواعية اللغة العربية لمقتضيات المصطلحات الحديثة، وكثر تأليف الكتب الجامعية في المذاهب الغربية (...) وتنشأ المجلات الثقافية المتخصصة لنشرالثقافة الغربية، كما تقوم بذلك مراكز الأبحاث العلمية الغربية في البلاد. وتنتشر العلوم والأسماء الجديدة أمام شباب الباحثين فيشعرون بضآلتهم أمامها:
الهرمنيطيقا، السميوطيقا، الاستطيقا، الاسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الانثروبولوجيا، الترنسندنتالية. وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الابستيمة، أبوخية، الدياكرونية، السنكرونية..الخ. أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك، متأثرا بهذه الدراسة أو تلك (...) ثم ظهر في جيلنا "استغراب" مقلوب؛ بدلا من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه، رأى صورته في ذهن الآخر، بدلا من أن يرى الآخر في مرآة الأنا رأى الأنا في مرآة الآخر. ولما كان الآخر متعدد المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه، نبدأ بمرآة الآخر في صورة الأنا فيها، مثل "الشخصانية الإسلامية"، "الماركسية العربية" أو "النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية" أو "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي". ويمكن ان يستعار المنهج الغربي وحده بدلا من المذهب، وبالتالي يـدرس التراث بمنهج ماركسي أو بنيوي أو ظاهراتي أو تحليلي، يضحى بالموضوع في سبيل المنهج، وكأن الموضوع لايفرض منهجه من داخله، وكأن الحضارة التي ينتمي إليها الموضوع لامنهج لها. بل إنه يصعب في الفلسفة الأوربية ذاتها التفرقة بين المذهب والمنهج »[1][1].
ومن ناحية العامل النفسي في نشوء ظاهرة الاستغراب، يمكن القول إن البون الشاسع على المستوى العلمي والتكنولوجي والثقافي، بين المجتمع المغربي والمجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان له التأثير العميق في نفس الرجل المغربي، وهو يلاحظ عجزه أمام قوة الغازي المستعمر المتسلح بكل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية. لقد فوجئ الرجل المغربي آنذاك وأخذ على غـرة، واكتشف أن مايملكه من عتاد وأدوات الانتاج وثقافة هزيلة، لايمكنه من الصمود أمام المستعمر الغاشم. في حين كانت ردود المغاربة ـ إذا استثني المجاهدون وبعض المصلحين ـ تتسم عموما بالطابع السلبي على اختلاف أنواعـه. إذ منهم من نظر إلى المسألة من زاوية "القضاء والقدر"، والتزم الصمت دون أن يسلم من المعاناة النفسية.ومنهم من انتسب إلى مختلف الطرق الصوفية ولاذ بالزوايا وعاش في عالم الطقوس والخرافات و"الكرامات". بهذه الوسيلة استطاع أن يخدر عقله "ويتعالى" عن واقعه، ويحلق في عالم "الملكوت". وبالنسبة له، ليس هناك استعمار أكبر من استعمارالنفس لصاحبها، فاشتغل باصلاح نفسه عن طريق الرقص وممارسة الشطحات الصوفية. والبعض الآخر انبهر بما حمله المستعمر من وسائل تكنولوجية، وأشياء حضارية راقية وثقافة متطورة، وأسلوب "رفيع" في الحياة. فلم يتمالك نفسه واندفع محاولا الاستفادة من هذا الجديد والإصابة منه. وهذه الفئة المنبهرة التي أصبحت أسيرة مستغربة، لم يتعامل أفرادها مع الاستعمار ومعطياته تعاملا واحدا، وإنما تنوع سلوكهم تجاهه بتنوع طبقاتهم الاجتماعية وظروفهم الخاصة. فبعضهم سلك في البداية سبيل التوفيق بين ثقافته وعاداته وثقافة المستعمر، لكنه في منتصف الطريق غالبا ماكان يميل إلى الثقافة الثانية، لقوة جذبها ولكون الانبهار قد حصل في الوهلة الأولى. ويمثل هذه الفئة مختلف شرائح الطبقة البورجوازية المغربية. وذلك أن هذه الطبقة ـ بعد أن أخد المستعمر بناصية الاقتصاد المغربي ـ أصبحت بين خيارين؛ إما أن تضحي بمصالحها المادية والطبقية فلا تتعامل مع اقتصاد المستعمر، وبالتالي تحافظ على ثقافتها ودينها وهويتها، وإما ان تظل في وضعيتها الطبيعية مع خضوعها للشروط الاقتصادية الجديدة. وفي أغلب الأحيان كانت تفضل الخيار الثاني.
