كان لحلول عقدي الخمسينسات والستينيات من من القرن العشرين، أي بعد خروج المستعمر البريطاني والفرنسي من البلدان المستعمرة، أثر عميق في زحزحة وتفكيك البنية الداخلية لمنظومة الاستشراق الكلاسيكي؛ حيث طفقت كثير من المؤسسات والمعاهد ومراكز البحث المتعلقة بالاستشراق، تتحدث عن أزمة هذا العلم أو دخوله في النفق المسدود. بل إن كثيرا من الباحثين في مجال الاستشراق من أعلن موته أو نهايته؛ وذلك بناء على أن الوظيفة التي انتدب لها المستشرقون، قبل وأثناء مرحلة الاستعمار، قد انتهت فلا ضرورة للاستمرار، لا سيما أن أهداف ونتائج حركات التحرر والاستقلال، بدأت تشق طريقها وتفرض نفسها كعامل أساسي في صياغة وتشكيل السياسة العالمية الجديدة.
ذلك أن الرجوع إلى الذات والهوية الاسلامية لذى المسلمين، مع إبراز نوع من التحدي تجاه الغرب؛ من خلال اليقظة الدينية والحركات الإسلامية السياسية؛ أي ما يعبر عنه بالصحوة الإسلامية، كل هذه المعطيات وغيرها، جعل كثيرا من المستشرقين وعلماء الاجتماع والانتربولوجيا والسياسيين وأصحاب القرار في الغرب، يدخلون تغييرات جذرية على صورتهم المتعلقة بالإسلام والمسلمين.
لكن هل أقام الاستشراق الجديد قطيعة فعلية مع الاستشراق الكلاسيكي ؟
إن الاستشراق الجديد، رغم وجود كثير من الاعترافات والتصريحات من لدن عدد من المستشرقين؛ حيث يتبرؤون مما وقع فيه كبارهم وسلفهم من الأخطاء والتحيزات الايديولوجية، وخدمة الأطماع الامبريالية، لا يمكن أن يستقل عن تراثه الاستشراقي أو يتنكر له؛ إذ الروح واحدة والأهداف هي الأهداف نفسها. ومن هنا فإن الاستشراق الجديد، يحافظ على العلاقات الأبوية وأواصر الصلة مع الماضي.
كما يعمل من ناحية أخرى على تجديد تجديد عميق في الطرق والأساليب والمناهج، لكي يواكب تطور الأحداث والوقائع. وبعبارة أخرى فإن الاستشراق الجديد قد تجرد من اللباس القديم ولبس لباسا جديدا، واحتفظ بروحه مع الاستجابة لتطور العصر.
ويرى د. أوليفييه مووس، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة فريبورغ في سويسرا، والأكاديمي في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، أن الاستشراق الجديد؛ "مذهب ثقافوي يقوم على تجديد وإعادة تأهيل الاطروحات الاستشراقية الكلاسيكية، ومتطلبات الدفاع عن قيم الحداثة والديمقراطية في سياق يتميز بأدلجة متنامية للعلاقات بين الشرق الأوسط والدول الغربية، تعمل على تشجيع العودة إلى قراءة ماهوية للمجال الإسلامي"[1].
ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة قد شرعت في تعبيد طريقها نحو السيطرة والهيمنة على الساحة السياسية العالمية، بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس هيئة الأمم المتحدة. وبما أن الاستشراق كظاهرة (علمية)، لا يحيا إلا في بيئة غربية تتسم بالاستعمار وحب السيطرة على الشرق، كان من الطبيعي أن تزدهر هذه الظاهرة من جديد، لكن هذه المرة، في البيئة الأمريكية حيث نشأت القوة السياسية الغربية الجديدة، وورثت أمريكا الهيمنة على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بعد تراجع وانحسار نفوذ كل من بريطانيا وفرنسا.
ويبدو أن أمريكا تبذل مجهودات مكثفة لجعل الاستشراق الجديد أكثر ارتباطا بالسياسة وصنع القرار، وذا صلة وثيقة بمعاهد ومراكز البحث المرتبطة بالسلطة السياسية ووكالة الاستخبارات.
