فائدة الانكسار النفسي المحمــود



 

إن الانسان إذا نزل به مكروه أو مصاب؛ كموت أحد الأبناء أو الأقارب، أو إفلاس في تجارة، أو مرض خطير، أو ما شابه ذلك من المصائب، فإنه  يتأثر بذلك تأثرا بليغا، ويجد في باطنه انكسارا قويا لا يستطيع له دفعا. وقد يظل هذا الانكسار مصاحبا له أياما أو شهورا أو أكثر، وذلك حسب وطأة المصاب. وفي بعض الأحيان،  يؤدي هذا الانكسار النفسي إلى تولد شعور، لدى الشخص المصاب، بالزهد في الدنيا والعزوف عن زينتها وملذاتها. وهو شعور قد يدوم أيضا لفترة طويلة، أو تخبو جذوة ناره بعد مدة قصيرة. بيد أنه لو تصورنا وجود الانكسار النفسي عند هذا الإنسان المصاب قبل مداهمة المكروه له، فماذا ستكون النتيجة على المستوى النفسي؟

لا شك أن وطأة المكروه ستمسي هينة أو ضعيفة، مما يعين ذلك الإنسان المكروب على الصبر والحفاظ على التوازن النفسي.

ومن هنا فإن أحسن وأنفع وسيلة لتجنب صدمة ووطأة المصاب، هي التسلح المبكر بالانكسار النفسي المحمود، وجلب الأسباب المؤدية إليه. ولن يظفر المسلم بذلك ما لم يتب إلى الله توبة نصوحا، ويداوم على قراءة كلامه بتدبر وخشوع، ويستحضر معاني الوعد والوعيد، ويتحقق بأوصاف العبودية، ويشرب من عين الزهد، ويسبح في فضاء الذكر، ويداعب نسمات اليقين، ويلج أبواب المجاهدة، والمصابرة، والمرابطة، والمحاسبة، والمراقبة، مع جولات في السيرة النبوية، وسيرة الصحابة والتابعين، والعلماء الربانيين، والدعاة المجاهدين، والإسهام في فعل الخيرات، إلى غير ذلك من الأسباب والوسائل التي تفضي به إلى نيل حال الانكسار النفسي، والخضوع لله عز وجل..

ولو علم المسلم ما في هذا الانكسار النفسي المحمود من الفوائد العظيمة، لبادر إلى العمل بتلك الأسباب المؤدية إلى التحقق به. إن من عادة الانسان أن يفرح بما يظفر به من متاع الدنيا، ويحزن على ما فاته منه. والفرح بالمتاع والحزن على فواته؛ سلوكان نفسيان مضران بالانسان لاسيما إذا تجاوزا حدا معينا. ولذلك قال تعالى :"لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم". (الحديد 23).

إن التحقق إذن  بالانكسار النفسي المحمود، هو أحد السبل النافعة في تجنب العواقب الأليمة المحتملة للفرح والحزن الناتجين عن الارتباط والتعلق الشديد بمتاع الدنيا.

وللعلامة الفقيه محمد بن قيم الجوزية رحمه الله كلام مفيد في هذا الباب، حيث يقول متحدثا عن عن مشهد الذل والانكسار والخضوع :

"وهو مشهد الذل ، والانكسار ، والخضوع ، والافتقار للرب جل جلاله ، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة ، وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ، ومن بيده صلاحه وفلاحه ، وهداه وسعادته ، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها ، وإنما تدرك بالحصول ، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء ، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل ، الذي لا شيء فيه ، ولا به ولا منه ، ولا فيه منفعة ، ولا يرغب في مثله ، وأنه لا يصلح للانتفاع به إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه...

فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه ! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم ، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة ، وملكته هذه الذلة ، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه ، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله “.[1]

يتبين من كلام محمد بن قيم الجوزية أن القلب المكسور يكون مستهدفا من قبل الرحمة الإلهية، ومحلا لتنزل النفحات الرحمانية، وأن صاحبه يخطو خطوات سريعة، ويطوي المراحل في اتجاه العبودية الحقة. ومما يستعان به في جلب حال الانكسار وتمثله؛ الإكثار من زيارة القبور، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وتفقد الأرامل واليتامى، وإغاثة الملهوفين وذوي الحاجات، والمسارعة في فعل الخيرات، مع ملازمة الصدق وإخلاص النية لله سبحانه.

د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، ذو الحجة 1439- غشت 2018، تطوان المغرب.

 

 

.................................................

[1] -  محمد بن قيم الجوزية؛ "مدارج السالكين"، ج1 ص 473.

إرسال تعليق

0 تعليقات