خصوصية الأسئلة والقضايا الاجتماعية في البلدان الإسلامية





أجمع الباحثون والدارسون النقاد في ميدان تاريخ نشأة وتطور العلوم الغربية الحديثة على أن الصراع المرير والطويل بين رجال الدين والعلماء والفلاسفة، كان عاملا أساسيا في نشأة النهضة العلمية؛ حيث ترعرعت الفلسفة الحديثة بعقلانيتها وماديتها. كما تأسست العلوم الطبيعية، ثم العلوم الإنسانية والاجتماعية. وما كان لهذه العلوم أن تسود في أوربا الحديثة، إلا بعد كسر شوكة رجال الدين واللاهوتيين، الذين احتكروا المعرفة قرونا طويلة، ومنعوا الأوربيين من التعلم .


وقد تشكل في وعي الرجل الغربي الموقف العدائي من الدين المسيحي، بل من كل الأديان. وحصلت لديه القناعة بأن الدين يعادي العلم، ويمنع العقل من التفكير وممارسة وظيفته الطبيعية.


وبناء على ذلك، فإن الدين، في زعمه، لا يصلح للتقدم والنمو الثقافي والحضاري، كما لا يستطيع تقديم الحلول للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولا توجيه الانسان الوجهة الصحيحة، التي تضمن له الحياة السعيدة والآمنة. وهكذا أسند هذا الدور إلى علماء الاجتماع والنفس، الذين اجتهدوا في دراسة الأوضاع الاجتماعية والنفسية للإنسان الأوربي الجديد؛ إنسان ما بعد الثورات الدينية والعلمية والإجتماعية والسياسية. فظهرت النظريات الاجتماعية والنفسية التي تفسر الظاهرة الإنسانية، وتوجهها انطلاقا من رؤى وتصورات فلسفية وايديولوجية لبست لباسا علميا.


يقول الدكتور إبراهيم عبد الرحمن رجب:


"والحضارة الغالبة اليوم، حضارة تحترم العلم وتتطلع إليه بأنظارها طلبا للهداية والرشاد، بعد أن رفضت تلك الحضارة "هداية" الديانات المحرفة، التي حاولت أن تفرض باطلها على العلم والعلماء في مطالع العصر الحديث في أوربا. فاضطرتها المجتمعات الغربية في نهاية المطاف للانزواء إلى زوايا الحياة الفردية الخاصة، مستبعدة إياها بالكلية من إدارة شؤون الدنيا، وذلك فيما أصبح يعرف بالاتجاه العلماني. ومن هنا فقد احتلت "العلوم" الاجتماعية مكانا كان في الماضي محجوزا لوحي السماء... احتلت مكانة توجيه الناس إلى ما يصلح حياتهم فيما يغيب فهمه وإدراكه عنهم، كالأمور المتصلة بأهداف الإنسان وحاجاته في هذا الوجود، وفي كيفية تنظيم الناس لمجتمعاتهم، في ضوء تلك الأهداف وهكذا... فأصبحت "نظريات" العلوم الاجتماعية بمثابة الموجهات الكبرى لإلهام الناس كيف يتصرفون وكيف يعيشون، فرأينا الناس يهرعون وراء فرويد وغيره ممن ينتسبون لنظرية التحليل النفسي، يستلهمونهم الرشد في فهم النفس الإنسانية التي لا تزال مستغلقة على الفهم...


إن التوجهات العامة لتلك العلوم ونظرياتها، والافتراضات الأساسية التي بنيت عليها، قد نبتت وتطورت في إطار تفاعلات وصراعات، بين قوى اجتماعية محددة، في ظروف تاريخية وجغرافية خاصة...


ولكن هل يمكن القبول بنتائج تلك المعارك التاريخية بين رجال الدين ورجال العلم الأوربيين، في المجتمعات الإسلامية التي لم تشهد إلا وحدة العلم والوحي؟... إن من الواضح أننا لسنا ملزمين بمتابعة غيرنا في أخطائهم وفي تجاوزاتهم...


