إخواني، معشر الصوفية الأفاضل، لقد تبين لي من خلال هذا العمل أن المناظرة في القضايا المذهبية من أصعب أنواع المناظرات، لأن كلا المتناظرين يرى أن صاحبه أو مناظره غير متجرد من الأهواء والميولات . فالمعترض على التصوف البدعي الطرقي يعتبر لدى مناظره المتصوف، وهابيا أو جاهلا بالتصوف، ولو قدم هذا المعترض ألف حجة وبرهان. والأمر كذلك بالنسبة لمدعي التصوف إزاء مناظره المعترض.
فلو قال المعترض مثلا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تستحيل رؤيته يقظة بعد موته، بدليل أن ليس أحد من الصحابة أو التابعين ومن تبعهم بإحسان خلال القرون الأولى ادعى ذلك، وإنما ادعى تلك الرؤية شيوخ وأقطاب بعد ظهور وتطور بدعة التصوف، لأجابه مدعي التصوف: إنك جاهل بعلوم القوم وأذواقهم أو مصاب بآفة الوهابية. بيد أنني أتساءل: لماذا لم يقم أحد من هؤلاء الأدعياء بدعوة الناس لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم عندما رآه أو حضر معه حتى يقيم الحجة على المعترض أو الوهابي؟ أليس لأنه يفتري أو خيل إليه أنه يراه؟
وكذلك إذا قال المعترض: إن المسلم لا يستطيع الطيران في السماء بدون آلة، ولا يستطيع إقامة صلاة الظهر في أقصى المشرق وصلاة العصر في أقصى المغرب دون الاستعانة بوسيلة نقل، ولا أن يستجيب، وهو ميت في قبره، لمستغيث يستغيث به، ولا أن يتصرف في أحوال الناس وأرزاقهم كما يفعل الأقطاب والأبدال والأوتاد، لأجاب مدعي التصوف أن كل هذا يستطيعه شيوخ التصوف وأقطابه وأوتاده، ولا دليل له على ذلك سوى أنه مسطر في كتبهم كما أنه يجري على ألسنتهم. وقس على هذا ما لا يتسع المجال لذكره من الترهات والطامات والمسوخات.
وكذلك إذا قال المعترض: هذا الذي تسمونه علوما لدنية لم يكن موجودا عند الصحابة والتابعين، ولا يشبه من قريب ولا من بعيد إلهاماتهم وفتوحاتهم في فهم الدين وإدراك حقائقه. فمن من الصحابة أو التابعين تفوه بكلام من جنس كلام ابن الفارض في تائيته، أو الجيلي في كتابه؛ "الإنسان الكامل" ، أو ابن عربي في "فتوحاته" أو "فصوصه"،أو الدباغ في كلامه الذي لم يحسن دبغه، أو الشعراني أو التيجاني أو ابن عجيبة أو الحراق.... لأجاب مدعي التصوف بالجواب نفسه، ولا دليل يستدل به سوى الهوى.
ولوقال المعترض: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تجعلوا قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”
[21]. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: “لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”
[22] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أوليائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، اني أنهاكم عن ذلك.”
[23]وعندما خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم، جرهم ذلك الى مفاسد عظيمة، حيث اعتقدوا في أصحاب الأضرحة الضر والنفع وقضاء الحوائج، وتقربوا اليهم بالذبائح والقرابين، وطلبوا منهم ما يطلبه العباد من ربهم، واستغاثوا بهم الى غير ذلك من ألوان الشرك التي تفسد العقيدة. أقول: لو قال المعترض كل هذا لأجابه المتصوف الطرقي: أنت تنكر بركة الأولياء ونفعهم للعباد، وتنفي كراماتهم وما خصهم الله به، وما يشبه هذا الكلام.
