إن العلوم الإنسانية في الغرب المعاصر تعاني مشاكل حادة، سواء على مستوى المنهج أو فيما يتعلق بالبناء النظري. ويرى كثير من الباحثين المتخصصين أن هذه المشاكل المنهجية والنظرية مرتبطة بطبيعة موضوع العلوم الإنسانية من جهة، وبالمؤثرات الفلسفية والإيديولوجية التي رافقت تلك العلوم في نشأتها وتطورها ومسيرتها التاريخية.
ثم إن هذه الفلسفات والإيديولوجيات التي صبغت العلوم الإنسانية بصبغتها، تمثل النتاج الفكري والفلسفي، الذي تمخض عن قرون من الصراع بين الفكر اللاهوتي الكنسي والفكر المتحرر، الذي عرف عند مفكري وفلاسفة عصري النهضة والتنوير.
ولما دخل القرن الثامن عشر الميلادي، كانت الثقافة الأوربية قد قطعت أعظم الأشواط في التحرر من هيمنة الفكر اللاهوتي الكنسي. ورفع فلاسفة التنوير شعار العقل، وآمنوا بقدرته على فهم الكون وتسخيره للإنسان، كما أخضعوا المعارف والعلوم للدراسة العقلية المتسلحة بالنقد والتحليل.
ومع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، بزغت العلمانية كمذهب قوي في وجه الكنيسة الكاثوليكية المثخنة بالضربات، والانتقادات الفلسفية والعلمية. كما توج هذا الوضع بأكبر ثورة اجتماعية وثقافية في تاريخ الغرب؛ وهي الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي، إلى جانب الثورة الصناعية، شكلت أعظم سند لقيام المنهج الوضعي، وذلك على يد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت، في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وهكذا قامت الفلسفة الوضعية في وجه كل تفكير يخرج عن دائرة الحس، سواء أكان تفكيرا دينيا، أو فلسفيا، أو عقليا.
يقول أوجست كونت: "إننا ما دمنا نفكر بمنطق وضعي في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة السياسة أو الدين. فالمنهج الوضعي الذي نجح في العلوم الطبيعية غير العضوية، يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير"[1].
لكن يواجه من يتصدى لدراسة منهج العلوم الإنسانية، بعدم اتفاق العلماء وفلاسفة العلم فيما بينهم بشأنه. وقد ظهر هذا الخلاف واضحا منذ النشأة الحديثة للعلوم الإنسانية أو الاجتماعية الغربية.
"فنجد من جهة من ينادي بوحدة المنهج بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن العلوم الطبيعية قد وصلت إلى درجة من التقدم، مما يجعل مناهجها تقدم مثالا جديرا بالاحتذاء والتطبيق في المجال الإنساني. فالإنسان، في رأيهم، ليس إلا جزءا من العالم الطبيعي... و لا مندوحة لمادة العلاقات الإنسانية، إذا أريد لها أن تكون علما، عن السير في نفس الطريق المنطقي الذي تسير فيه بقية العلوم الطبيعية".[2]
وهناك الرافضون لفكرة الوحدة المنهجية بين علوم طبيعية وعلوم إنسانية، وللرأي القائل بأن العلوم الطبيعية هي المثل الأعلى للفهم العقلي للواقع. ويذهب هؤلاء الرافضون إلى أنه: " بينما تتعامل العلوم الطبيعية مع علاقات ثابتة وموضوعات مادية، قابلة للقياس وتخضع للتجارب، فإن العلوم الإنسانية تفقد التجارب والقياس وتتعامل مع موضوعات معنوية ونفسية تند عن الثبات. من الخطأ إذا، في رأي أصحاب هذا الاتجاه، تطبيق المناهج التي ثبت نجاحها في العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية، لأن هذا سوف يؤدي إلى خلط كبير، بل هو السبب في تخلف العلوم الإنسانية. فالوحدة المنهجية في رأيهم مرفوضة لأنها تقوم على افتراض غير مؤكد، فحواه أن الطرق المستخدمة من قبل العلماء الطبيعيين هي وحدها المتصفة بالعلمية"[3] .
وهكذا إذا كانت القوانين الفيزيائية والبيولوجية والجيولوجية صالحة في كل زمان ومكان لكون العالم الطبيعي يحكمه نسق من الاطرادات الثابتة، فإن القوانين الإنسانية لا تخضع للنسق نفسه لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان.