ومع مرور الزمن وبفضل الاحتكاك مع المستعمر عن طريق البيع والشراء، وممارسة مختلف أنواع النشاط الاقتصادي، كان من الضروري أن يتأثر أسلوب حياة الفئة البورجوازية بأفكار المستعمر ونمط عيشه . وإقبال أبناء هذه الفئة، قبيل الاستقلال وبعده، على المدارس والمراكز الثفافية الفرنسية ثم الالتحاق بفرنسا، دليل من بين عشرات الأدلة على ذلك الذوبان.
وهناك عناصر داخل الفئة المنبهرة، ثارت بدافع من الفقر أو الجهل بمبادئ الإسلام، أو من الأمرين معا، في وجه التقاليد المغربية والدينـية والثقافـية والتراث، وعانقت ثقافة المستعمر وأحبت لغته، وعبرت من خلالها عن مشاعرها وآمالها. وهذه الفئة هي التي نذرت نفسها "عـن وعـي"  لتكريس نفوذ المستعمر وثقافته ولغته. فكان منها كتاب وقصاصون وروائيون وغيرهم.
وتبوأ كثير منهم ومازالوا، مقاعد مهمة داخل مرافـق الدولة، خصوصا فيما يتعلق بالإدارة والثقافـة والتربيـة والتعليم. ومن ناحية أخرى لم يكن الاستغراب لينحصر في الفئة البورجوازية وأبنائها وفي الفئة المثقفة الثائرة فقط، وإنما سيعم المجتمع المغربي والمدني فيما بعد الاستقلال. هذا الاستغراب يتجسد في إقبال الناس على كل منتوج غربي،مادي أو معنوي، ولو كان مضرا ومتعارضا مع عاداتهم وتقاليدهم الدينية. فالناس في المدن يطربون للموسيقى الغربية، ويفتخرون باللباس الأوربي، ويتباهون بالسلوك الغربي المتحرر. باختصار إنهم يلمسون في باطنهم ميلا إلى اقتناء أو ممارسة كل مايأتي به الغرب، ميلا إلى تقليد الأوربيين إلا في العلم والمعرفة.
إن ظاهرة الاستغراب ولدتها عوامل اجتماعية وتاريخية قبل مجيء الاستعمار وبعده. لكن العامل النفسي قد يضطلع هو الآخر بدور أساسي، ويبدو أن الاستغراب سيظل مكرسا في كل مجتمع عاش زمنا تحت نير الاستعمار، مالم يصح من إغمائه الذي أصابه عندما داهمه المستعمر. لقد كان المغربي قبيل مجيء الاستعمار يعيش  في وضعية متردية ومنحطة تشوبها الفوضى والصراعات القبلية، مع تفشي الجهل وضعف الإيمان والعقيدة، بالاضافة إلى وجود نوع من التقوقع على الذات، وعدم الانفتاح على العالم الأوربي الذي كان وقتئد على مستوى كبير من التطور والتقدم والقوة.فلما أصبح المستعمرأمام بابه وعاين قوته وعظمته، أصابته الحيرة ثم دخل عالم الإغماء النفسي، ولم يعد يملك ماكان قد تبقى له من قوة العقل والتمييز، فخارت قواه واستسلم للأمر الواقع.وبما أن الضعيف مولع بتقليد القوي كما يقول ابن خلدون، كان من المتوقع أن يسلك المجتمع المغربي سلوكا يناسب المجتمع الضعيف والمنهزم نفسيا.