ولو قال المعترض: ان كل واحد من الشيوخ الطرقيين يزعم أنه تلقى ذكرا وأورادا خاصة بطريقته من الغيب، إما من الله مباشرة، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة أو مناما، أو من الخضر عليه السلام، مثل ما هو موجود في الطريقة التيجانية، حيث يجلس المريد الذاكر جلسة التشهد، مغمضا عينيه، مستحضرا صورة الشيخ أحمد التيجاني، شيخ الطريقة، ويتخيل أن عمودا من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلبه..
ولهم ذكر آخر يوم الجمعة عند الغروب، حيث يرددون لا اله الا الله ألف مرة مع السماع؛ وهو انشاد شئ من الشعر بالغناء والترنم جماعة ، ثم يقولون: الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عندهم الى لفظ : آه، آه، آه. ويسموه هذه الحالة: العمارة. ثم يصلون صلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ثم لا اله الا الله مئة مرة، ثم صلاة جوهرة الكمال اثني عشرة مرة. وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة، يحضرون، في زعمهم، عند قراءة جوهرة الكمال، لذا يجب التطهر بالماءن وليس التيمم، قبل قراءتها. ومن شروطها أيضا تهييئ الفراش الطاهر الذي يسع خمسة أشخاص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر ومعه الخلفاء الأربعة !!!؟
[24] .
ان العبادات التي شرعها الله توقيفية فلا مجال للرأي فيها، ومع كل هذا الانحراف لا يستحيي الصوفية الطرقيون ولا يردعهم عقل أو دين من الزعم الدائم أنهم يهتدون بالكتاب والسنة.
أقول: لو قدم المعترض هذا الكلام وأثبته بالحجج والبراهين، فان المتصوف الطرقي لن يعدم جوابا من جنس الأجوبة السابقة التي تنبت في أرض الأهواء والشركيات والضلالات.
اخواني الصوفية: قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مستنا، فليستن بمن كان مات، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيهم واقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فانهم كانوا على الهدى المستقيم”.
[25]فمن خالفهم زاعما أنه أتى بطاعة و قربة، فلا يخلو حاله من أمرين: اما أنه جاء ببدعة ظلما، واما أن يكون مدعيا فاقهم فضلا وعلما، بل كان مالك رحمه الله تعالى يقول: “من أحدث في هذه الأمة شئ لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول: “اليوم أكملت لكم دينكم”، فما لم يكن يومئذ دينان لا يكون اليوم دينا”.
[26]وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد”.
[27] أي مردود على صاحبه غير مقبول. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، فلا تعبدوها فان الأول لم يدع للآخر مقالا”.
اخواني الصوفية: ان التصوف الطرقي ملئ بالبدع والمخالفات والضلالات، بدءا من أخذ العهد وتقديس الشيوخ أحياء وأمواتا، والاستغاثة بهم، ومرورا بالقبورية والمواليد والمزارات، ثم طي الزمان والمكان والكشوفات والمعارج، وهم جرا ومسخا… كل هذه المظاهر البدعية المستحدثة وغيرها، يدين بها الصوفية الطرقيون، ويتقربون بها الى الله، وهم بذلك خالفوا أمر الله ورسوله، حيث أنهم أدخلوا في عبادتهم لله ما لم يأمر به. ومن هنا فاني أخشى أن يصدق عليهم أو يعمهم قوله تعالى: “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم” (سورة النور: 63)
إخواني المتصوفة الأفاضل؛ كلانا متمسك برأيه ومدافع عنه، فلا معنى للاستمرار في هذه المناظرة، ولذا فإنني قررت التوقف عن الحوار معكم في هذا الموضوع، وسوف أقوم، إن شاء الله، بطبع هذه المناظرة ونشرها كي يستفيد منها القراء.
أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا السداد في القول والعمل. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.
تطوان، صفر الخير 1432 هجرية يناير 2011 ميلادية.
د. عبد الله الشارف؛ مقتطف من كتابي: "مناظرة صوفية معاصرة". منشورات الزمن-الرباط المغرب 2014.
0 تعليقات