جمعني لقاء بشابين طالبين باحثين فاضلين: عبد الله الغامدي، وعبادة الكيلاني. وبينما نحن نتحدث في موضوع الإيمانيات، إذ توجهت بالكلام إلى عبادة قائلا:
ما أجمل "عبادة" أهل الجنة !! فرد علي: لا عبادة في الجنة.
فقلت: يا عبادة؛ العبادة نوعان: عبادة تكليف، وعبادة تشريف. الأولى في الدنيا والثانية في الجنة. ومن الأدلة على وجود الثانية، قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أهل الجنة: "ويلهمون التسبيح كما يلهمون النفس". أو ليست هذه عبادة يا عبادة ؟
إن الله قد أكرم أهل الجنة بكل أنواع النعم، ولولا أن التسبيح من أجل النعم بل أجلها، لما ألهمهم إياه كما ألهمهم النفس. وإذا كان الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده"، فكيف يستثني عباده المكرمين في الجنة ويحرمهم من هذه النعمة ؟ إن الآية تفيد أن كل شيء يسبح أي يعبد الله، فالتسبيح إذن عبادة، وما دام أن أهل الجنة يسبحون فإنهم يعبدون الله. بيد أن عبادتهم هذه ملهمة وخارجة عن إرادتهم إن صح التعبير.
وبما أن أهل الجنة انتقلوا من دار التكليف إلى دار النعيم، فإن الله قد أسقط عنهم عبادة التكليف، وأكرمهم بالعبادة الكونية؛ أي أنهم قد انتظموا في سلك قانون التسبيح الكوني الأبدي، وغدا كيانهم يلهج بالتسبيح، وهم في الوقت نفسه يتنعمون بنعم الجنة، ويتناولون ما يشتهون على سرر متقابلين، ولله في خلقه شؤون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما في الحديث: " إن أهلَ الجنةِ يُلهمُون التسْبيحَ كَمَا يُلهَمُونَ النَّفَس " (رواه مسلم) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته"(الفتاوي ج 10).فهذا نعيم لا يشغلهم عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق لأن لذّته أعظم مما هم فيه. وبالمناسبة أزف إليك نصوصا أدبية رقيقة ولطيفة لها علاقة بالموضوع، أقتطفها من كتابي: "في أدب الرقائق" (ص 71-72-92-167).
لذة الذكرلا تعبده على رسم التكليف، مجردا عن المحبة والتزليف. فغاية العبادة رؤيته، ولذة القلب ذكره, وما تلذذ أهل الجنة بأعظم من تلذذهم برؤيته وذكره إذ "يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس". فأصل محبته في قلبك، واذكره على كل أحوالك، واعلم ألا طعم للجنة إلا بذكره ورؤيته، وأن حقيقة العبودية في تأمله جل جلاله وعكوف القلب عليه، وعند كشف الغطاء يفرح المؤمن باللقاء .
إذا استغرق الذكر كيانكإذا سكت لسان فمك عن الدنيا ونطق لسان قلبك بالآخرة، وتجوهرت نفسك بالذكر حتى استغرق كيانك، واستمعت إلى لغته العذبة بسمعك الباطني، وحصل لك الهيام بالتهليل والتسبيح، وصرت كانك مجذوب وما بك جذب، فاعلم أن الله قد فتح في قلبك نافدة تطل منها على جنة الذكر، وأن أهل الجنة، جعلني الله وإياك منهم، "يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس"، وأن ذكرك يوقد من شجرة الإيمان تكاد أغصانها تتلألأ نورا ولو سكت لسان قلبك ساعة.
لابد لك من ذكرهيا عبد الله لا بد لك من ذكر ربك، في يومك وغدك، ودنياك وآخرتك. يا عبد الله إذا ذكرته، ستذكره في جنتك، تحت ظلال أشجارك، وعلى ضفاف أنهارك، وبين حور عينك ونسائك. يا عبد الله شتان بين ذكرك له مع أنفاسك، وذكرك له مع زفراتك وآهاتك. وشتان بين ذكرك؛ يا حبيبي اشتقت لرؤيتك فإذا بمركب بجانبك يحملك إلى مولاك، وبين ذكرك؛ "يا مالك ليقض علينا ربك". فالبدار البدار، والتوبة التوبة، وما أراك تطيق رؤية مالك.
كن موصولا بالحقإذا رمت التلذذ بشئ فلم تظفر بلذة، أو كان حظك ضعيفا، أو كطيف لم يلبث أن توارى، فاعلم أنك لم تكن موصولا بالحق وأن حبلك منقطع. واعلم أن لا تلذذ في الحقيقة إلا ما كان مع الذكر والقرب والحضور، وأن لذة الغفلة والبعد أماني وسراب وغرور. فاظفر بالأصل تنعم به وبالفرع، وإلا فلا أصل ولا فرع وإنما ضرب في حديد بارد.
أنشودة الذكر ذكري نَفَسي نَفَسي ذكري؛ “سبق المُفَردون”
ذكري سكينتي، ذكري أمني، ويُتَخَطف الناس من حولي
ذكري سياحتي، ذكري تأملي؛ “ويتفكرون في خلق السموات والأرض”
ذكري حريتي، ذكري إرادتي وعزيمتي، ذكري استجابتي لما يحييني؛ “استجيبوا لله
وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم”
ذكري عمارة قلبي، ذكري غراس جنتي؛ “سبحان الله وبحمده”
**********
ذكري دوائي من أسقامي، ذكري سلاحي في نحر عدوي؛ الوسواس الخناس
ذكري جنتي؛ عدني وفردوسي؛ “أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر”
ذكري جلاء همي وحزني، وحياة روحي ونور قلبي؛ يسعى بين يدي، ويضيء ما حولي؛ “يهدي الله لنوره من يشاء”
ذكري يقظتي من غفلتي، وتوبتي من خطيئتي، وزوال غشاوتي عن مهجتي؛ “وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور”
ذكري نَفَسي، نَفَسي ذكري؛ “أهل الجنة يُلهمون التسبيح والتكبير كما تُلهمون النفس”
**********
ذكري غذائي، ذكري رحيقي، ذكري شرابي من سلسبيلي
ذكري لذتي، ونعيم قلبي؛ ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل
ذكري أنيسي في خلوتي، ورفيقي في جلوتي: “أنا جليس من ذكري”
ذكري قائما، ذكري قاعدا، ذكري على جنبي، وفي جميع أحوالي، وأتفكر في خلقه، و أجني العنب من الدوالي
ذكري يحجبني، ذكري يقيني غيبتي ونميمتي، ولغوي وغفلتي، ذكرى يذكرني إذا طاف بي
شيطاني؛ فإذا أنا مبصر
**********
ذكري قناعتي، ذكري رزقي وغناي، ذكري وقايتي من فقري وفاقتي؛ “من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين”
ذكري خادمي، ذكري معيني؛ ييسر عسيري ويذلل صعابي؛ “لا حول ولا قوة إلا بالله”
ذكري أفضل أعمالي، وتاج أقوالي، ونور أفعالي
ذكري أكبر من صدقتي، ومن بري وإحساني، ومن حجي وعمرتي؛ “ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون”
ذكري مداد قلمي، وروح كلماتي، ونور بصري في قراءتي، ومرشدي في مذاكرتي، وباب معرفتي. والذكر بالتذكر، والعلم بالتعلم، والله يحيي القلوب بالذكر والحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء.
د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف، كلية أصول الدين تطوان المغرب، رجب 1437-أبريل 2016.
1 تعليقات
فتح الله عليك شيخنا الكريم
ردحذف