ويبدو ان آثار الصدمة النفسية التي أصابت المغربي عند مجيء الاستعمار مازالت تنخر باطنه. إن ممارسته للاستغراب دليل على أنه مافتئ يعاني الإغماء النفسي أو "الدوار" الذي أصابه منذ مايقرب من قرن من الزمان، لأنه لايمكن أن يفسر تعلق وحب إنسان لإنسان آخر، يعلم الأول منهما أن الثاني وطئ أرضه، وداس كرامته وقتل آباءه وشرد أهله وعشيرته، ومازال يستعمره عن طريق الغزو الفكري، إلا بكون الإنسان الأول مستلبا وواقعا تحت تأثير نفسي خطير، وفاقدا لقدرة التمييز.
ومن هنا يتبين أن الشعوب الأوربية المستعمرة تحارب كل نهضة أوعودة إلى الذات، تظهر في بلد كانت تحكمه أيام الاستعمار، لأن العودة إلى الذات ستجعل الإغماء النفسي ينجلي ويصحو صاحبه بعد سكر.
ثم إن المستغربين من "المثقفين" المغاربة انخدعوا ـ كغيرهم من المستغربين في الشرق الإسلامي ـ بأسطورة الحضارة العالمية أو الثقافة الكونية، تلك الاسطورة القائمة على أساس ان العالم وطن واحد ـ ثقافيا وفكريا وحضاريا ـ رغم وجود الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، وأن الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد للحضارة المعاصرة. ومن ثم لاحرج من أن نتبنى الثقافة العالمية، ونسلك السبل المؤدية إلي تمثلها، بل من الواجب علينا المبادرة بذلك قبل فوات الأوان. كما أن هذا التطور العالمي للثقافة يروج له في الداخل والخارج بشتى الأساليب والإمكانيات، ويبذل القائمون عليه مجهودات كبيرة لإخفاء دوافع نشره والدعوة إليه، لدرجة أن المستغربين ـ من شدة انخداعهم ـ يرون أن عبور الفكر الغربي لحدوده وسريانه في جسد الأمة الإسلامية، لاينطوي على أدنى شبهة غزو أو أثر عدواني. وياليت مستغربينا دعوا إلى الاستفادة من الثقافة الكونية جمعاء، أي تلك التي تنطوي تحت لوائها الثقافات والحضارات المتعددة، غير أنهم اختزلوا كل ذلك في ثقافة وحيدة هي ثقافة الغرب.
وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاستغراب من جهة، والدعوة إلى الثقافة الكونية من جهة أخرى، لايمكن فهمهما بعمق إلا في اطار عملية التغريب التي يضطلع بها الغربيون منذ أزيد من قرنيين. والتغريب من بين الموضوعات الأساسية التي نالت  اهتمامات المعنيين بالمجال الثقافي في العقود الأخيرة. ذلك أن بلدان ما يسمى بالعالم الثالث أضحت منذ زمن الاستعمار هدفا للأطماع الغربية والغزو الفكري الخبيث.
ولعل من نافلة القول التأكيد بأن ثقافات "العالم الثالث" لم تتعرض طوال تاريخها لما تتعرض له الآن من محاولات الهيمنة والاحتواء والإذابة. ويذهب بعض الدارسين إلى أن التهديد الذي يستهدف الهوية الثقافية في الدول النامية أخـذ يخيف البلدان الأوربية نفسها، مما حـذا بالمسؤولين الأوربيين إلى عقد لقاءات ومؤتمرات أشهرها المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية، الذي انعقد في المكسيك سنة 1982م من أجل الدفاع عن الثقافات المحلية، والحيلولة دون ذوبانها في الثقافة الأمريكية، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى من خـلال سياستـها الثقافيـة الخارجيـة إلى ماسمي ب "أمركة العالم ثقافيا".
ومن الناحية التاريخية تمتد جذور التغريب إلى القرن السادس عشرالميلادي الذي تزامن مع الحملة الاستعمارية الكبرى بقيادة "الغزاة". ثم تدرج مع زمن الاكتشافات العلميـة الكبرى، إلى أن بلغ ذروته في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وبعد أفول مرحلة الاستعمار، انتقل التغريب من مظهر العنف والقوة إلى مظهر الهيمنة الخفية والتوجيه العقلي المخطط والمدروس، ومايصاحب ذلك من الاغراء والفتنة وخلق الآمال الكاذبة بالخلاص، عبر وسائل التأثير الأكثر تغلغلا، وبطرق غير مباشرة  لايتفطن إليها معظم المثقفين بله العوام.
