درس تربوي إيماني


ذات يوم، قبل عشرين سنة خلت، بينما كنت في طريقي إلى البيت، التقيت بأحد طلبتي في كلية أصول الدين، فحياني بتحية الإسلام، وطلب مني أن أستمع لكلامه، فاستجبت، ثم قال: "لقد أحاطت بي المشاكل من كل جانب حتى هممت بالانتحار!!  إني قد رسبت في الامتحان النهائي للمرة الثانية، وفقدت منحة الطالب، وتوفي أبي منذ سنة وأنا أكبر إخوتي، وليس لي مال أساعد به أمي، كما يصعب علي أن أعثر على عمل...فأنا أفكر في الموت. فقلت له: تعالى معي إلى المنزل. وبعد تناول وجبة الغذاء، هيأت لنا أم أولادي إبريقا من الشاي مع بعض الحلويات، وكنت بين الفينة والأخرى أطمئن الطالب الحيران وأردد له قول الله تعالى:  "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا". ثم قلت له: سأساعدك في دراستك الجامعية هذه السنة، كي تنجح، إن شاء الله، وتحصل على المنحة من جديد. كما سأقدم لك بعض النصائح والإرشادات التربوية والإيمانية، وأهدي إليك  بعض الرسائل والكتب المتعلقة بتربية النفس وتزكيتها. ومن النصائح التي قدمتها له ما يلي:


_ احرص على صلاة الجماعة في المسجد.
_ عليك بقراءة جزء من القرآن كل يوم.
_ أكثر من الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
_ اجتنب الحرام وقول السوء والغيبة والكبر... واجتهد في التحلي بالأخلاق الحميدة.
_ أكثر من الدعاء مع الإلحاح، لا سيما في جوف الليل.
_ الزم صلة الأرحام وأحسن إلى إخوانك المسلمين ولو بالكلمة الطيبة.


بعد مرور شهر، زارني الطالب نفسه، وكان فرحا مسرورا جميل المحيا، وقال لي:  لقد أنقدتني يا أستاذي من الهلاك، فقلت: أنقدك الله سبحانه وتعالى. يا أستاذي لقد بدأت الأمور تتحسن، إذ تغيرت رؤيتي لنفسي وللعالم، وبدأت أنظر إلى الأشياء والأمور نظرة تفاؤل، وقوي إيماني بالله، وصرت أحب الناس للصلاة والذكر، كما عثرت على عمل مؤقت، وسأجتهد في دراستي.


             وحصل الطالب بعد ذلك على شهادة الإجازة، ثم فاجأني بزيارة أخرى بعد ما يقرب من عشر سنوات، وأخبرني بأنه قد تزوج وله أولاد ويعمل مرشدا دينيا تابعا لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، كما أسند إليه خطبة الجمعة، فسررت لحاله.


وقبل بضع سنوات، التقيت بأحد الإخوة الأساتذة، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث حتى انتهينا إلى موضوع ضعف الإيمان الذي استشرى داؤه بين المسلمين، ثم قال لي: "أسألك عن عمل يحبب إلي العبادة ويذيب قساوة قلبي". فأجبته قائلا: "عليك بالقرآن وذكر الله". فقال: "أطلب منك أن تعلمني حب القرآن والذكر والسبيل إلى تزكية النفس"، فقلت له: "اسمع يا أخي، أنت أستاذ مثلي، فاجتهد كما يجتهد المسلمون الذين يرغبون في إزاحة غيوم الغفلة عن قلوبهم". فقال: "أريد منك نصائح عملية مكتوبة، أي برنامج عملي يتعلق بتقوية الإيمان وتزكية النفس." فقلت له: " لست شيخا تربويا صوفيا أوزع الأوراد وأعالج نفوس المريدين..." فما زال يلح، حتى كتبت له نصائح وخطوات عملية على طريق تزكية النفس.


             هذا وقد حصل لي مع طلبة وأشخاص آخرين مواقف شبيهة بالموقفين المشار إليهما، حيث كنت أمام حالات متنوعة تستدعي العناية والتوجيه الإيماني.


             وخلاصة القول؛ إن التربية الإيمانية وظيفة تلقائية في المجتمع الإسلامي يمارسها العلماء والفقهاء الربانيون، ولست منهم يقينا، بيد أنني أحبهم. كما يقوم بها الدعاة الصادقون والخطباء وأئمة المساجد ، وكل مسلم تتوفر فيه أوصاف معينة، ويأنس من نفسه القدرة على القيام بتلك التربية. وليست هذه التربية حكرا على شيوخ التربية من الصوفية الطرقيين كما يدعي المبتدعة.


             وليراجع الباحث مثلا، المجلد السادس من كتاب "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" لأبي نعيم، يجد فيه من كبار علماء الفقه والحديث كحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري. وفي المجلد السابع هناك مثلا شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة والليث بن سعيد وغيرهم. وفي المجلد الثامن؛ هناك الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه وغيرهم من رؤوس علماء الفقه والحديث، ممن أدخلهم أبو نعيم في جملة الأولياء من كتابه "الحلية". معنى هذا أن هؤلاء المذكورين وغيرهم كثير، كانوا علماء الفقه والحديث، وعلماء التربية والتزكية وإصلاح النفوس، وهم في ذلك قد سلكوا طريق الصحابة والتابعين. والذين ساروا من بعدهم على دربهم، ونهجوا نهجهم إلى يوم القيامة، كانوا مثلهم؛ نماذج في العلم والفقه، وأئمة يقتدى بهم في التقوى والورع والزهد وحسن السمت. وقد كان تلاميذهم يعرفون كثيرا عن أعمالهم الروحية والإيمانية؛ من ذكر وتلاوة وقيام الليل وصيام التطوع... وقد يخبرون عن بعض كراماتهم وأحوالهم الروحية، فيتأثرون بهم، ويقتفون أثرهم بطريقة تلقائية، فيتبوؤون بدورهم منازل التقوى والصلاح والاستقامة، دونما حاجة إلى أوراد أورسوم، أو طقوس وأعراف بدعية أو علوم لدنية وكشفية كما هو الشأن عند الصوفية.


د. عبد الله الشارف؛ كلية أصول الدين/جامعة القرويين. جمادى الثانية 1434/أبريل 2013.


 

إرسال تعليق

0 تعليقات