مذكرات معتمر(2 )؛ من فوائد السعي بين الصفا والمروة





أثناء القيام بشعيرة السعي بين الصفا والمروة، تذكرت هاجر زوجة نبينا إبراهيم عليه السلام وسعيها بحثا عن طعام أو شراب لولدها الرضيع، الذي كانت تخشى عليه الهلاك والموت. إنها قلقة وخائفة، لكنها كانت موقنة بأن الله سيرحمها لا سيما أنه تعالى هو الذي أوحى إلى زوجها بتركها وولدها في هذا المكان القفر القاحل. لا شك ان حالا قويا من الاضطرار قد غمرها كما يغمر كل إنسان مضطر.


وهذه من بين الفوائد التي جنيتها وأنا أسعى بين الصفا والمروة متفكرا وذاكرا ومنكسرا؛ إنها فائدة الاضطرار إلى الله بكل ما يحمله هذا اللفظ من معاني الافتقار والعبودية.


وحال الاضطرار قلما يشعر به المسلم، اللهم إذا حل به ما يخيفه أو يقلقه، أو نزلت به نائبة أو مصيبة لا يستطيع لها دفعا. فيضطر للجوء إلى الله، وإفراده بالدعاء،وقطع القلب عما سواه. قال تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض" (النمل 62). وإجابة الله للمضطر تعم المسلم والكافر والبر والفاجر؛ إذ رحمته وسعت كل شيء.


وقال تعالى؛ "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين" (يونس 22). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر ؛ "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت". فعلى الحاج أو المعتمر، وهو يسعى بين الصفا والمروة، أن يذكر الله ويناجيه، ويستحضر حال الاضطرار الذي عانته أم إسماعيل هاجر رضي الله عنها. فلعل الله يحدث في باطنه من أحوال الاضطرار والافتقار والانكسار والعبودية ما قد ينتفع به في دنياه وآخرته، أو يكون سببا في توبته ويقظته.


ومن أجمل ما كتب في هذا الباب، كلام نفيس للعلامة الفقيه محمد بن قيم الجوزية، حيث يقول عن مشهد الذل والانكسار المرتبط بحال الاضطرار:


 "وهو مشهد الذل ، والانكسار ، والخضوع ، والافتقار للرب جل جلاله ، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة ، وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ، ومن بيده صلاحه وفلاحه ، وهداه وسعادته ، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها ، وإنما تدرك بالحصول ، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء ، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل ، الذي لا شيء فيه ، ولا به ولا منه ، ولا فيه منفعة ، ولا يرغب في مثله ، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه ، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير ، ويرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا ، فأي خير له من الله استكثره على نفسه ، وعلم أن قدره دونه ، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به ، وسياقته إليه ، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه ، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه ، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله .


فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه ! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم ، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة ، وملكته هذه الذلة ، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه ، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله ". (مدارج السالكين، ج1 ص 473.).

د. عبد الله الشارف؛  مكة المكرمة، رجب الخير 1435/  أبريل 2014.


 


 

إرسال تعليق

0 تعليقات