في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، قام الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (1779-1857) بتأسيس علم الاجتماع الغربي، بوصفه علما مستقلا في ذاته، لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية، شأنه في ذلك شأن العلوم الطبيعية. فكتب يقول:
"إنه لدينا الآن فيزياء سماوية ، وفيزياء أرضية ، ميكانيكية أو كيميائية ، وفيزياء نباتية وحيوانية ، ومازلنا بحاجة إلى نوع آخر من الفيزياء هو الفيزياء الإجتماعية، حتى يكتمل نسقنا المعرفي عن الطبيعة. وأعني بالفيزياء الاجتماعية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة، باعتبار هذه الظواهر من روح الظواهر العلمية والطبيعية والكيميائية والفيسيولوجية نفسها، من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة"[1].
لقد اعتقد أوجست كونت أن علم الاجتماع هو المظهر المتطور النهائي للمعرفة الإنسانية، وأنه يقوم على المناهج نفسها التي قامت عليها العلوم الطبيعية، وذلك بافتراض التماثل بين ما هو اجتماعي وما هو طبيعي.
أما من حيث الموضوع، فقد قسم علم الاجتماع إلى قسمين: علم الاجتماع الستاتيكي؛ ويتناول ما هو ثابت نسبيا ؛ ( المؤسسات والتنظيمات، والنظم الأسرية والسياسية والاقتصادية...). وعلم الاجتماع الديناميكي؛ ويدرس التغير وحركة المجتمع. ومن ناحية أخرى اعتبر أن المجتمعات الإنسانية تمر عبر مراحل حتمية ثلاث؛ المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية.
ولقد كانت الثورة الفرنسية أعظم سند وعامل لقيام العلوم الاجتماعية؛ حيث ذهب نقاد أوجست كونت إلى أن نظريته في علم الاجتماع؛ تعبير عن الإيديولوجيا المنبثقة من واقع المجتمع الفرنسي بعد الثورة. وقد عبر أوجست كونت نفسه عن ذلك قائلا: "لولاها؛ أي الثورة، لما أمكن أن توجد نظرية التقدم، ولما أمكن تبعا لذلك أن يوجد العلم الاجتماعي"[2].
بيد أن الثورة العلمية التي سبقت الثورة الفرنسية ببضعة قرون، كانت قد مهدت الطريق لظهور وتطور العلوم الطبيعية، ثم العلوم الإنسانية. كما لا ننسى أثر الثورة الصناعية التي انطلقت من إنجلترا، في الإسهام الإيجابي في هذا المجال.
والخلاصة أن هذه الثورات العلمية والسياسة والاجتماعية المتلاحقة، قد أثرت في بنيات المجتمعات الأوربية؛ حيث تفكك النظام الإقطاعي، وحل محله النظام البورجوازي ثم الرأسمالي. ولقد عانت الأسر والطبقات الفقيرة والمتوسطة من تداعيات هذا التحول الاجتماعي والاقتصادي؛ إذ انتقل الفلاح الأوربي من أسر وعبودية النظام الإقطاعي، إلى جشع واستغلال النطام البورجوازي.
وهكذا أصبحت المسألة الاجتماعية الشغل الشاغل لكثير من المفكرين والسياسيين في ذلك العصر. ومن هنا كان أوجست كونت يهدف من خلال إنشائه لعلم الاجتماع إلى أمرين أساسين:
1- تقديم برنامج اجتماعي وسياسي كفيل بإنقاذ المجتمع الفرنسي والأوربي من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
2- جعل علم الاجتماع في إطار فكري وفلسفي شامل ومستلهم لروح العصرن؛ ذلك الإطار الذي سماه أوكست كونت بالمدهب الوضعي.
ولقد كتب أوجست كونت، سنة 1822، كتابا تحت عنوان: "مشروع الأعمال العلمية الضرورية لأعادة تنظيم المجتمع"، حيث بسط القول في موضوع البرنامج الاجتماعي المذكور. كما أنفق عشر سنين من عمره، 1832-1842، في تأليف كتابه الكبير (ستة مجلدات)؛ "دروس في الفلسفة الوضعية" التي تشكل الإطار الفكري والفلسفي لعلم الاجتماع.
وإذا كانت الآثار التي خلفتها الثورة الفرنسية قد روعت أوجست كونت، فإنه لم يهاجمها، ولم يقصد العودة بالمجتمع إلى الحالة التي كانت سائدة قبل الثورة، ولكنه استهدف الحفاظ على الحالة القائمة بالفعل.
"لقد استهدف الفكر الوضعي عند كونت الحفاظ على ما هو كائن. ونظرا إلى إيمانه أن العالم مسير بالأفكار، فقد اعتقد أن الفوضى الفكرية تنتج فوضى اجتماعية. وهكذا رأى بأن المهمة الملحة في تلك الفترة، هي إخضاع الظواهر الاجتماعية لقواعد المعرفة العلمية بغية إنتاج معرفة اجتماعية منظمة تكون مقبولة من طرف الجميع، وعلى هذا الأساس، فعلم الاجتماع باكتشافه لقوانين عامة تحكم الظواهر الاجتماعية، سوف يحد من التدخل السياسي للأفراد والجماعات. ومن خلال ذلك يعم موقف الخضوع اتجاه الظواهر المحكومة بقوانين، مما يساعد على إقامة نظام أخلاقي. إن فرضيته الأساسية هي توسيع مجال التحكم في الطبيعة إلى الإنسان والمجتمع، ويأتي تأسيس علم الاجتماع إذا كضرورة فكرية وسياسية وأخلاقية ملحة"[3].
والخلاصة أن تفكير أوجست كونت كعالم اجتماع، كان انعكاسا للأحداث المضطربة التي اتسم بها عصره؛ ذلك أن الثورة الفرنسية أدخلت تغييرات جذرية وعميقة على المجتمع، كما أن ظاهرة التصنيع أحدثت في كيان المجتمعات الأوربية خلخلة وهزات عنيفة. ومن هنا رغب أوكست كونت في وضع علم جديد للممجتمع، يهدف إلى تفسير القوانين التي تنظم حياة المجتمع كما هو الحال في العالم الطبيعي. ومثلما يسمح لنا اكتشاف القوانين التي تحكم العالم الطبيعي بالسيطرة على الأحداث والتنبؤ بوقوعها حولنا، فإن كشف القوانين التي تحكم سلوك المجتمعات الإنسانية سيعيننا، يرى أوكست كونت، على رسم مصائرنا والارتقاء بحالة الرفاه البشري. وكان أوجست كونت يرى أن المجتمع، مثله مثل العالم الطبيعي، يمتثل في أنشطته لقوانين ثابتة لا تتغير.
بيد أن كثيرا من الأبحاث العلمية والدراسات الاجتماعية النظرية والميدانية، أثبتت أن القوانين الاجتماعية نسبية وليست مطلقة، وأن مماثلتها أو تشبيهها بالقوانين الطبيعية، محض مجازفة وادعاء.
د. عبد الله الشارف؛ كلية أصول الدين/ جامعة القرويين تطوان المغرب. جمادى الأولى 1435/ مارس 2014.
[1] - أحمد الخشاب: "التفكير الاجتماعي؛ دراسة تكاملية للنظرية الاجتماعية"، بيروت دار النهضة العربية 1981، ص 545.
[3] - نيقولا تماشيف؛ "نظرية علم الاجتماع؛ طبيعتها وتطورها"، ترجمة محمود عودة وآخرون، سلسلة علم الاجتماع المعاصر؛ 2، ط8، القاهرة؛ دار المعارف، 1983، ص45.
0 تعليقات