"وقد استمر التطور في الدراسات الاستشراقية وتوسع بشكل هائل، وبخاصة في أمريكا بعد الحرب العاليمة الثانية. وزاد عدد المتفرغين لهذه الدراسات زيادة هائلة في جامعات أمريكا وكندا، فقفز عددهم من 363 عام 1969 إلى 670 عام 1986، وقفز عدد أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط في أمريكا من 823 عام 1977 إلى 1582 عام 1986، موزعين على مجالات عديدة: كالتاريخ والسياسة والاقتصاد والعلوم الانسانية والاجتماعية، بالاضافة إلى الدين. ووصلت قائمة العناوين للموضوعات المنشورة في الدوريات عن الشرق الأوسط في نشرة أوائل 1987 إلى نحو 71000 مادة"[2]
"كما كشفت الوثائق أن بعض أساتذة الجامعات الأمريكية المشهورين هم أعضاء وخبراء في المخابرات الأمريكية، ومن هؤلاء المستشرق ريتشارد ميتشل الذي كتب رسالته للدكتوراه بجامعة برنستون عن جماعة الإخوان المسلمين، ونشرت هذه الرسالة في كتاب ترجم إلى اللغة العربية مرتين، وساعدت في إعداده ونشره مؤسسة روكفلير اليهودي الأمريكي، ومؤسستا فورد وفولبرايت اللتان تقدمان الدعم للبحوث المتعلقة بالعالم الإسلامي وبالصحوة الإسلامية."[3]
وتولي المخابرات الأمريكية كذلك أكبر قدر من الاهتمام لجماعات الصحوة الإسلامية في مصر(باعتبار مصر من أكبر مراكز الثقافة الإسلامية في العالم الإسلامي؛ لوجود الأزهر بها وظهور الصحوة الإسلامية هناك بظهور الإخوان المسلمين)، وتجمع عنها المعلومات والبيانات وتقدم التقارير، وتجند في سبيل ذلك بعض أبناء المسلمين الذين باعوا أنفسهم لأعداء دينهم"[4].
يستفاد من النصوص المشار إليها، أن الاستشراق كان ولا يزال في خدمة مصالح المستعمرين والإمبرياليين الغربيين، وأن قضية أزمته أو موته لا تقوم على أدلة راسخة. وبعبارة أخرى؛ كما كان تطور الاستشراق الأكاديمي في القرن التاسع عشر مرتبطا بتوسع القوى الأوربية في احتلال الأراضي الإسلامية، كان تطور دراسات الشرق الوسط والاستشراق الجديد عموما بوصفها حقلا أكاديميا مرتبطا بظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية عظمى، وتورطها بشكل أعمق في الهيمنة على الشرق الأوسط.
وإذا كان المستشرقون المعاصرون قد لبسوا لباس العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع والأنتربولوجيا والتاريخ... وأصبحوا يمارسون أعمالهم الاستشراقية الجديدة باسم هذه العلوم، ويدعون أنهم يدرسون الإسلام والمسلمين دراسة علمية وموضوعية، فإنهم لم يبتعدوا عن روح الاستشراق قيد أنملة. بل إن دراساتهم وأبحاثهم، باعتمادها على مناهج العلوم الإنسانية، جعلت روح الاستشراق أكثر حيوية ورسوخا في البنية الثقافية والسياسية للغرب المعاصر.
[1] - أوليفييه مووس؛ "تيار الاستشراق الجديد والإسلام: من الشرق الشيوعي إلى الشرق الإسلامي"، ترجمة عومرية سلطاني، نشر مكتبة الاسكندرية، ط 1 2010.
[2] - ريتشارد دكمجيان؛ "الأصولية في العالم العربي" ترجمة عبد الوارث سعيد، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة 1409/1989 ص10.
[3] - راجع تقرير ميتشل إلى المخابرات الأمريكية بشأن تصفية الحركات الإسلامية في كتاب د. علي جريشة: حاضر العالم الإسلامي؛ ط2 دار المجتمع ، جدة 1406/1986. ص16.
[4] - صحيفة الشرق الأوسط (لندن)؛ عدد 3886/ 19-7-1989.
د. عبد الله الشارف، مكة المكرمة؛ شهر الله المحرم 1436/ نوفمبر 2014
[1] - أوليفييه مووس؛ "تيار الاستشراق الجديد والإسلام: من الششرق الشيوعي إلى الشرق الإسلامي"، ترجمة عومرية سلطاني، نشر مكتبة الاسكندرية، ط 1 2010.
[2] - ريتشارد دكمجيان؛ "الأصولية في العالم العربي" ترجمة عبد الوارث سعيد، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة 1409/1989 ص10.
[3] - راجع تقرير ميتشل إلى المخابرات الأمريكية بشأن تصفية الحركات الإسلامية في كتاب د. علي جريشة: حاضر العالم الإسلامي؛ ط2 دار المجتمع ، جدة 1406/1986. ص16.
[4] - صحيفة الشرق الأوسط (لندن)؛ عدد 3886/ 19-7-1989.
1 تعليقات
مما شرفت به وسرني كثيراً أن أكون أحد طلاب الدكتور عبدالله الشارف في مرحلة الدكتوراه بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
ردحذف