يقول سرج لاتوش :« ذكرت في كتابي السالف الذكر[2][2]طريقة توضح ما أسميه ب "التأحيد الكوني". ذلك أنه خلال سنة 1985 وأنا أتجول في شوارع الجزائر العاصمة مع أحد قدماء طلبتي، بادرني بالقول: "انظر، إن الشوارع أصبحت فارغة، إنه موعد بث فيلم "دلاس". وكان الأمر فعلا ملفتا للنظر في مدينة تتميز بالصخب والازدحام. إن هذه الظاهرة تبرز مع عالمية وسائل الإعلام قضية العولمة الكونية شبه التامة، والتي لاتمس الا جانبا من جوانب وجودنا، ولكن بشكل عميق جدا، ان هذه  الظاهرة حديثة جدا جاءت بعد التخلص من الاستعمار.
إن هذه الظاهرة تختلف تماما عن الشكل التقليدي للتغريب الذي عرف إبان الحقبة الاستعمارية. فأندونيسيا مثلا، رغم الاستعمار القاسي الذي عرفته على يد البرتغال والذي كان قصيرا نسبيا، ثم على يد الهولانديين والذي يوصف بحدته عادة، استطاعت ان تحافظ على جوهر عاداتها وتقاليدها، ولكن بضع سنوات من السياحة كانت كافية لتحطيم نمط حياتها التقليدية بعد الاستقلال. وبما أن الظاهرة حديثة وجاءت عقب التخلص من الاستعمار، فهل يبقى مشروعا الحديث عن التغريب وتحمل الغرب لهذه التطورات؟ يبدو لي أن الأمر كذلك. إن ما يصطلح عليه صديقي جون شينو في كتاب له "الحداثة/ العالم" أي تعميم الحداثة على مجموع العالم ، ما هو إلا تمديد عالمي لظاهرة نشأت أصلا في الغرب. وأعتقد أن الحداثة أصبحت الآن نوعا من الآلية التي لم يعد في استطاعة أحد التحكم فيها، وهو مسلسل يشتغل على المستوى الكوني ويتسم أكثر فأكثر بالغموض. هذه "الحداثة / العالم" ترتكز على القيم التي تدعي العالمية، والتي نشأت وتجذرت جغرافيا وتاريخيا في الغرب »[3][3].
وفيمـا يخـص العالم الإسلامي، فقد قامت حركة التغريب ـ وماتزال ـ بمحاولات متعددة تستهدف احتواء الفكر الإسلامي وسلخ المسلمين عن هويتهم وشخصيتهم وحثهم على التكيف مع ذهنية الغرب والاستئناس بها.
»لم يكن الاستعمار الغربي ليكتفي بالغلبة "الظاهرة" ، الغلبة العسكرية والسياسية والاقتصادية والتقنية، ذلك أن استقرار الغلبة وديمومتها قد احتاج ليس فقط للقضاء على القوة الظاهرة أو ما اصطلحنا على تسميته " بالمقاومة الأولى" ، وإنما أيضا للتوغل في عمق الإسلام لضرب القوة الباطنة، هذه القوة الكامنة في الدين رغم الهزيمة السياسية ـ العسكرية والانهيار الحضاري وجمود الحركة في المجتمع. وبما أن وجود الجماعة المسلمة ملتحم بالشرع، فـإن نفي هذا الاخير وتطويقه وتهميشه وعزله، بات يشكل هما استراتجيا عند الغالبين.ورغم كل محاولات التفسيخ والتفكيك العنفي، فقد استمرت الجماعة كأساس لنسق حضاري، يؤمن تواصل الحاضر بالماضي عبر مروحة من العلاقات التي ليست من الضروري أن تكون في موقع الغلبة والهجوم لتكتسب شرعيتها التاريخية.
