ذات يوم من الأيام، لقيني أحد الأساتذة الأصدقاء، فكان الحديث بيننا ذو شجون. وبينما نحن نتنعم بحلاوة الكلام ولطافته، إذ باغتني بقوله: "إنني يا صديقي، أعاني قساوة القلب، حيث يستثقل قلبي العبادة والطاعة لله، وأشعر بافتقار شديد إلى الحد الأدنى من الرغبة الضرورية للإقبال على خالقي. فهل من نصيحة تنصحني بها؟ " فنصحته معتمدا على الكتاب والسنة وأخبار بعض الصالحين والعباد من السلف الصالح. وخطر ببالي وقتئذ أن أحرر مقالا في الموضوع أو النازلة. ومرت شهور بل سنوات، إلى أن من الله علي، بعدما تنفس صبح هذا اليوم المبارك، بتحرير الخاطر وإنجاز الوعد.
إن الانسان عندما يصاب بمرض ما فإنه يبادر باستعمال الدواء، وإذا كان قلقا نفسيا لسبب مادي أو معنوي، تجده يفكر ويبذل قصارى جهده للتخلص من ذلك القلق. وإذا كان عازما على اجتياز امتحان معين، أو المشاركة في مباراة التوظيف، فإنه يستعد لذلك ويقوي رغبته وهمته. إن العامل المشترك من وراء هذه المواقف الثلاثة هو الخوف، أي خوف الإنسان على نفسه الهلاك أو الموت، في حالتي المرض ومعاناة القلق، وخوفه من الرسوب في حالة الامتحان أو التوظيف. فالشعور بالخوف هو الذي يحفز ذلك الإنسان، ويدفعه للتفكير والبحث في الوسائل والطرق المؤدية إلى التخلص من معاناة المرض، أو النجاح في الامتحان أو مباراة التوظيف. وإذا انعدم الخوف، أهمل الإنسان المرض إلى أن يهلك أو يموت، أو قصر في الاستعداد للامتحان والمباراة، فتضيع فرصة النجاح. إن عنصر الخوف أمر ضروري وأساسي في مثل هذه الحالات أو ما يشبهها، وإلا لفسدت الحياة ولأصابها اختلال واضطراب، وهو ما يلاحظ كثيرا في المجتمعات التي يسود فيها الظلم والجهل والفساد. وشاء الله الحكيم الرحيم، أن ينبعث منبه الخوف في كيان الإنسان، عندما تعتريه تلك الأحوال المذكورة وغيرها مما ينتظم في سلكها. بيد أن هناك حالا عظيما وخطيرا، يهيمن على الإنسان وقد يفتك به، ومع ذلك لايشعر صاحبه بالخوف منه. إنه حال أو مرض الغفلة والإعراض عن الله، إنها قسوة القلب (موضوع النازلة). هذا المرض الخطير الذي استفحل وانتشر بين المسلمين وأتى على الأخضر واليابس. إن المسلم الغافل عن عبادة الله، وعن القيام بواجباته ومسؤولياته، أي المقصر في حقوق الله وحقوق عباده، قد تجده يحسن الظن بنفسه وبربه، في حين أنه بعيد عن خالقه بسبب غفلته وقساوة قلبه، وإن صلى، وصام، وحج واعتمر. وبما أنه لا يشعر بالخوف مما هو فيه من الرعونة والغفلة، وعصيان الخالق وقساوة القلب، فلا يرجى شفاؤه وتوبته إلا أن يشاء الله، فيتداركه برحمته. إن الخوف ينبعث تلقائيا في باطن الإنسان، عندما يتعلق الأمر بالأحوال والأعراض التي أشرت إليها آنفا. أما فيما يخص مرض الغفلة والإعراض عن الله سبحانه، فإن منبه الخوف غالبا ما يكون غائبا عن قلب المسلم، ولذا تجد أكثر الناس غافلين معرضين كما أخبرنا القرآن الكريم. فالخوف الأول تلقائي وطبيعي، يداهم الإنسان المصاب ويزعجه وينبهه، فتجده يبحث عن الدواء في حال المرض الجسدي، أو يفكر في طرق التخلص من معاناة القلق وغيره، مما هو نفسي، والبحث عن السبل المؤدية إلى النجاح في أمر ما، أو التغلب على مشكلة من المشاكل.. إلخ. أما الخوف من الله المؤدي إلى التوبة، واجتناب