إن مؤسسي ورواد علم الاجتماع المعاصر ذهبوا، أثناء وضع اللبنات الأولى لهذا العلم، إلى أن الدين سيتراجع عن مكانته الاجتماعية والقيمية، بفعل قوة العلمنة الناشئة، ومكونات وعناصر المدنية المادية الحديثة، بما تحمله من علوم وصناعات وتكنولوجيا. ولقد نظر لهذه الأطروحة ودافع عنها، كل من سان سيمون، وأو جست كونت، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وإميل دوركايم، وغيرهم من علماء الاجتماع والفلاسفة، حيث ذهب كل هؤلاء إلى أن العلمنة، باعتبارها سلسلة محكمة من العمليات الفكرية والقيمية، ستعمل على تقليص دور الدين وحصره في الحياة الذاتية والشخصية، وإبعاده عن جميع مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية، والاقتصادية والسياسية. إن هذه القناعة العقلية تشكل ثمرة الصراع مع الدين الكنسي، والذي طبع الفكر الأوربي منذ بداية عصر النهضة. إنها النتيجة الحتمية للصراع بين العلم الناشئ وعقلية الكنيسة.
وهكذا يعتبر مشروع أوجست كونت الاجتماعي والفلسفي الإصلاحي، مشروعا وضعيا وعلمانيا، لا مكان فيه للدين. بيد أن أوجست كونت أدرك في النهاية، أهمية الدين في حياة الإنسان، وأن الإنسان ذو نزوع، من تلقاء نفسه، إلى التدين بغض النظر عن طبيعة الدين. كما أن التدين يعتبر عاملا أساسيا في الحفاظ على التماسك الاجتماعي، ولذلك تفتقت عبقريته الفلسفية عن وضع ما أطلق عليه؛ "دين الإنسانية"، وهي محاولة تدخل في إطار ما يسمى بأنسنة الدين وعلمنته.
"لقد رأى أوجست كونت أن الدين نافعٌ لحياة الإنسانية وتقدُّمها، بما فيه من توحيدٍ للمبدأ والغاية، وبما فيه من استغلالِ العاطفة لخيرِ المجتمع الإنساني، وصيانته من الانحلال والأنانية والفساد .فرأى أن يخترع ديناً يجعل فيه "الإنسانية" هي الجهة المقصودة بكل الأعمال الدينية، التي رأى أنها تجمع بين الفضيلة والتأملات الفكرية والتوجهات النفسية العاطفية، لتسود فكرة "الإنسانية" بدل الرب الخالق.
وحين بدا له أن يخترع هذا الدين، رأى أن تُوَجَّه العبادةُ بالفكر، والعاطفة والعمل، لمحبَّة الإنسانية وخيرها، وتقدُّمِها الارتقائي، فانتهى به الأمر إلى أن يجعل فِكرةَ "الإنسانية" أو معنى "الإنسانية" المجرّد بدل (الله) إلهاً واحداً توجّه له العبادة.(...)
لما تجمعت لدى "أوجست كونت" كل هذه الرؤى، ظهر له أن معنى "الإنسانية" المجرد عن المشخصات، هو "الموجود الأعظم"، الذي تشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والمستقبلة، والذي تُسَهِمُ عن طريقه الموجوداتُ في تقدُّم الناسِ وسعادةِ المجتمع البشري. فهذا "الموجود الأعظم"، وهو معنى "الإنسانية" المجرّد عن المشخّصات، هو المعنى الذي ينبغي التوجُّه له بالعبادة. وسمَّى "كونت" مفاهيمه هذه "دين الإنسانية".
أما العبادة في هذا الدين؛ "دين الإنسانية"، فهي عبادة تُوَجَّهُ لفكرة "الإنسانية" أو لمعنى "الإنسانية".
ورأى "كونت" أن يضع معالم لهذه العبادة، فقسَّمها إلى:
- عبادة مشتركة
- عبادة فردية
فالعبادة المشتركة تكون في أعيادٍ تذكاريّةٍ تكريماً للمحسنين من الناس إلى "الإنسانية"(...)
والعبادة الفردية تكونُ بأن يتّخذ الفرد الأشخاص الأعزاء عليه، كأبيه وأمه وأستاذه وزعيمه، نماذج للمَثَل الأعلى، فيُكرمَهم، رمزاً لتكريم "الموجود الأعظم" الذي هو "الإنسانية".(...)
رأى "كونت" إن يعهد بتدبير أمرَيِ العبادة والتربية إلى هيئة "إكليريكيّة" أي: هيئة دينية عليا، على مثل الأنظمة الكنسية، مؤلفة من الفلاسفة والشعراء والأطباء. (...)
واستولت فكرة الثالوث النصرانية على ذهن ونفس "أوجست كونت"، فرأى أن يخترع لدين الإنسانية الذي أتى به، ثالوثاً آخر غير ثالوث النصارى.
أما العنصر الأول من ثالوثه فهو؛ "الإنسانية" الذي سماه "الموجود الأعظم".
وأما العنصر الثاني من ثالوثه فهو الأرض، واعتبرها "الفَتَشَ الأَعظم" أي: الكائن المادي الأعظم، وأثبت له حياةً روحيةً ونفسيةً شبيهةً بحياة الإنسان.
