عبادة النفس عند غلاة الصوفية

sofiya


مما لا شك فيه أن التصوف يعتبر جزءا لا يتجزأ من الفكر الإسلامي قديما وحديثا، كما أنه مر تاريخيا بمراحل ثلاث؛ مرحلة الزهد والتعبد والصفاء، فمرحلة التفلسف، ثم أخيرا مرحلة الطرقية. ولم تخل هاتان المرحلتان الأخيرتان من ظهور بعض الشيوخ الصوفية الذين مزجوا كلامهم وشطحاتهم بأفكار فلسفية.

وقد يطغي الشعور الذاتي عند المتصوف، ويتضخم عنده الإحساس بالأنا الصوفي، فيعكف على نفسه مناجيا ومتأملا إياها.ومن الصوفية من يبلغ برياضته الروحية ومجاهداته مرتبة الفناء عن العالم والاستغراق في الألوهية ؟ مما جعلهم يقعون فيما يسمونه بالعشق الإلهي، حيث يظنون أنهم قد التصقوا بالذات الإلهية أو حلوا فيها أو اتحدوا بها. بل منهم من أفضى به حاله إلى أن يرى نفسه فقط ولا يرى شيئا غيرها. وفيما يلي، سأعرض بعض النصوص الصوفية الدالة على أن كثيرا من أرباب التصوف كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم وهم يحسبون أنهم يعبدون ربهم.

قال الحسين بن منصور الحلاج الصوفي الحلولي مخاطبا ربه عز وجل:

مزجت روحك بروحي كما    تمزج الخمرة بالماء الزلال

وقال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا   نحن روحان حللنا بدنا

وقال محي الدين بن عربي في كتابه "الإسرا إلى مقام الأسرى"، مدعيا أن الله عز وجل يخاطبه:

"أنت كيميائي، وأنت سيميائي، أنت إكسير القلوب، وحياض رياض الغيوب، بك تنقلب الأعيان أيها الإنسان، أنت الذي أردت، وأنت الذي اعتقدت : ربك فيك إليك ومبعودك بين عينيك، ومعارفك مردودة عليك، ما عرفت سواك، ولا ناجيت إلا إياك"[1].(!!!)

وقال في أشعاره الصوفية:

فلولاه ولـولانــا               لما كان الذي كانــا

فإنـا أعبـد حقـا               وإن الله مولانــــا

وإنــا عينه فاعلم             إذا قلـت إنسانـــا

......

فأعطيناه ما يبــدو            بـه فينا وأعطانـــا

فصار الأمر مقسوما                 بإيـاه وإيــــانـا[2]

 

ويقول عمر بن الفارض متحدثا عن الذات الإلهية:

ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها          وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلـت

.........

ولولاي لم يجد وجود ولم يكــن              شهود، ولم تعهد عهود بذمـة

فلا حي إلا من حياتي حياتـــه               وطوع مرادي كل نفس مريدة !!

..........

وكل الجهات الست نحوي توجهت                  بما تم من نسك وحج وعمرة

لها صلـواتي بالمقام، أقيمـــها                وأشهــد فيها أنها لي صلت[3] !!

 

وقال عبد الكريم الجيلي في الموضوع نفسه:

فمهما ترى من معـدن ونباتـه               وحيوانه مع انسه وسجـــاياه

ومهما ترى من أبحر وقفــاره               ومن شجر أو شاهق طال أعلاه

ومهما تـرى من هيئة ملكيـة         ومن منظر إبليس قد كان معناه

ومهما ترى من عرشه ومحيطه             وكرسيه أو رفرف عز مجـلاه

فإني ذاك الكل والكل مشهـدي               أنا المتجـلي في حقيقته لا هـو !!!

وإني رب للأنــام وســيد             جميع الورى اسم وذاتي مسماه[4] !!!

وقال الشيخ الصوفي محمد الحراق المغربي التطواني في "تائيته":

أتطلب ليلى وهي فيك تجلت

وتحسبها غيرا وغيرك ليست !!

فذا بله في علة الحب ظاهر

فكن فطنا فالغير عين القطيعة

............

كلفت بها حتى فنيت بحبها

فلو أقسمت أني إياها لبرت

فحملت بها عني فلم أر غيرها

وهمت بها وجدا بأول نظرة

ولم أزل مستطلعا شمس وجهها

إلى أن تراءت من مطالع صورتي !!

.........

وأصبحت معشوقا وقد كنت عاشقا

لأن ظهوري صار أعظم زلتي

.........

