في يوم الأربعاء 23 نوفمبر من سنة 2011 م، انطلقت، في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، أشغال ندوة علمية تتعلق بموضوع المورسكيين. شارك فيها أساتذة جامعيون من مدينة تطوان وخارجها. وبعد استماع الحاضرين إلى كلمات ومداخلات السادة الأساتذة المشاركين، فتح باب الأسئلة والمناقشات، وكنت ضمن الذين أدلوا بدلوهم في هذه الندوة، و أخذت الكلمة قائلا:
"أشكر السادة الأساتذة الباحثين على ما أتحفونا به من مداخلات وجولات علمية وأدبية ،في عالم وتاريخ الموركيين، وأقدم التساؤل التالي:
إذا كان اهتمام كثير من الباحثين في بلداننا العربية الإسلامية بموضوع المورسكيين، يزداد يوما بعد يوم، نظرا لأهميته ولأبعاده الدينية والثقافية، ونظرا لما لحق المورسكيين من ظلم واضطهاد على مدى قرنيين من الزمن...لماذا لا يحظى موضوع: "المورسكيون الجدد" !، كما أسميهم، بالعناية نفسها. علما بأن المورسكيين الجدد أحياء، وهم بذلك أولى بالاهتمام. إن هؤلاء المورسكيين هم أبناء وأحفاد المهاجرين المسلمين المعاصرين في بلاد الغرب. ولقد أثبتت دراسات وأبحاث حول الموضوع أن أكثر من سبعة ملايين من أبناء وأحفاد المهاجرين المسلمين، الذين ولدوا ونشؤوا في المجتمعات الغربية، قد ذابوا وانصهر ثلاثة أرباعهم أو أكثر في أحشاء تلك المجتمعات. ذلك أن أغلبهم لا يتكلمون العربية، ولا صلة لهم بأعراف وتقاليد آبائهم الاجتماعية، وأغلبهم لا علم لهم بالواجبات الدينية، كما أن نسبة قليلة منهم من يحافظ على الصلاة والصوم.
أما الذين تزوجوا منهم بالأوربيات، أو اللواتي تزوجن بالأوربيين، فإن أولادهم وأحفادهم قد قطعوا الصلة نهائيا بالدين الإسلامي، فهم إن لم يكونوا قد تنصروا بحكم الوراثة، فقد تعلمنوا. ومما زاد في الطين بلة، أن الأحداث والوقائع التي عرفتها المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة؛ بدءا من الثورة الإيرانية ومرورا بما سمي ب"تنظيم القاعدة". ثم أحداث 11 شتمبر 2001 بنيويورك، إلخ. كل ذلك كان له آثار سلبية في نفوس المهاجرين وأبنائهم، حيث غدوا أكثر فأكثر هدفا للكراهية والعنصرية، مما دفع بكثير من شباب المهاجرين المسلمين إلى التنكر، وتجنب كل العلامات والمظاهر التي توحي بأن أصولهم عربية أو إسلامية، حيث أن طائفة منهم مثلا، اختاروا أسماء النصارى بدل أسماء العرب المسلمين، أملا في طمس هويتهم، إلى غير ذلك من الكوارث والمآسي.
ومن هنا فإني أدعو السادة الأساتذة المحاضرين في هذه الندوة إلى الاهتمام بالمورسكيين الجدد، والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ثم إن الإحسان إلى المورسكيين الأحياء والعناية بهم، أولى من الاهتمام بالمورسكيين الموتى، والبكاء على أطلالهم ورفاتهم.
