الفرح انفعال نفسي من الانفعالات الوجدانية الفطرية، وهو يكثر ويقل، ويقوى ويضعف عندالإنسان حسب الظروف النفسية والاجتماعية، وحسب طبيعة الشخصية ونوعها. ويكون الفرح عاملا إيجابيا في بناء الشخصية ونموها، عندما يكون خاضعا لنور العقل، ومسيجا بسياج الحكمة.
وإذا كان الانسان مفراحا؛ أي كثير الفرح، كان أدنى إلى الوقوع في حالات نفسية غيرمرغوب فيها. وبعبارة أخرى؛ كلما أطلق الانسان العنان لنفسه، واسترسل مع أفراح الدنيا؛أي امتلأ باطنه بالأفراح والسرور الدنيوية مادية كانت أم معنوية، واعتاد هذا السلوك النفسي،كان أدعى لأن يفاجأ بما يسوؤه،أو بما لا يحمد عقباه. قال تعالى مخاطبا قارون: "لا تفرح إن الله لا الفرحين" (القصص 76). وقال أيضا "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" (يونس 22)
ففي الآية الأولى نهي صريح عن الفرح بمتاع الدنيا وزينتها .ذلك أن قارون أعطاه الله من الكنوز "ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولي القوة " (القصص 76 ) فلم يشكر الله ولم يحسن إلى الناس، وإنما فرح فرحا شديدا أدى به إلى التكبر والمفاخرة والطغيان .فعذبه الله بأن خسف به الأرض قال تعالى: "فخسفنا به وبداره الأرض" (القصص 81).
وفي الآية الثانية، يصف الله ذلك النفر الذي ركب الفلك، وفرح بالريح الطيبة المناسبة. ثم بعد ذلك أعقبتها ريح عاصف، فكان المشهد الرهيب، المنذر بالنهاية المفجعة.
إن الإكثار من الفرح، في مشهد قارون المخسوف به، تجاوز مستوى تبديد الطاقة النفسية ووهن الإرادة، إلى مستوى فاجعة الخسف.
والمشهد الثاني لم ينته بالغرق، وإنما أنجى الله النفر، كما جاء في الآية التي بعدها. ولكن هذا يدل على أن الفرح الشديد والغفلة عن الله، كثيرا ما يؤديان إلى الوقوع في مثل هذه الكوارث، ابتلاء من الله.
لكن؛ كيف يؤدي الفرح الشديد والإكثار منه عند امتلاك الإنسان للأشياءالدنيوية، من مال أو منصب أو مكانة ...، إلى تبديد الطاقة النفسية وإضعاف الإرادة ؟
إن الانسان عندما يظفر بحظ من حظوظ الدنيا، سواء بعد بذل مجهود أو من غير توقع، إماأن يفرح فرحا شديدا، أو يعتدل في فرحه، أو يفرح قليلا.
ففي الحالتين الثانية والثالثة، غالبا ما يحتفظ الإنسان بالوضع النفسي الذي كان عليه قبل الظفر بذلك الحظ. أما في الحالة الأولى، فإن طاقته النفسية تكون معرضة للتبديد والضياع؛ بمعنى أن الفرح الشديد الذي تملكه، وغدا جزءا من كيانه ومصاحبا له، سيطر على وعيه وشعوره، وتسلل إلى لا وعيه الباطني، وبالتالي فإنه كثيرا ما يجعل هذا الحظ أو الشيء الذي يفرح به، موضوع تفكيره باستمرار. فهو من جهة قد يخشى عليه الضياع والهلاك أو الزوال. ومن جهة أخرى قد يفكر في سبل تنميته، أو جعله موضوع فخر ومباهاة. أو قد يفكر بنوع من الحسد، في أشخاص يتوفرون على حظ مماثل. إلى غير ذلك من الأفكار التي قد تلقي به في الأودية والشعاب.
إن التلذذ بموضوع الفرح، من خلال تأمله والتفكير فيه، أو النظر إليه، والذي قد يستغرق وقتا طويلا؛ أياما أو شهورا، وربما أكثر من ذلك، يستنزف الطاقة النفسية ويوهنها. فعندما ينتقل هذا الإنسان الأسير، من موضوع فرحه إلى موضوع آخر مرتبط بحياته أو مجتمعه، يفرض عليه الانخراط أو المبادرة أو المباشرة، قد يجد نفسه عاجزا لعدم توفره على الطاقة النفسية الكافية؛ يعني أن إرادته تكون حالتئذ ضعيفة، ولا تقوى على تحمل أعباء الحياة.
ومما لا شك فيه أن الأبطال والعباقرة والعلماء والمصلحين، قد حققوا ما حققوه بعزوفهم عن الحظوظ الدنيوية، وعدم الفرح بما يتهافت عليه عامة الناس، حيث سخروا قدراتهم وطاقاتهم النفسية والعقلية، فيما هم مشغولون به من العلم والأعمال السامية العظيمة.
والخلاصة أن الإنسان كلما قلل من الفرح بالدنيا وحظوظ النفس ما استطاع، كان أوفر طاقة وأقوى إرادة وأمضى عزيمة.
ومن ناحية أخرى، فإن الإكثار من الفرح بالدنيا، ومن التمتع بزينتها، يفوت على الإنسان الفرح بالآخرة والتنعم بها. وشتان ما بين الفرحين والنعيمين. وإذا أردت معرفة الفرق بينهما، فاسأل التوابين الذين انتقلوا بتوبتهم من رجس الحرام إلى نعيم الحلال، ومن ذل المعصية إلى عز الطاعة، ومن شقاء اللهث وراء الدنيا إلى راحة القناعة والرضا. ومن الانصياع والاستسلام للشهوات، إلى الأخذ بزمام النفس الأمارة. بل اسأل الذاكرين الذين انتقلوا من قيظ الغفلة إلى برد اليقظة. ومن ضنك الإعراض عن الله، إلى سعة ذكره والتلذذ بمناجاته. ومن تعاسة الحيرة وألمها إلى نعيم الطمأنينة وظلالها. واسأل إن شئت الزهاد الصادقين، والدعاة المخلصين والعلماء الربانيين... ستجد أن كل هذه الطوائف المذكورة لن يستبدلوا بزينة الدنيا وزخرفها وشهواتها، ما هم مقيمين فيه من نعيم باطني كاد يشبه نعيم الآخرة، إن لم يكن جزءا منه أو صورة من صوره، بل قد صرح بذلك كثير منهم.
هذا، وإذا كان الإكثار من الفرح بالدنيا والتهافت على ملذاتها وشهواتها، كما أشرت، يضعف الطاقة النفسية، كما يوهن الإرادة خاصة فيما يتعلق بأعمال الخير والصلاح، فإن التوبة النصوح، والقناعة والرضا والإقبال على الله بالإكثار من ذكره والعمل بأوامره واجتناب نواهيه، والمحافظة على سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، كل ذلك يجعل الطاقة النفسية الخيرة، قوية ومتدفقة، كما تقوى عند المسلم الصالح إرادة الخير والنفع لنفسه ولكافة المسلمين.
د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/جامعة القرويين. تطوان المغرب. جمادى الثانية 1434/ أبريل 2013.
0 تعليقات