"إن البحث العلمي إنما هو مجرد نشاط إنساني متأثر في نشأته وتطوره وفي صورته الحالية، بالظروف التاريخية والاختيارات الثقافية والقيمية، الخاصة بالمجتمعات الغربية...وأنه بهذا يحتمل ظهور توجهات أخرى منبثقة من نظرات أخرى للكون والحياة... نظرات قد تتطلب إدخال تعديلات جوهرية على تلك النظرة التقليدية، خصوصا عند التعرض بالدراسة للظواهر الإنسانية"[4]
ومن ناحية أخرى، فإن المناهج والدراسات الاجتماعية والتنظيمية لا يمكن فصلها عن الاتجاهات الفلسفية والإيديولوجية التي تسيطر على تلك المناهج والدراسات، وتؤثر في عملية التنظير العلمي والمنهجي.
إن مناهج العلوم الإنسانية في صورتها الحالية هي في الحقيقة إنتاج غربي مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ الثقافي للغرب، ويعبر عن خصوصياته ومشكلاته الفكرية. وقد كان تسرّب هذه المناهج إلى جامعات ومراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي أمرا تفرضه الحاجة نتيجة الفراغ العلمي، مع شدة الحاجة إلى التجديد. فكان لابد من استيراد العلوم الغربية، أو استيراد مناهجها الجاهزة بدون تعديل أو تغيير !!.
وهكذا أصبحت العلوم الاجتماعية في العالم " التابع " تعاني أزمة حادة، ناتجة أساسا عن التبعية النظرية للحقل المعرفي الغربي، وذلك على المستويين النظري والمنهجي. ومن مظاهر هذه التبعية؛ التقليد والنسخ الأعمى لمناهج المعرفة الغربية، وإعادة إنتاج فكرها، أو مجرد استهلاكه دون أدنى تساؤل أو مراجعة نقدية.
فعندما تأسست العلوم الاجتماعية في جامعات البلدان الإسلامية، لم يحاول الرواد الأوائل استعمال الحس النقدي والمنطق العملي، وإنما نقلوا مناهج الغرب كما تعلموها. إن إشكالية المنهج هي إشكالية النشأة والتأسيس، كما أن تكوين العلوم الاجتماعية عندنا حصل خارج السياق التاريخي والمجتمعي. ولذلك فهي لا تعبر عن عقلية المسلمين ولا عن واقعهم، كما أنها لا تعكس صورة التطور الحقيقي للمجتمعات الإسلامية، بل تعبر مضمونا ومنهجا عن تجربة المجتمعات الأوربية.
إن المنهج الاستدلالي الصوري، والمنهج العقلاني، والمنهج الظواهري، والمنهج البراغماتي، والمنهج الجدلي، والمنهج البنيوي، ومنهج التحليل النفسي، والمنهج الأركيولوجي، والمنهج التفكيكي، والمنهاج التفاعلي، إلخ ... كلها مناهج تدرس بها العلوم الاجتماعية في جامعاتنا، وهي مناهج لها تاريخها الخاص في الصراع مع الغيبي والمقدس والمعنوي.
"ومما يدعو للأسف أن هذه المناهج بمضامينها المعادية والمتحيزة، تدرس لطلبة الجامعة، وتؤخذ على أنها محض علوم ومعارف موضوعية عالمية، تلخص حقيقة المعرفة وتنشئ التصور السليم المتصل بالعالم.
وبالرغم من أن ميدان مناهج العلوم الاجتماعية في الغرب، قد شهد في العقود الأخيرة ظهور تيارات نقدية وتوجهات تمردية تستهدف المناهج الكلاسيكية، وتقترح مناهج جديدة تواكب التطورات الأخيرة للمجتمعات الغربية، فإن كتابنا وباحثينا وأساتذتنا الجامعيين، مازالوا يدورون في فلك تلك المناهج الكلاسيكية المتجاوزة، بل يستميتون في الدفاع عنها. وينتج عن هذا الموقف اللامنطقي والاستغرابي، تخلف واضح ومذهل عن " الإسهام في صياغة نهج الدور الحضاري للعلوم الاجتماعية، وهو دور تتحقق ماهيته بصورة دقيقة عندما يوضع في إطاره المجتمعي، ذلك الإطار الذي يستمد مقوماته من خصوصية المجتمع، وتفرد بنائه وتميزه وهويته الاجتماعية والسياسية، فضلا عن تميزه الديني والثقافي ([5]) .
[2] - د. علا مصطفى أنور: "أزمة المنهج في العلوم الإنسانية"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ "قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية"‘ القاهرة 1417-1996/ ص187.
[4] - د. إبراهيم عبد الرحمن رجب: " التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية"، دار علم الكتب، الرياض..1416-1996، ص 51.
[5]- د. محمد أحمد بيومي: «علم الاجتماع بين الوعي الإسلامي والوعي المغترب» / دار المعرفة - الجامعية الإسكندرية، ص 52، 1993.
د. عبد الله الشارف؛ كلية أصول الدين/ جامعة القرويين تطوان المغرب. جمادي الثانية 1434. أبريل 2013.
0 تعليقات