الغفلة، وسلوك الصراط المستقيم، فلا سبيل للظفر به واستحضاره، إلا بمجاهدة النفس من خلال اتباع أوامر الله، واجتناب نواهيه والتسنن بسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ولزوم الذكر والمراقبة والمحاسبة والمرابطة، وغيرها من الوسائل الإيمانية التي تجلب التقوى والإنابة إلى الله. ولو قدر للإنسان أن يرى النار بأم عينيه، ويشاهد الغافلين والعصاة من الناس يعذبون فيها، لامتلأ قلبه خوفا من عذاب الله وبطشه، ولأناب إليه وعبده حق عبادته. ولما كان هذا الأمر متعذرا بل مستحيلا، لأن النار غيب والجنة غيب، جعل الله عز وجل للمسلم وسيلة الذكر، والتفكر،والتدبر، لاستحضار الغيب في القلب، كي ينبعث منه الخوف. فعين الإنسان في الدنيا لا ترى الغيب، ابتلاء من الله، لكن عين قلبه تراه إذا كان هذا الإنسان مسلما، واجتهد في جلب الخوف إلى قلبه من خلال الذكر والتفكر؛ قال تعالى :"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض" (آل عمران 191). إن الخوف المطلوب إذن، ليس خوف إقرار واعتراف، أي أن يقول المسلم بلسانه؛ أنا أقر وأومن بعذاب جهنم، وأخشى الوقوع فيه. وإنما المطلوب هو الخوف المزعج المقلق، أو خوف الذوق والممارسة الذي يملأ قلب صاحبه، حتى يغدو كأنه ينظر بعينيه إلى الجنة والنار. إن المسلم الغافل عن الله، يخاف خوف الإقرار والاعتراف، وهو خوف لا أثر له في قلبه وسلوكه، إنما مجرد إيمان واعتقاد بارد لا روح فيه، وهذا لا ينفع صاحبه. إن الله من خلال آيات الوعيد التي تتحدث عن هول القيامة، والمحشر وعذاب النار، يخوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا. فالمقصد من الوعيد؛ هو إحداث الخوف في القلب لتحصل الإنابة، ولا وسيلة لإحداث هذا الخوف إلا التخويف. والتخويف آلية أو عملية نفسية إرادية، يمارسها المسلم بالذكر، والتفكر، والتدبر، ومجاهدة النفس ومحاسبتها، ومراقبتها، وهو ما يعبر عنه القرآن بتزكية النفس، "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" (الشمس 9-10). إن الخوف المزعج والمقلق شرط لازم لحصول التوبة والإنابة، وهو الغاية من تكرار آيات الوعيد في القرآن الكريم، كما أن هذا الخوف هو الذي عبر عنه الصحابة والتابعون وغيرهم من الأتقياء، ببكائهم عند قراءة القرآن، وبخشيتهم وتعظيمهم لأوامر الله ونواهيه. إن المسلم مأمور بتخويف نفسه كي ينقذها من النار، بل التخويف واجب عليه وفرض عين. وعندما يتكلف المسلم الصادق التخويف، ويستعمل أسبابه، ويمارسه بصدق وإخلاص، يمن الله عليه بالخوف المطلوب، فتقوى حرارته في قلبه، ويحصل خشوع القلب والجوارح، ثم ينشط للعبادة والذكر والمناجاة. قد ينعم الله على عبده بالخوف المطلوب تفضلا، ويدنيه منه تكرما. أو قد يباغته هذا الخوف ويستولي على قلبه لسبب من الأسباب. لكن العبد إذا لم يكرمه الله بنعمة هذا الخوف تفضلا، ولا هجم على قلبه بغتة، لا عذر له إذا ترك التكلف للتخويف، وجلب الخوف المقصود إلى قلبه، من خلال الوسائل الإيمانية التي أمر بها الشارع، ونص عليها في كتابه، وبينتها السنة النبوية الصحيحة. د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب /رجب الخير 1439- مارس 2018.
1 تعليقات
موضوع قيم وركت انامل كاتبه
ردحذف