شرف الإصلاح


إن موقع الصالحين والمصلحين في المجتمع شبيه إلى حد ما بموقع الجبال بالنسبة للأرض. فكما أن كوكبنا لا يستقر بغير الجبال "ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا" (النبأ 6-7)، فكذلك المجتمع، عند خلوه من الصالحين والمصلحين، يعتريه الاضطراب والفساد والظلم، ثم الخراب.

وإذا كانت منزلة الصالحين عظيمة الشأن، من حيث أن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على كثير من أنبيائه واصفا إياهم بالصلاح، فإن هذه المنزلة تزداد سموا ورفعة عندما يجمع الإنسان بين الصلاح والإصلاح.

والمجتمع المسلم ، على كل حال، ينبغي أن يكثر فيه الصالحون والمصلحون، كي تحصل فيه الطهارة المادية والمعنوية، وتنتشر الفضائل ويعم العدل والخير والصلاح.

والإصلاح الذي لا ينطلق من إطار ديني صحيح لا يبلغ الهدف المنشود، ولا ينفع الإنسان بل قد يجلب له الويلات والمصائب. ومن هنا ضل الفلاسفة وأصحاب العقول المادية على مر العصور وهم يضعون الخطط  والبرامج المتعلقة بالإصلاح. ذلك أن كل فيلسوف أو صاحب فكر وضعي، ينظر إلى موضوع  الإصلاح من زاوية معينة، ويغفل عن جوانب كثيرة ذات أهمية قصوى. فالمدينة الفاضلة التي تصورها الفيلسوف اليوناني أفلاطون، كمثال في رأيه للمجتمع الانساني الفاضل، لم تتحقق ولم تر النور. والمجتمع الشيوعي الذي  نظر له ودعا إليه كارل ماركس، لم يكتب له العيش إلا بضعة عقود في روسيا وبعض البلدان، وذلك بعد استعمال السلطة الحاكمة كل أنواع الدكتاتورية والبطش والارهاب. ناهيك عن الدول الغربية المعاصرة التي تزعم الإصلاح والعدل من خلال أنظمتها الديمقراطية، في حين أنها تعاني من الأزمات والمشاكل النفسية والاجتماعية التي استعصى علاجها على الفلاسفة والمفكرين الغربيين، كما أنها استعمرت بلدان ما يسمى بالعالم الثالث ردحا من الزمن مع الاستعباد والاستغلال. وهي الآن تمارس الإرهاب على المسلمين بشكل واضح ورهيب.

ومعظم مشاريع الإصلاح التي نادت بها النخب السياسية في العالم الإسلامي بعد الاستقلال السياسي، آلت إلى الإخفاق والفشل الذريع بسبب  تبعيتها للأنظمة والسياسات الغربية.ولن يصلح الناس إلا خالقهم سبحانه عز وجل، وذلك اعتمادا على الكتاب والسنة  واجتهاد الفقهاء والعلماء.

إن مقياس الخير في الأمة مرتبط بوجود المصلحين؛ قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (الأعراف 157). وكلما نقص المصلحون نقص الخير، إلى أن يفنى بفنائهم، حينئذ يعم الله المجتمع بعقاب من عنده؛ قال تعالى: "وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود 117). مما يستفاد من هذه الآية أن الله يحفظ الأمة ولا يهلكها بوجود المصلحين. ولو وجد الصالحون لكنهم غير مصلحين، ووجد الظلم الفاحش لتعرضوا مع مجتمعهم للإبتلاء أو العقاب من الله سبحانه.

والدولة المسلمة العادلة لا تثبت وتدوم إلى بتمكينها للمصلحين وعدم إذايتهم؛ قال تعالى: "الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا  الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج 41).

وعلى المصلح وهو يفكر في الإصلاح أو يمارسه، أن يتسلح بالعلم والإيمان واليقين والصبر،  ويستعين بالحكمة والتدرج ومراعاة سلم الأولويات. وأن يتفرغ لوظيفته بالكلية، مقتديا في ذلك بالأنبياء والرسل الذين تفرغوا لرسالاتهم.

ومن هنا فإن المصلح الذي يروم الوصول بعمله الإصلاحي إلى الغاية المثلى، عليه أن يخفف عن قلبه أحمال الدنيا مما ليس ضروريا، لأن قلب المصلح إذا كان منشغلا بفضول الدنيا ومباحاتها منعه ذلك من ممارسة عمله وأداء رسالته. فلا بد أن يذهب شيء من لذة الدنيا ضريبة لرسالة الحق. والمصلح الفطن هو من يترك الدنيا قبل أن تتركه. وكم من مصلح انتكس في بداية الطريق بسبب حظ من حظوظ الدنيا شق عليه أن يرغب عنه أو يزهد فيه.