ومما لا ريب فيه أن هناك نوعا من التقارب والتماثل بين السياسة الغربية المتبعة إزاء المسلمين المهاجرين في دول الغرب، والسياسة التي اتبعتها السلطات المسيحية والكنسية، مع المورسكيين الذين ظلوا مقيمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة. فإذا كانت المساجد قد هدمت آنذاك، أو تحولت إلى كنائس وإسطبلات، فإن السلطات الغربية المعاصرة قلما تستجيب لرغبة المسلمين المهاجرين في بناء المساجد داخل أحيائهم. كما تلوذ بالصمت إذا اعتدي على مساجدهم أو الأماكن التي يصلون ، والتي عادة ما توجد في الطوابق الأرضية، كما لا تسمح لهم برفع الصوت بالأذان، إلى غير ذلك من المضايقات. ثم إن وسائل الإعلام لا تتوقف عن حملتها الشعواء ضد المساجد وكل ما يتعلق بالمظاهر الإسلامية في الغرب.
والمثال الثاني الدال على شيء من التقارب بين السياستين القديمة والحديثة تجاه المسلمين في الغرب، آخذه من مجال التربية والتعليم. لقد أكدت النصوص التاريخية المتعلقة بالوجود الإسلامي في الأندلس بعد نكسة السقوط والانهيار، أن السلطات الكاثوليكية كانت تمنع الآباء المورسكيين من تعليم أبنائهم اللغة العربية، وتأمرهم بإرسالهم إلى المكان المخصص لهم لكي يتعلموا اللغة القشتالية، وإلا خضعوا للعقوبات اللازمة. وكان الهدف من وراء ذلك هو قطع الصلة بين هؤلاء الأبناء وبين أصولهم الدينية والثقافية، ثم تنصيرهم.
أما في الغرب المعاصر فإن:
"الأب المسلم والأم المسلمة إذا رزقا الصلاح ف
ي دينهما، قادران على تربية أولادهما تربية صالحة في أوربا إلى سن السادسة. وبعد هذه السن تلزم الدولة الأبوين بإحضار أولادهما إلى المدرسة، إذ أن التعليم إجباري لمدة عشر سنوات، وفي المدرسة يخضع الطفل لتربية لا تمت للدين بصلة، ولا للأخلاق الحميدة بقربى، فمن سن السابع تبدأ دروس الجنس في المدرسة، فيتعلم الأطفال معاني الجنس، وكيفية ممارسته، دون تحذير من العلاقة الجنسية المحرمة، بل على العكس من ذلك فيها حض كبير على العلاقات الجنسية المطلقة.
كما أن الطفل لا ينجو من أفكار الإلحاد التي تطرح على رأسه الصغير، من مدرسه أو مدرسته، دون أن يغفل المدرس عن بيان حقوق الطفل، ومنها حق الاعتراض على أمه وأبيه، وأن ليس لأحد أن يضربه أو يؤدبه، وحرية اختياره لدينه وعشيقته وطريقة حياته دون ممانعة من أب أو أم، وإن فعلا فيسحب حق تربيتهما لطفلهما. فلا يتجاوز الطفل سن البلوغ إلا هو عاص لربه، عاق لوالديه، مجانب للقيم والأخلاق إلا من رحم ربي"[1]
وإن من يدعي أنه يستطيع أن يربي أولاده في أوربا التربية الإسلامية الصحيحة، فنقول له: بيننا وبينك واقع الحال. فالواقع يدلنا أن المنحرفين من أبناء المسلمين أضعاف أضعاف الملتزمين منهم، وهذا ليس في الآباء الذين درج آباؤهم على الرذيلة وتعودوا عليها، وإنما هذا في الأبناء الذين نشأ آباؤهم على الالتزام وثبتوا عليه.
إن سياسة الغرب تجاه المهاجرين المسلمين، تراهن على المستقبل، كما أنها تخفي التنصير وتعلن العلمانية والحرية والديمقراطية. تلك السموم التي قلما يشعر بها الآباء المسلمون المهاجرون، بيد أنهم قد يدركونها، لكن بعد فوات الأوان.
نعم إنه لمخطط رهيب ولمؤامرة مدبرة بإحكام. بالأمس أو قبل عقود، شرعت أوربا في استغلال سواعد المهاجرين المسلمين في بناء دولتها، والآن تقطف ثمارا أخرى؛ إنهم الأبناء والأحفاد الذين بدؤوا ينصهرون ويذوبون في بوتقة المجتمعات النصرانية الغربية التي تعاني جمودا أو نقصا ديموغرافيا كبيرا !!.
