رؤیا قرآنیة مُحزنة

رؤیا قرآنیة مُحزنة


انتبھت من نومي ھذه اللیلة؛ لیلة الاثنین 23 جمادى الثانیة 1439 ،حزینا وقلبي یعتصره الألم والأسى بسبب رؤیا ألیمة وموجعة؛ حیث رأیت في منامي أني أسیر في حي النیارین بالمدینة العتیقة في تطوان، وإذ بأذني تلتقط أصوات أطفال یقرأون القرآن، فطربت روحي وعزمت على زیارة ھذا الكُتاب، وأدخلت یدي في جیبي وأخرجت ورقتین نقدیتین من فئة 20 درھما كي أمنحھا للفقیه.
وكان ھذا الكتاب القرآني من بین الكتاتیب التي أقیمت في مدینة تطوان وغیرھا من المدن المغربیة قبل فترة الاستعمار وخلالھا، لكن لما خرج المستعمر وأقبل الاستقلال یحمل تباشیر الحریة والتنمیة والبناء...، لم یلبث الحال أكثر من عقد من الزمان حتى بدأ عقد تلك الكتاتیب المتلألئة ینفرط، وصار عددھا یقل تدریجیا، إلى أن لفظت أنفاسھا وفنیت في نھایة السبعینیات أو مطلع الثمانینیات؛ حیث بدا أن ھذا القطاع التعلیمي الرباني لایتناغم مع ثقافة وعقلیة المستغربین، من المسؤولین على التربیة في بلادنا، الذین شربوا لبن المستعمر ونشأوا في أحضان ثقافته.
وھل كان بقاء ھذه الكتاتیب واستمرارھا یضر التعلیم الابتدائي والثانوي الحالي؟ أم یشكل رافدا قویا ومتینا على مستوى اللغة العربیة، والقیم الأخلاقیة الرفیعة، وثوابت الھویة والحضارة المغربیة؟
لكن أبى الفرانكوفونیون المتفرنسون من خلال الازدواجیة اللغویة العقیمة، وإدراج نصوص القیم الغربیة العلمانیة في الكتاب المدرسي (مادتا اللغة الفرنسیة والفلسفة) وتضییق الخناق على كل ماله علاقة بالقیم الدینیة والتراثیة...، إلا أن یقیموا القطیعة المعرفیة والقیمیة، بین التلمیذ والطالب المغربي وبین أصالته وھویته.
أعوذ إلى الرؤیا وأقول: ولجت باب الكتاب وما أن أرسلت نظري إلى الأطفال الحفظة والفقیه حتى ھالني عدم وجود حصیر مفروش للجلوس علیه كما ھو مألوف ومعتاد، ولون أرض الكتاب أخضر مفتوح. بل الأدھى والأمر أني رأیت ھؤلاء الأطفال قد افترشوا الألواح وجلسوا علیھا، وألواح أخرى یسندون ظھورھم إلیھا، وكل تلك الألواح مسطرة 
بالآیات القرآنیة !!
وعندما دنوت من الفقیه، وكان شابا في الثلاثینیات من عمره، أخذ لوحا كبیرا قد كتب فیه ربع الحزب أو یزید، ووضعه على الأرض، ثم أومأ إلي بالجلوس علیه فقلت له مستنكرا: كیف أجلس على لوح كتب فیه القرآن، فابتسم ثم طأطأ رأسه وأطرق صامتا بعد ما قرأ في وجھي أمارات الغضب والاستنكار... فاستیقظت مذعورا وقلبي كله یرجف من ھول ما أبصرت وأدركت. لقد ضعضعني وھدّ كیاني مارأیت، وأقضت الرؤیا مضجعي، وأطارت الرقاد عن عیني.
لاعلم لي بتأویل الرؤى، بید أنه وقع في خاطري عقب انتباھي من النوم أننا، معشر المسلمین، إلا من رحم الله، لم نھجر القرآن فحسب، وإنما أھناه وسخرنا منه والعیاذ بالله. ومظاھر ھذا السلوك والموقف المشین والمخزي من كلام الله سبحانه، أكثر من أن تحصى. 
فقول القائل الیوم مثلا؛ إن بعض أحكام القرآن لاتصلح لزماننا وحیاتنا المعاصرة، مظھر من تلك المظاھر المخزیة.
وتزیین جدران المساجد والبیوت بالآیات القرآنیة، مع عدم تعظیمھا والعمل بأحكامھا، استھزاء بكلام الله أیضا. والتباھي بامتلاك نسخ للقرآن مخطوطة أو ناذرة نفیسة، وعرضھا في المعارض والمتاحف، والإعجاب بخطھا وجمال تجلیدھا، وألوان زخرفتھا؛ أي الاھتمام بمظھر تلك النسخ وجمالھا المادي وتجاھل جمال القرآن وبعده الروحي والرسالي، مظھر آخر من مظاھر السخریة والاستھزاء بكتاب الله سبحانه.
وكذلك الاستماع إلى القرآن في المآتم وبعض المناسبات، والمواسم البدعیة، والإعراض عن قراءته والاستماع إلیه، والعمل به في الحیاة الیومیة، ضرب آخر من ضروب السخریة والإعراض عن كلام الله عز وجل.
وكثیر من المقرئین والمرتلین یقضون حیاتھم في الاشتغال بمخارج الحروف، والتفنن في الترنیم والتغني بالقرآن، والتنافس فیما بینھم على المراتب الأولى من حیث عدد المستمعین والمعجبین بقراءاتھم، مما یفضي ببعضھم إلى الوقوع في العجب والریاء. وھذا لون آخر من ألوان الإعراض عن جوھر القرآن، وروح رسالته الخالدة.
وأختم ھذه الأمثلة بالمثال المتعلق بأولئك الذین یكثرون من إقامة الندوات والمؤتمرات، والأیام الدراسیة حول القرآن، أو الإشراف على طباعته وتوزیعه على المسلمین، بینما سلوك كثیر منھم یتنافى مع دستور القرآن وأخلاقه وتعالیمه؛ قال الله تعالى :" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " (البقرة:44).
لایسعني، وأنا تحت وطأة ھذا الحال النفسي المؤلم بسبب تلك الرؤیا المحزنة، أن أذكر إخواني المسلمین بمحبة القرآن وإكرامه بقراءته وتدبره، والتخلق بأخلاقه وتعظیمه. وأن یكون لكل واحد منا ورد قرآني یومي یحافظ علیه، كي یظل متصلا بخالقه سبحانه.

 

د.عبد الله الشارف، كلیة أصول الدین تطوان، جمادى الثانیة 1439 – مارس 2018

إرسال تعليق

0 تعليقات