مذكرات معتمر ( 3)؛ الطواف بالبيت العتيق





عباد مكرمون يطوفون بالبيت المعمور، وعباد مؤمنون يطوفون بالبيت العتيق، ونجوم وكواكب في فلكها تطوف وتسبح "وكل في فلك يسبحون" (ياسين 39 ).


لقد غمرني، حال طوافي بالكعبة، شعور إيماني قوي ذكرني بحقيقة العبودية والافتقار إلى الله سبحانه وتعالى. وإن المسلم وهو يطوف، ليشعر بجاذبية نحو الكعبة ومحيطها؛ إنها جاذبية فطرية، جاذبية تنكشف من خلالها معاني الألفة الأصلية، وإشراقات ميثاق الذر؛ "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالو بلى شهدنا" (الأعراف 172  ).


لقد تجرد المعتمر من المخيط ولبس الإحرام، كما تجرد من شهواته وأهوائه وطفق يطوف متضرعا إلى الله، سائلا إياه التوبة والمغفرة، وما شاء من الحاجات. وكلما شرع في طواف جديد، قبل الحجر الأسود أو استلمه أو أشار إليه.


قال تعالى: "وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون" (سورة الأنبياء 33). تشير هذه الآية الكريمة إلى أن حركة الكون الفسيح تتصف بالدوران الشبيه بالطواف حول مركز معين وثابت. ثم إن هذه الحركة الدورانية أو الطواف تشمل أيضا الأشياء الصغيرة والدقيقة؛ مثل الذرة التي أثبت العلم أنها تتكون من نواة يدور حولها إلكترون أو اكثر.، مما يعني أن سائر المواد الصلبة والسائلة تخضع لسنة الطواف. وهكذا يعم جميع ما خلق الله في هذا الكون ناموس الطواف كتعبير أسمى أو كمظهر جلي من مظاهر العبودية لله.


ولا غرو أن يستقبل المسلمون، في سائر أرجاء الأرض، الكعبة في صلاتهم كل يوم. كما أن هذه الجاذبية الروحية التي تجذب أرواح المسلمين إلى بيت الله أثناء الصلاة، هي نفسها التي تجعل الحجاج والمعتمرين يبادرون بالطواف بمجرد وصولهم إلى البلد الأمين.


ومن هنا يمكن القول؛ إن الطواف سلوك كوني يرمز في لغته إلى الانسجام والتناغم بين التكاليف الشرعية وقوانين الظواهر الكونية. ومن ثم فإن المسلم الطائف، حاجا أو معتمرا، يتواصل اختيارا، من خلال طوافه، مع باقي الكائنات والمخلوقات الكونية الطوافة جبرا. كما يستمد من التحامه الروحي بالكون طاقة إيمانية عزيزة، وقد يكرمه الله بنعم جليلة أو يفتح عليه بمعارف شريفة. وعند كشف الغطاء يدرك حقيقة هذا التواصل وجوهره.



د. عبد الله الشارف؛  مكة المكرمة، رجب الخير 1435/  أبريل 2014.

إرسال تعليق

0 تعليقات