ولي مقعد التنزيه عن كل حادث

ولي حضرة التجريد عن كل شركة

جلست بكرسي التفرد فاستوى

من الله عرش لي على ماء قدرتي

وقال في قصيدة أخرى:

كنت ما بيني وبيني

غائبا عني بأينــي

والذي أهواه حقا

لم يزل ذاتي وعيني

فانظروني تبصروه

إنه والله إنــــي.

إن قول ابن الفارض:

ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها          وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلـت

يفيد الإمعان والإغراق في الحلول ووحدة الوجود، إذ هو لم يكتف بإثبات هذا الشعور في حال أو مستوى "المحو"؛ الذي هو امحاء الكثرة والغيرية، وفناء السوية، وتجلي الوحدة المطلقة، حيث الخلق عين الحق والمربوب عين الرب، وإنما أكده، بكل استعلاء، حتى في حال "الصحو"؛ فذاته هي ذات خالقه سواء كان حاله محوا أو صحوا. كما يأبى هذا الضال، وهو في نشوة الاستعلاء والتيه والتكبر، أن يثبت لربه ذاتا إذ يقول:

وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلـت

فلم يقل: وذاتي بذاته أو ذاته بذاتي، وإنما قال، ليحكم بالعدم الصوفي على رب الوجود،: وذاتي بذاتي؛ فليس ثمة إلا ذاته.

لا يخفى على الناقد المتأمل في هذه الأبيات الشعرية الصوفية أن أصحابها قد حصل لديهم ما يمكن أن نعبر عنه بتضخم الأنا الصوفي؛ ذلك الإحساس الذي قذف ببعضهم في الحلول أو في وحدة الوجود أو الاتحاد، أو في إنكار الذات الإلهية وإثبات الذات الصوفية؛ كما هو واضح وصريح في أشعار عبد الكريم الجيلي. قال محمد بن قيم الجوزية في كتابه "مدارج السالكين":

سمعت بعض الشيوخ يقول: "لو أن شخصين ادعيا محبة محبوب فحضرا بين يديه فأقبل أحدهما على مشاهدته والنظر إليه فقط وأقبل الآخر على استقراء مراداته ومراضيه وأوامره ليمتثلها فقال لهما : ما تريدان فقال أحدهما : أريد دوام مشاهدتك والاستغراق في جمالك وقال الآخر : أريد تنفيذ أوامرك وتحصيل مراضيك فمرادي منك ما تريده أنت مني لا ما أريده أنا منك. والآخر قال : مرادي منك تمتعي بمشاهدتك. أكانا عنده سواء؟
فمن هو الآن صاحب المحبة المعلولة المدخولة الناقصة النفسانية وصاحب المحبة الصحيحة الصادقة الكاملة أهذا أم هذا ؟  وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكى عن بعض العارفين أنه قال : الناس يعبدون الله والصوفية يعبدون أنفسهم
أراد هذا المعنى المتقدم وأنهم واقفون مع مرادهم من الله لا مع مراد الله منهم. وهذا عين عبادة النفس فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل فإنه محك وميزان والله المستعان"[5]

نعم لقد صدق هذا الشيخ في قوله: "والصوفية يعبدون أنفسهم"، وما أظنه يقصد الصوفية جميعا، وإنما يشير إلى تلك الفئة التي عبرت من خلال كلامها وأشعارها عن المشاهد الانفعالية والوجدانية الناتجة عما يسمونه بالعشق  الإلهي الذي قاد أصحاب هذه الفئة  إلى الوقوع في الاتحاد أو الحلول أو وحدة الوجود؛ حيث يظن الصوفي العاشق، بعد تضخم الأنا الصوفي لديه، أنه ملتصق بالذات الإلهية أو أنه أصبح وإياها ذاتا واحدة. وهذا التصور المنحرف لا يجافي الفكر والفطرة الإنسانية فحسب، بل يتناقض مع العقيدة الإسلامية الصحيحة القائمة على التوحيد وألوهية الخالق وعبودية العبد.

د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب. جمادى الثانية 1436 مارس 2014.

 

 

[1] - ابن عربي : "الإسرا إلى مقام الأسرى، أو كتاب المعراج"، بيروت 1988، ص 168.

[2] - المرجع نفسه، ص 143.

[3] - انظر "تائية" ابن الفارض.

[4] - انظر "الإنسان الكامل" عبد الكريم الجيلي.

[5] -  محمد بن قيم الجوزية: "مدارج السالكين"  ج 2  ص 289  دار الجيل بيروت  د.ت

إرسال تعليق

0 تعليقات