وصدق أحد العلماء القدامى عندما سئل:
"من أتعس الناس؟" فأجاب: "أتعس الناس من باع دينه بدنياه". ثم قيل له: "ومن أتعس منه؟". فقال: "من باع دينه بدنيا غيره".
لما بدأت وفود العمال المهاجرين المسلمين تفد إلى أوربا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لإعادة بناء ما هدمته الحرب، والقيام بأعمال أخرى، غلب على ظن المسؤولين الغربيين أن هؤلاء المهاجرين سيعودون إلى بلدانهم بعد توفير قسط من المال. لكنهم آثروا البقاء والإقامة الدائمة، بعد أن تزوجوا وأنجبوا الأولاد؛ ذلك الصيد الذي لم تكن أوربا العجوز تحلم به ولا خطر ببالها !!. لكن هذه الإقامة الدائمة أقلقت، مع مرور الزمن، بال المسؤولين لما أحدثته من صراعات ومشاكل اجتماعية، بسبب الاختلاف الديني والثقافي، مما دعا هؤلاء المسؤولين لإقامة ما سمي بسياسة الاندماج.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب التجاني بولعواني:
" بالنظر إلى الخطاب السياسي المهيمن في الغرب، يدرك أن البقاء المسلمين سواء في البلدان الأوربية أم في الدول الغربية، غير مرهون فحسب بتوفرهم على وضعية قانونية صحيحة، أو نيلهم لجنسية البلد الذي يوجدون فيه، أو حتى انتمائهم إليه بالولادة والتربية والتمدرس ونحو ذلك، ولكن مرهون بما هو أهم من ذلك كله، وهو وجوب انخراطهم في الحياة الغربية العامة؛ ثقافيا ولغويا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وغير ذلك، على أن يكون هذا الانخراط مسايرا بل ومندرجا في بوتقة المجتمع الغربي، قلبا وقالبا، تفكيرا وسلوكا، وبعيدا عن أي تصارع مع أخلاق وتقاليد الغربيين، ولو أنها تهدد المسلمين المغتربين في هويتهم الدينية والثقافية، وفي تربية أبنائهم وتوجيههم، مما يضعهم أمام نارين؛ نار الولاء للآخر، ونار التمسك بالهوية الأصيلة.
وسعيا إلى تنفيد هذا المبتغى الذي يطلق عليه في الأدبيات الغربية سياسة الاندماج، تم حشد شتى الإمكانات القانونية والمادية والدعائية، التي وظفتها العديد من الدول الغربية في شكل مشاريع عدة، تأتلف حول أهداف موحدة. وتكلفت مختلف الأجهزة بتطبيق ذلك وتعميمه على كل الأجانب الموجودين بين ظهرانيها، من وزارات وأحزاب ومؤسسات تعليمية وجمعيات وشركات وغير ذلك، وعندما تمعن النظر في هذا الاهتمام اللافت بهذه القضية، تشعر وكأنك لست أمام سياسة الاندماج، وإنما أمام ثورة الاندماج، ما دام أن أولئك المشرفين على ملفات هذه القضية، تفهم من خطابهم وكأن لا خيار للأجانب والمسلمين إلا الاندماج في المجتمعات الغربية وأن رضى الغرب عنهم لا يأتي إلا من بوابة اندماجهم وفق رؤيته الفكرية والتنظيرية وإلا فإنهم سوف يحشرون لا محالة في خانة الخوارج الجدد !.[2]
[1] - سالم بن عبد الغني الرافعي؛ أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، ط 1 الرياض دار الوطن للنشر 1422هج، 2001م ص 80.
[2] - التيجاني بولعواني؛ "المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل"، أفريقيا الشرق؛ الدار البيضاء المغرب 2010، ص74.
د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/جامعة القرويين تطوان المغرب. جمادى الثانية 1434/ أبريل 2013.
0 تعليقات