انطلقت بنا الحافلة صباح يوم الثلاثاء 21 جمادى الثانية 1435/ 22 أبريل 2014، من الساحة المحاذية لمصلى العيد بمدينة تطــاون العامرة.
أخذ السيد الفاضل محمد الشعيري، المرشد والمسؤول عن المعتمرين، مكبر الصوت، وطفق يدعو بصوته الجهوري، دعاء السفر والراكبون المعتمرون يرددون كلماته.
شعور جميل مفعم بالسعادة والابتهاج، ونحن نودع مدينتنا البيضاء الغراء. وما لبثنا أن ولجنا الطريق السيار الرابط بين طنجة والدار البيضاء. طريق فسيح ممتع، يشق الروابي والتلال والسهول الخضراء. يا له من سفر يجمع بين نعمتي الدنيا والآخرة. إنه سفر العمرة، سفر الطاعة، سفر الإنابة إن شاء الله.
وبالمناسبة، أقتطف نصا من مقال تحت عنوان "سفر في سفر" نشرته في "مدونتي" الإلكترونية، قبل سنتين.
"كثيرا ما ينتاب المسلم، أثناء سفره من مدينة إلى أخرى، أو من بلد إلى آخر، شعور بأنه مسافر إلى الله، لا سيما إذا كان متصلا بالله من خلال ذكره، أو التفكر في مخلوقاته، أو استحضار مشاهد الوعد والوعيد. ثم إن البعد، بسبب السفر، عن الأهل والأولاد وكل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية، من أشغال والتزامات وعادات وتقاليد ورموز… كل ذلك يجعل روح المسلم المسافر الذاكر، تتحرر من تلك القيود، وتحلق بكل سعادة وشوق في اتجاه الموطن الأصلي، قال الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
......
ولقد غمرني، وأنا منجذب إلى كلام الله ، شعور لذيذ بالسفر إلى الله، ورغبة عارمة في لقائه… ؛ إلهي، اشتقت إلى لقائك، وحيرني حنين الرجوع إليك، فاجعل سفري إليك سفر نوح في الجارية، ولجوئي إليك لجوء الفتية إلى الكهف، واجعل لي عندك زلفى وحسن مآب.
وقتئد حصل عندي اليقين أنني فعلا مسافر إلى الله، وأن سفري إلى مدينة.... جزء من سفري إليه، أو مرحلة من مراحل السفر الوحيد. فهمست إلى نفسي: لماذا لا أشعر بأثر السفر إلى الله عندما أكون مقيما في بلدتي بين أهلي وعشيرتي؟ فكان الجواب: إن الروح، أثناء الإقامة بين الأهل، غالبا ما تكون مقيدة بقيود مادية واجتماعية، وأخرى نفسية شهوانية، فأنى لها أن تتمتع بمتعة السفر إلى الله؟
ولقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم، عن الشعور بالسفر إلى الله، تعبيرا عميقا عندما قال: “مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” (حديث صحيح؛ أحمد والترمذي وابن ماجة). كما قال في دعاء له: “أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك”.
ومما لا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم الشوق إلى لقاء الله، وكذلك من اقتدى به واهتدى بهديه ناله نصيبه من الشوق ذاته. وما ظفر المحبون بنعيم المحبة ولذة الشوق إلى الله إلا بدوام ذكره، والذكر هو العبادة التي يتزود منها السائر إلى الله سبحانه ".
بين الفينة والأخرى يباغتنا صوت السيد محمد الشعيري، حاملا إلينا باقات من المواعظ وكذا النصائح والآداب المتعلقة بسنة العمرة. وأحيانا ينوب عنه ولده الشاب طارق حفظه الله، فيتحفنا بنصائح وفوائد جمة.
بعد سويعات، وصلنا إلى مدينة بوزنيقة، واتجهنا نحو مطعم في ضاحية من ضواحيها؛ حيث جمال الطبيعة ونقاء المناخ. تناولنا وجبة الغذاء، ثم صلينا الظهر والعصر جمعا وقصرا.
ركبنا الطائرة، الخطوط الملكية المغربية، على الساعة الثامنة مساء، وتعمق الإحساس بالسفر إلى الله والعزوف عن الدنيا. كما فتحت نافذة من نوافذ قلبي، وصرت أشاهد بعين بصيرتي مشاهد وصورا وأحداثا، مرتبطة بالمكان المقصود؛ مكة والمدينة. منها بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة المشرفة؛ "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" (البقرة 126)، ومنها مشاهد وأحداث البعثة النبوية، وكذا وقائع الهجرة من مكة إلى المدينة. إنه تاريخ حافل بالإنجازات العظيمة المؤيدة بالوحي، تلك الإنجازات التي غيرت وجه العالم.
قرأت أجزاء من القرآن، والطائرة تحلق على ارتفاع عشر كيلومترات بسرعة قدرها 920/كلم في الساعة. إنها آية من آيات الله. عباد على متن طائرة لبوا نداء الله وهبوا معتمرين يدعون الله ويذكرونه، وهم في السماء كأنهم ملائكة.
بعد ست ساعات نزلت الطائرة في مطار جدة الدولي. قاعات الانتظار مليئة بالمعتمرين من كل بلدان العالم الإسلامي. إنه عرس إيماني .
ركبنا الحافلة قاصدين المدينة المنورة، حوالي الساعة العاشرة صباحا. وتفصل المدينة عن جدة مسافة قدرها أربعمائة كلم، توقفنا خلالها مرتين للاستراحة والصلاة والغذاء. ومما أثار دهشتي أن الأراضي الواسعة الرابطة بين المدينتين، عبارة عن جبال وصخور بركانية حمراء أو سوداء، ولا أثر لخضرة أو ظل أو أنهار أو أشجار. ومما لا شك فيه أن هذه البيئة الصخرية والقاحلة القاسية، لها أثرها العميق في نفسية الإنسان الحجازي.
وصلنا إلى طيبة الفيحاء، مدينة الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، بعد الظهر، واتجهت الحافلة نحو حي الفنادق المحاذي للمسجد النبوي، ونزلنا بفندق "مودة النور".
مكثنا في طيبة أربعة أيام، ننتقل بين مكان الإقامة والمسجد النبوي، مقبلين على الصلوات الخمس، لا تحول بيننا وبين ذلك مشاغل دنيوية، كما هو الحال في بلادنا بين أهلنا ومعارفنا.وكثيرا ما نمكث في المسجد بين الصلوات نستزيد بذلك الثواب، ذاكرين الله أو مقبلين على القرآن.
د. عبد الله الشارف؛ المدينة المنورة، جمادى الثانية 1435/ أبريل 2014.
0 تعليقات