مذكرات معتمر (5): المعتمر وحلاوة القرآن




يؤم مكة للحج والعمرة مسلمون من كل بلاد العالم، رجالا ونساء. فتقع عيناك على وجوه مختلفة، وأجسام تتفاوت من حيث الطول والقصر والسمنة والنحافة. وجوه تعلوها إشراقات ربانية، تخبرك عما يختلج في صدور أصحابها من ألوان المحبة والسعادة والعبودية؛ خشوع وبكاء وتذلل وتوبة وأوبة وتذكر وتفكر واعتبار واستبصار وخضوع وافتقار... فهذا يطوف، وآخر قائم يصلي، وذاك يتلو القرآن أو يتلذذ بذكر الله؛ تهليلا أو تسبيحا أو استغفارا. وهكذا قلوب الضيوف المعتمرين معلقة بالله وعبادته، أنساها ربها أهلها وأولادها ومالها ووطنها. إنها فرصة التحرر من قيود الدنيا، ومن أغلال الشهوات والأهواء، ومن حجب النفس الكثيفة.


إن هؤلاء المسلمين المعتمرين، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، كثيرا ما يتواصلون فيما بينهم بلغة القلوب والإشارة عند تعذر  لغة مشتركة. إن لسان التقوى والمحبة هو ترجمان القلوب.


واللغة العربية قد تبوأت بفضل القرآن، منزلة عظيمة وشريفة. وعلى قد معرفة المعتمر باللغة العربية وعلمه بها، يكون فهمه وتذوقه للقرآن. فلا شك أن المعاني القرآنية، وهي تنسكب في قلب المؤمن أثناء قراءة الإمام في الصلاة الجهرية، تحدث ما شاء الله من الآثار العجيبة. في حين أن المسلم الأعجمي الذي لا علم له باللغة العربية أو حظه منها ضعيف، يصعب عليه إدراك تلك المعاني. ومع ذلك فإن القرآن يصل إلى قلبه بإذن الله. وقد ثبت علميا أن الكافر الجاهل بالعربية قد يتأثر بالقرآن عند سماعه، فكيف بمن يؤمن به من المسلمين الأعاجم ولله في خلقه شؤون.



إن هناك عنصرا ينسكب من الحس بمجرد الإستماع لهذا القرآن. فإن كان غامضاً على بعض الناس الذين لايتقنون اللغة العربية فهم يحسونه، ويجعلهم يدركون بإن مصدره هو الله.
"ولقد أدرك هذهِ العلامة الإعجازية في القرآن المستشرقون، بله المسلمون، وقال أحدهم وهو المستشرق(س.ل: (إن أسلوب القرآن جميل وفياض ومن العجب أنه يأسر بأسلوبهِ أذهان المسيحيين، يجذبهم إلى تلاوته سواء في ذلك الذين آمنوا أم لم يؤمنوا به وعارضوه.". ويكفي المتأمل ما أحدثه القرآن من تأثير هائل في حياة العرب، حتى جعلهم من رواد العلم والمعرفة وسادوا العالم به.


وكثير من المعتمرين لا يغادرون المسجد الحرام بعد أداء الصلاة المفروضة، وإنما يمكثون في أماكنهم، يناجون ربهم من خلال قراءة القرآن وتدبره. وقد لا يقطع مناجاتهم القرآنية إلا صوت المؤذن ليستأنفوا القراءة بعد أداء الصلاة المفروضة. ولئن سألتهم عن سر هذا الإقبال على القرآن في المسجد الحرام، لأجابوك أجوبة تكاد تكون متشابهة في المعنى، وإن اختلف اللفظ. إنهم في ضيافة الرحمن، قد اجتمعوا على مأدبته. أو إن شئت قلت إنهم في عرس رباني؛ طعامه وشرابه ذكر الله وقرآنه.


ومن بركة هذه البقعة الطاهرة أن القارئ للقرآن يفتح الله له من الفتوحات في فهم القرآن ما يكون سببا في ازدياد علم أو فائدة، أو السمو بالنفس وتزكيتها. وكثيرا ما تحملك قراءة الإمام في الصلاة الجهرية، بعد أن يكون الخشوع قد استغرقك وأحاط بأقطار روحك، إلى عوالم روحية لا حدود لها، ترتشف معانيها، وتشعر بالقرب من الله، ورغبة في البكاء... ثم تنهمر الدموع. إنها لحظات آية في بهاء القرب وجمال العبودية، بل إنه مشهد من مشاهد العرس الرباني الإيماني.



د. عبد الله الشارف، مكة المكرمة؛ رجب الخير 1435/ابريل 2014.



 


إرسال تعليق

0 تعليقات