إن التزامنا "العلمي" يحتم علينا أن نعيد النظر فيما درسناه وندرسه من هذه العلوم، لكي نتبين مواطن الخطأ في مسلماتها الأساسية..."[1]


يستنتج مما سبق ، أن طبيعة المراحل التاريخية التي مر بها الإنسان الأوربي قبل بضعة قرون، وطبيعة الصراع بين الدين المسيحي الكنسي والعقل الأوربي التواق الى العلم والحريةن وطبيعة المشاكل الإجتماعية والسياسية التي نتجت عن الثورات العلمية والصناعية...كل ذلك أدى إلى طرح أسئلة اجتماعية وفكرية وحضارية، تخص المجتمع الأوربي. معنى ذلك أن القضايا والأسئلة الفلسفية والإجتماعية والنفسية التي أفرزها،ولا يزال، التطور الثقافي والحضاري المشار إليه، هي أسئلة وقضايا تاريخية خاصة ومحددة زمانيا ومكانيا وحضاريا. إنها تخص المجتمعات الأوربية، وقد شملت في تطورها وتجددها ما يعرف الآن بالمنظومة الغربية. ومن هنا، أخطأ من ظن أن تلك المعارف والرؤى والتصورات الإجتماعية والنفسية والفلسفية الغربية، تتعدى حدودها الجغرافية والحضارية وتتصف بالشمولية ؛ أي تشمل حضارات وثقافات أخرى مغايرة.


إن المجتمعات الإسلامية المعاصرة لها أسئلتها الخاصة، ولها قضاياها الإجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية... لا يمكن تحليلها والإجابة عنها إلا انطلاقا من الهوية والتراث، والبنيات المادية والمعنوية للواقع الإسلامي المعاصر.


إن العلوم الإجتماعية التي أنتجها الغرب المعاصر، ليست علوما كونية مثل العلوم الطبيعية، ولا تعدو أن تكون سوى مدارس ونظريات محلية، أفرزها مسار تطوره الحضاري. ثم إن هذه العلوم ساحة من ساحات الصراع الأيديولوجي سواء بين أنساق ونماذج الحضارة الواحدة، أو بين المنظومات الحضارية العالمية الكبرى. ومن هنا فليس من المنطقي أن نلزم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بفلسفات ومدارس ونظريات اجتماعية لا تعبر عن واقعها وخصوصياتها.



وقبل ما يزيد على ثلاثة عقود؛ أي في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي الميلادي، ظهر  بعض المفكرين والدارسين المسلمين، الذين أخذوا على عاتقهم النهوض  بالعلوم الإجتماعية والنفسية والتربوية، اعتمادا على التراث الإسلامي مع الإستفادة المشروطة من الثقافة الغربية. وهكذا انتشرت الدعوة من خلال التأليف والندوات و اللقاءات، إلى التأصيل الإسلامي للعلوم الإجتماعية والنفسية والتربوية، أوإلى ما سمي بأسلمة المعرفة، أو أسلمة العلوم الإنسانية. وهي محاولة رائدة في هذا الميدان؛ حيث تحث على التمسك المرن بالأصالة والثوابت الحضارية للمجتمع الإسلامي، كما تنبذ كل أنواع التبعية والتقليد الذي وقع فيه جل المشتغلين بهذه العلوم في بلادنا. وقد يشكل هذا التيار التجديدي، الذي يتزعمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، رغم بعض الانتقادات الموجهة إليه، لبنة من لبنات صرح النهضة الفكرية في البلدان الإسلامية، التي هي في أمس الحاجة إلى التجديد والإبداع في إطار الهوية الحضارية والثوابت، والقيم الدينية والثقافية الإسلامية.



د. عبد الله الشارف/ جامعة القرويين، كلية أصول الدين. تطوان المغرب. جمادى الثانية 1435/ أبريل 2014.


 

















[1] - إبراهيم عبد الرحمن رجب؛ التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، دار عالم الكتب/ الرياض 1996، ص 7-8.




إرسال تعليق

0 تعليقات