كانـت الحضارة الأوربيـة من خلال مشروعها الاستعماري تحاول تسريب نموذجها المشرع بالعنف في ثنايا المجتمع العربي ـ الإسلامي، مستهدفة إلغاء عراه الداخلية المعاندة لوجه تسربها، فتعمل على استئصالها واحدة تلو الاخرى، وقطع الشرايين التي توحد المجتمع الاهلي، وعزل القنوات المترابطة في المجتمع كمقدمة لإلغاء الإسلام، والحاق المجتمع واحتوائه وتغريبه، مما يسهل خلق دولة تابعة منفصلة عن المجتمع ومتناقضة معه، ويساعد على دفع المجتمع في متاهات ثقافية تحول دون وعيه لذاته الحضارية وتحول دون رفضه للآخر؛ أي للغرب الحضاري.
على المستوى التنفيذي باشرت عملية التغريب بتحطيم مفاصل المجتمع الإسلامي المرتكزة على العقيدة والثقافة، ووضعت في رأس مهماتها تبديل العلاقات الاجتماعية وإبعاد الشرع عن أنماط التعليم والتربية. هذه الأمور ـ إذا ما تحققت ـ كان من شأنها المساعدة على استقرار النهب الاقتصادي ووضع المجتمع في علاقة تبعية دائمة للمركز الأوربي الغالب. ومن ناحية العلاقات الاجتماعية، استهدفت سياسة التغريب إحلال نسيج آخر للروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعة من خلال إدخال المفاهيم الأوربية المتعلقة ببنية العائلة ودور المرأة، وعلاقة الألفة والتضامن في القرية والعائلة والحي، واستبدالها بوحدات أخرى أضعف، وأكثر تسهيلا للتفتيت والسيطرة؛ كالفرد والمدينة. فالمدينة تسعى لتجميع الأفراد بعد أن هجروا وحداتهم الاجتماعية الأصلية بحثا عن الحياة والمال والسلطة، إثر ضرب العلاقات الزراعية، وتقوم «المدينة» بربط هؤلاء الأفراد المشتتين بمؤسسات جديدة غريبة عنهم لم يعرفوها، مؤسسات تقمعهم وتكبتهم. وفي هذه المدن نمت وسادت الطبقة الوسطى حيث أخـذ اللباس وتعميم الزي الغـربي أهمية خاصة، يبدو الغرب وكأنه " آلة تعمم الشبه بين المجتمعات من دون كابح وتتوسل أداة السيطرة لهذا التعميم". كانت دعوة الغرب التمدينية تقوم عل فرض حضارة مكتملة ومتميزة على مجتمعات مختلفة في سياقها التاريخي ـالتقافي  «[4][4].
وقد كان المستعمر في المغرب ـ شأنه في البلدان الإسلامية الأخرى ـ يحرك آلة التغريب من خلال ثلاث قوى كبرى هي: المدرسة والثقافة والصحافة. وبعد الاستقلال ظلت هذه القوى مرتبطة بالتغريب اللامرئي البالغ النفاذ والتأثير. واستعمل التغريب من أجل إحكام قبضته على المسلمين، مؤسسات التنصير والاستشراق، في تحريك الخلافات والصراعات داخل الشعوب الإسلامية عبر إثارة النزعات العصبية القديمة، وإحياء القوميات القديمة كالفرعونية والفارسية المجوسية، وتشجيع البحوث والدراسات في الحركات الهدامة كالباطنية والخرمية والبابكية.
ومن مظاهر التغريب في المغرب الأقصى زمن الاستعمار والاستقلال يمكن ذكر مايلي:
أ) تأسيس المدارس والمؤسسات الفرنسية الداعية إلى التنصير والإباحية.
ب) حث المسؤولين على الدخول في اتفاقيات التبادل الثقافي والتعاون الفكري، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الجامعات الغربية ليخضعوا لعملية التغريب.
ج) ممارسة الضغط والدخول في مساومات مع الزعماء السياسيين، والاستغلال الاقتصادي الذي كرس التبعية للغرب. د) إصلاح التعليم عبر إدخال برامج غربية ذات أهداف تغريبية.
هـ) إبعاد الشريعة الإسلامية عن التعليم والقضاء والتنظيم الإداري والسياسي والاجتماعي.

الدكتور عبد الله الشارف
من كتاب : الاستغراب في الفكر المغربي  المعاصر


ويلاحظ دارسو الحضارات أن

إرسال تعليق

2 تعليقات