"أيها المصلح... إن الله أراد أن يحفظ  دينه بك، لا أن يحفظ  دنياك بدينه. فإن ضاع شيء من دنياك في سبيل دينك فهذا هو عقدك مع ربك، فقد اشترى نفسك منك؛ "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" (التوبة 111).

فالهمّة العالية هي التي تصل إلى الهدف المرجو ، وبدونها يستحيل تحقيق الغايات. ومن أبرز خصائص الشخص المؤثر الجذاب ، اللطف والخلق الرفيع ، ولاشك ان الشخص السيئ الخلق فرد منفرد إلى أبعد الحدود ، وما هو من  الصالحين فضلاً عن أن يكون من المصلحين ، ومن هنا فقد أكدت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أهمية الإلتزام بالسلوك الجذاب الموصوف بالألفة، وعلى تجنب السلوك والتصرف المنفِّر، قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران:159 ). وقال أيضا "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ { فصلت:34).

وهكذا بحسب عظمة الغاية في النفس يستسهل الطريق. فهناك أشخاص تؤثر فيهم الابتلاءات اليسيرة فيتراجعوا. وهناك آخرون يثبتون على المشاق العظيمة.

ورغم أن للباطل جولات ثم يضمحل ويفنى، فإن انتشاره واستفحاله يخلف نوعا من اليأس والإحباط في نفوس المسلمين، فتضعف أو تموت في قلوبهم نية الإصلاح. بل  كثير منهم يلزمون الصمت مع القدرة على الكلام والبيان، وهو خطأ جسيم تترتب عنه نتائج وخيمة. ذلك أن كتمان الحق عند حاجة الناس إليه مع توفر السبيل إلى إظهاره، من أعظم أنواع الظلم.
إن الإصلاح أمر من الله، فضياع أمره يجلب الإنتقام الإلهي، قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو حدثني عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه: " لما فتحت قبرص فرّق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت ابا الدرداء جالساً وحده يبكي: فقلت يا ابا الدرداء ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الاسلام وأهله؟ فقال ويحك يا جبير: ما أهون الخلق على الله عزوجل إذا ضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة لهم الملك، تركوا أجر الله فصاروا إلى ما ترى "

ومن ناحية أخرى فإن كثيرا من المنكرات التي تنتشر في المجتمعات الإسلامية، قد ترسخ أحيانا بتشريعها؛ فقد يشرعها  العالم بفتواه، أو يسكت عنها فيحسب سكوته تشريعا وتسليما. إن العلماء عندما لا يقفون المواقف الشريفة أمام المنكرات المعلنة مع قدرتهم على إنكارها، يكونون بذلك قد خانوا الأمانة، وأسهموا في نشر الباطل والفساد؛ قال تعالى : "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" (المائدة 23).

وطريق الإصلاح ليس مفروشا بالزهور وإنما بالأشواك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" . كما أن رسائل الحق تستهدف من قبل الخصوم  من أهل الباطل. لكن بالصبر والثبات ينتصر أهل الحق والإصلاح. قا ل تعالى: "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" (الأنعام 34). هذا وإن محبة الله لعبده الصالح المصلح تقتضي وجود الخصوم  والأعداء، فلم  يسلم من أذى المخالفين والمعترضين الأنبياء والرسل فكيف بالمصلحين. قال تعالى: "لتبلون  في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" (آل عمران 186).

وعلى المصلحين أن يعملوا على إتقان فن الإصلاح والبناء، واجتناب التشكي وإلقاء اللوم على الناس، والتغلب على التشاؤم والأفكار المتعلقة بضعف وانقطاع الأمل والرجاء، أو تلك التي تحوم حول كثافة الظلام وعموم البلوى. كما على من تصبو نفسه إلى الإسهام في الإصلاح، أن يجسد القدوة في القول والعمل والسلوك والعطاء  مع  التسلح بالإخلاص والإحسان والصبر والمثابرة والإيثار وإنكار الذات.

د. عبد الله الشارف؛ مكة المكرمة، ربيع الثاني 1436- فبراير 2015.

إرسال تعليق

0 تعليقات