الإيحاء الذاتي والذكر



لقد أثبتت الدراسات والأبحاث النفسية قديما وحديثا، أن الإنسان الذي يشكو ضعف الإرادة، يستطيع تقويتها والرفع من مستواها عن طريق الإيحاء الذاتي. والإيحاء في هذا المجال عبارة عن عملية نفسية وعقلية تهدف إلى إيصال فكرة إلى قلب الإنسان، وتثبيتها في عقله وشعوره. وأفضل الإيحاءات النفسية هي تلك التي ننشئها بأنفسنا، فنتخيل أننا نملك القوة العقلية والفكرية التي نحتاج إليها ونستخدمها مثلا، في قهر الاضطراب والخمول، أو في النهوض بالعزيمة. وهكذا من خلال الإيحاءات المتكررة ذهنيا عبر ترديد بعض العبارات الدقيقة والهادفة، مثل: "أستطيع التخلص من هذه العادة... بإمكاني أن أفعل غير ذلك... لقد أصبحت حرا"، أو مثل : "أنا هادئ تماما... أنا لا أشعر بالمؤثرات الحسية.."، يغدو المرء وكأنه يحيا معاني تلك العبارات الأمر الذي يدفعه فعلا إلى تطبيقها وممارستها.


وقد ثبت مؤخرا، في البحث العلمي التجريبي، أن الفكرة تولد إشعاعا بالغ القوة، وأنها تبث في الأثير حركات اهتزازية، من شأنها أن توقظ في بعض الأشخاص حالات روحية ونفسية منسجمة مع الطبيعة الفكرية والنفسية لمرسلها أو صاحبها. وهذا الأمر نلمسه مثلا في العلاقة بين العالم والمتعلم، أو بين الشيخ الصوفي والمريد، أو بين محب ومحبوبه.


وإذا كانت الفكرة الصادرة عن المرسل تؤثر في المرسل إليه، فإن تأثر الإنسان بأفكاره من باب أولى، حيث يكون في آن واحد مرسلا ومتلقيا. والإنسان يتأثر ويخضع تلقائيا لأفكاره مدى حياته، إلا أنه يعجز أحيانا عن تمثل واستلهام بعض الأفكار التي يرغب فيها، وهنا يأتي دور الإيحاء الذاتي كوسيلة ناجعة لتحقيق هذه الرغبة.


والإنسان المسلم الذي يكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى بخشوع وطمأنينة وتأمل واستحضار لعظمة الخالق، يكون ممارسا بطريقة تلقائية ومتصلة، لعملية الإيحاء الذاتي بكل ما تحمله هذه العملية من معاني إيجابية وعميقة. فالذاكر المردد لصيغة من صيغ الذكر المشروعة، يظل مستلهما كل المعاني الروحية التي تنطوي عليها تلك الصيغة، فتنساب في باطنه وكيانه، محدثة ما شاء الله من الخير والأسرار، كما تعمل على تفجير الطاقات الروحية والإيمانية الدفينة، مما يكون له أثر مباشر في تفعيل الإرادة ومدها بالقوة والحيوية والنشاط.


إن عكوف الذاكر مثلا على قول :"أستغفر الله" أو "لا إله إلا الله" أو "سبحان الله" ، يجعله يستوحي من هذه الكلمات معاني الاستغفار والتهليل والتسبيح، وهي بلا شك معاني قوية مرتبطة بالتوحيد والفطرة، تزود الذاكر بشحنات إيمانية عالية، تمكنه من تزكية نفسه والسهر على بناء شخصيته بناء متميزا، مما يعينه على القيام بوظيفة الرسالة والاستخلاف. وكلما حافظ المسلم على الذكر والتذكر على المنهج النبوي، ترقى في سلم السيطرة على نفسه، واكتسب القدرة على مراقبتها بطريقة تلقائية، وبالتالي ازدادت ثقته بها وبكفاءاته وقدراته.


وهكذا فإن الإيحاء الذاتي بواسطة الذكر أفضل وأسمى أنواع الإيحاءات الذاتية، لما يثمره من فوائد في ميدان الإرادة والشخصية وإعادة الثقة بالنفس، وتجديد الثقة بالخالق عز وجل، والارتباط بأسس الفطرة والتوحيد. كما يسهم، من خلال الذكر دائما، في تربية الذوق والوجدان وتنمية قوى الإرادة التي تتجسد عمليا في محبة الله وخشيته ورجائه. لأن محبة الله تدفع المسلم إلى طاعته وحده، وخشية الله تزجره عن المضي فيما يغضب مولاه، والرجاء من الله يمنحه القدرة على الاستمرار وتحمل المصاعب والأزمات. والنجاح في هذه الإرادات الثلاث، يؤدي إلى تحرير القلب من الخضوع للأهواء النفسية والطواغيت والأصنام المادية والمعنوية.


د. أبو خولة عبد الله الشارف؛ كلية أصول الدين، جامعة القرويين/صفر الخير 1435-دجنبر 2013/تطوان المغرب.


إرسال تعليق

0 تعليقات