وأما العنصر الثالث من ثالوثه فهو السماء أو الهواء، وقد سمّاه "الوسط الأعظم" الذي تكونت فيه الأرض، التي هي "الفَتَشُ الأعظم".(.....).
شايعه مستجيباً للدين الذي ابتدعه، ونصب نفسه كاهناً أكبر له، أشياعٌ؛ فكان له بعض المشايعين في "فرنسا" و"إنجلترا" و"السويد" و"أمريكا الشمالية" و"أمريكا الجنوبية". وأقاموا لهم معابد، وتَبِعُوا في كل بلد كاهناً ولوه أمور هذا الدين الذي ابتدعه أوجست كونت، واتخذوا لهذا الدين شعاراً مثلثاً وضعه كونت؛ المحبة، النظام، التقدم."[1]
"بل إن أوجست كونت عين نفسه البابا الجديد للإنسانية، ودعا المسلمين للتخلي عن دينهم، والدخول في الدين الجديد".[2]
يقول عالم الاجتماع ريمون آرون الفرنسي: "إن أوجست كونت أراد وأسس دينا. وذهب إلى أن دين عصرنا ينبغي أن يكون وضعيا أي مستلهما الوضعية. ولا يشبه الدين القديم الذي يقوم على فكر متجاوز. فالإنسان صاحب العقل العلمي لا يؤمن بالوحي أو أفكار الكنيسة أو الألوهية. لكن الدين، من ناحية أخرى، يستجيب لمطلب أساسي لدى الإنسان. والمجتمعات تحتاج إلى الدين لتلبية الرغبات الروحية. إن الدين الذي سيقوم بهذه الوظيفة هو دين الإنسانية."[3]
من خلال هذه النصوص المتعلقة ب"دين الإنسانية"، ندرك إن أوجست كونت كان فيلسوفا منذ تأسيس مشروعه الاجتماعي العلمي، إلى تأسيس ووضع دينه الوضعي. كما ندرك أن فلسفته جعلته يقر بضرورة وجود ديانة جديدة، تناسب الحياة الاجتماعية الحديثة المؤطرة بالعلوم الوضعية، لا سيما علم الاجتماع.
إن هذا الفيلسوف الاجتماعي، رغم عقيدته العلمانية والإلحادية، اعترف بنزعة التقديس عند الإنسان، وميله الفطري إلى تعظيم كائنات مادية أو معنوية، وذلك استجابة لرغبات نفسية دفينة وعميقة، لا يستطيع الإنسان التجرد منها أو إنكارها. وبعبارة أخرى، يبدو أن ظاهرة أو نزعة التدين، من النزعات والميولات النفسية التي رافقت الإنسان في حياته عبر مراحل التاريخ البشري كله، حيث تجلت هذه الظاهرة في كل الثقافات والحضارات.
وبما أن المجتمعات الأوربية دانت بالديانة المسيحية القائمة على الثالوث المقدس، فإن أوجست كونت أقام أيضا "دين الإنسانية" على ثالوث مقدس: 1- الإنسانية (الموجود الأعظم)، 2- الأرض (الفتش الأعظم) أي الكائن المادي الأعظم، 3- السماء أو الهواء (الوسط الأعظم). ورغم أن هذا الدين العلماني، بطقوسه وأعياده ومناسباته، لم يعمر طويلا حيث سرعان ما إنقرض أتباعه، بقي إلهه حيا؛ وهو "الإنسانية" (الموجود الأعظم). ولذا تجد كلمة "الإنسانية"، لغة واصطلاحا، من أكثر الكلمات شيوعا واستعمالا في العلوم الاجتماعية، والتربوية، والقانونية، والنفسية، والسياسية، وفي الآداب والفلسفة.
كما أن كثيرا من المنظمات، والهيئات، والجمعيات المدنية في الغرب، والتي لها علاقة بالمساعدات الاجتماعية، تنطلق في ممارستها من عقيدة الإنسانية، وتعتبر الإنسانية مذهبا وعقيدة لها، تدافع عنها كما يدافع متدين عن دينه. وهذه الظاهرة تدخل فيما يسمى: "علمنة الدين" أو "أنسنته". أي أن الإنسان الغربي الذي يمارس الأعمال الإنسانية، كثيرا ما يمارسها بروح شبيهة بالروح الدينية، ولذا قد تجده ينعم باطنيا ونفسيا من خلال عمله الإنساني.
وهذه مسألة فطرية في الإنسان، بل أكدتها الأديان السماوية؛ حيث أن الإنسان مخلوق عابد بالفطرة. فإما أن يعبد الله ويوحده، أو يشرك به، أو يعبد صنما، أو شيئا من الأشياء ماديا أو معنويا، أو يعبد هوى من الأهواء، أو يعبد "الإنسانية"، إلى غير ذلك من المعبودات. إنها إذن حاجة نفسية، أو بلغة علم النفس الحديث؛ مثير نفسي يستدعي الاستجابة.
د.عبد الله الشـارف، كلية أصول الدين تطوان المغرب/ شعبان 1439-أبريل 2018
0 تعليقات