بين الفلسفة العقلانية والوجدان






يرجع قيام الفلسفة الحديثة في أوربا إلى حركتين تاريخيتين، الأولى: حركة النهضة الفكرية وإحياء العلوم وآثار اليونان، والثانية: حركة الإصلاح الديني. ففي منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، بدأت آثار اليونان وفلسفتهم تتسرب إلى عقول المثقفين والمفكرين الأوربيين، وانبعثت من إيطاليا لغة اليونان القدامى وفلسفتهم. ثم إن أسباب حركة النهضة الفكرية هاته، ترجع حسب بعض المؤرخين إلى أيام الحروب الصليبية و الاستيطان المسيحي  للقدس، و ولغيرها من المدن والحصون والقرى، حيث استفاد المسيحيون من حضارة المسلمين ومدنيتهم وعلومهم، وكان التلاقح الثقافي بينهما لصالح الغزاة. أضف إلى هذا حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية التي انطلقت من صقلية في القرن الثالث عشر الميلادي، ثم انتشرت في بعض المدن والمراكز العلمية الإيطالية والإسبانية والفرنسية.


أما فيما يخص الحركة الثانية أي حركة الإصلاح الديني، فإنها أسهمت بدور فاعل في تحرير العقول من العبودية التي فرضها اللاهوتيون والكنسيون. وقد تجلى ذلك في ظهور المذهب البروتستانتي على يد لوثر وكالفن، ذلك المذهب الذي دعا إلى التسلح بروح النقد وإخضاع النص الديني للتحليل والنقد العقلي. ولقد أدى تعاون النهضة الفكرية والعلمية مع حركة الإصلاح  الديني، إلى إنتاج عامل ثالث هو ازدهار العلوم الطبيعية، الذي كان له الأثر الفعال والمباشر في تحويل فلسفة القرون الوسطى المسيحية إلى الفلسفة الحديثة.


لم تكن الفلسفة الأوربية الحديثة تدعو إلى تشجيع البحث في العلوم الطبيعية فحسب، وإنما جعلت من الإنسان الحر محور تفكيرها؛ حيث دعت إلى إعادة بناء الإنسان الأوربي انطلاقا من أسس جديدة، وقيم إنسانية وضعية وفلسفية تقوم على تقديس العقل. وبذلك فشا الاعتقاد بأن العقل يستطيع حل كل ألغاز ومشاكل العالم. ثم إن هذا الميل إلى إخضاع كل شيء للعقل وسلطته، أدى إلى وضع العقل نفسه تحت مجهرالبحث والتحليل؛ فتساءل الإنسان الأوربي عن أصول المعرفة وطبيعة الإدراك، وأيهما الحكم في المعرفة: العقل أم التجربة؟ فجا ء العقلانيون، ويمثلهم ديكارت، وردوا المعرفة إلى العقل، وجاء التجريبيون، ويمثلهم بيكون، وأرجعوها إلى التجربة.


ظل العقل يشكل باستمرار محورا من المحاور الأساسية في الفلسفة الأوربية الحديثة. وعندما نشأ علم النفس الحديث، مال بعض علمائه إلى دراسة العمليات العقلية من إدراك وتعلم وتخيل، ودراسة خصائص الدماغ، والجهاز العصبي، وتعزيز ذلك بعلم التشريح، فحدث على إثر ذلك اكتشاف الذكاء المعرفي في فرنسا سنة 1905 على يد ألفريد بيني؛ الذي قام بابتكار طريقة لتشخيص  المستويات العقلية لدى الأطفال الأسوياء واللأسوياء، في المصحات والمدارس الابتدائية في باريس، وتواصلت الجهود في هذا المضمار على يد علماء بريطانيين وأمريكيين وألمانيين.


" أما الوجدان أو الانفعال، فقد نظر إليه السيكولوجيون على أنه متغير غير منظم ومشوش، ويصعب ضبطه أو السيطرة عليه، وأنه يتناقض مع التفكير المنطقي. وقد سادت هذه النظرة منذ القرن الثامن عشر، وسميت ب "حركة العقلنة"، التي لا ترى للوجدان دورا يذكر في نجاح الفرد، وأن حياته ستكون أفضل لو تم تحكيم عقله وعزل انفعالاته، حتى لا تشوش على التفكير السليم. وأن الانفعالات تعكس صورة غير حضارية للفرد.


وتبعا لهذا الاتجاه، فقد اقتصر مفهوم الذكاء لدى معظم الباحثين، لفترة طويلة من الزمن، على الذكاء المعرفي فقط؛ الذي يشير إلى مجموعة من القدرات المعرفية كالتفكير المجرد، والاستدلال والحكم والذاكرة وغيرها. غير أن هذه النظرة أثارت حفيظة بعض السيكولوجيين الذين شعروا بالخوف من سيطرة المدرسة المعرفية على العوامل الأخرى التي تتحكم في السلوك البشري، وفي مقدمتها العامل الوجداني، مما قد يؤدي إلى اختلال النظرة المتزنة إلى الإنسان باعتباره كائنا يجمع بين العقل والوجدان".[1]


وفي بداية الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي، طرأ تحول في علم النفس الحديث متعلق بموضوع الذكاء والقدرات العقلية والنفسية؛ حيث أعيد النظر في الجانب الوجداني والانفعالي عند الإنسان. وبدأ الحديث يكثر بين علماء النفس عن الذكاء الوجداني أو الانفعالي، وأهميته في وقتنا الراهن الذي تفشت فيه مظاهر الفشل والانحراف والعنف، وتصاعدت وتيرة الجرائم والنزاعات والحروب. وهكذا برزت أهمية الذكاء الوجداني كقوة مسيطرة على كل قدراتنا الأخرى إيجابا وسلبا؛ إنها قوة الوجدان. كما تجعل من هذا الذكاء فنا من فنون قيادة الانفعالات وإدارتها. وانتشرت في السنوات الأخيرة كثير من الأبحاث العلمية والتربوية تتمحور حول هندسة الانفعالات وبرمجتها، مرتبطة بالتفكير وتفعيل مهاراته للوصول إلى وعي حقيقي بالذات وإدارتها في المواقف الصعبة. "وتسهم لغة الذكاء الانفعالي في هندسة الذات وتفعيل مسارات حيويتها في التوافق مع الذات والآخرين، واستثمار ذلك في تفعيل مسارات الطاقة اللامحدودة في مكنوناتها، لتبحر في عوالم التفكير الخلاق، والإبداع في الحياة، وهذه هي مكتسبات الاتجاهات السيكولوجية الحديثة، حيث أن حركة علم النفس في بداياتها؛ كانت ترفض كل ما يمت إلى الانفعالات بصلة ولا تقدس إلا لغة العقل والمعرفة، ولكننا في عصر الحداثة.



د. عبد الله الشارف؛ كلية أصول الدين/ تطوان المغرب. جمادى الأولى 1435/ مارس 2014.










[1] -  د. بشير معمرية؛ "الذكاء الوجداني مفهوم جديد في علم النفس"؛ مجلة علم التربية، عدد 16، 2005، ص 53/ الجديدة المغرب، مطبعة النجاح، الدار البيضاء.




إرسال تعليق

0 تعليقات