دوافع الاستشراق






لقد كانت هناك دوافع كثيرة تكمن وراء تأسيس الاستشراق ونشأته، وأهمها أربعة : الدوافع النفسية والدوافع الدينية والدوافع السياسية والدوافع العلمية.


في الوقت الذي كان الظلام يخيم على ربوع أوربا، وكانت المجتمعات المسيحية مسرحا للتمزق الاجتماعي وللصراعات والحروب الدينية، كانت أنوار العالم الإسلامي بشرقه وغربه ساطعة متلألئة، وكان صدى الاجتهاد  العلمي والمعرفي، يقرع  آذان أفراد من الشعوب الأوربية فيهز كيانهم. وكانت أخبار العمران وازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الإمبراطورية الإسلامية غير خافية على جمهور النصارى. ثم إن الإسلام في مدة لا تزيد على قرن من الزمان، انتشر في بقاع أرضية واسعة امتدت من تخوم الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وصاحب هذا الانتشار نهضة عمرانية واجتماعية وثقافية لم يسبق لها مثيل. هذه المظاهر والعوامل جعلت الإنسان الأوربي آنذاك يقف مشدوها أمام عظمة الإسلام، وأصيب بشيء من الذهول. فما لبث أن شعر بدافع يحثه على البحث في هذه الحضارة الجديدة، والإطلاع على أحوال أهلها. ومن هنا فإن التاريخ يحدثنا أن رحلات كثيرة، بدافع من حب الاستطلاع والرغبة النفسية، كان يقوم بها عدد من النصارى إلى البلدان الإسلامية، وذلك قبل الحروب الصليبية بزمن طويل. وكثيرا ما كان هؤلاء الرحل بعد رجوعهم، يدونون ما عاينوه في الشرق الإسلامي، وما لفت أنظارهم من تقدم علمي واجتماعي، وربما شجعهم ذلك على تعلم العربية ليتسنى لهم الإطلاع على ثقافة المسلمين.


فيما يخص الدوافع الدينية يبدو أن الباحث في شأنها لا يحتاج إلى بذل جهد كبير ليثبت أن العامل الديني يعتبر عاملا أساسيا في ظهور الاستشراق. لقد أدرك الرهبان وأرباب الكنائس منذ ظهور الإسلام، أن هذا الدين الجديد يشكل خطرا على كيانهم وكيان رعاياهم من المسيحيين. ولكي يمنعوا وصوله إلى ديارهم ينبغي تأليب قلوب الأوربيين ضده، وتأصيل الكراهية والحقد والعداء في بواطنهم تجاه المسلمين. غير أن تحقيق هذا الهدف يستدعي الإطلاع على مبادئ الإسلام والطعن فيها، واختلاق الأباطيل حولها وتحريف الحقائق، فلم يجد الرهبان بدا من تعلم اللغة العربية والإطلاع على ثقافة المسلمين، فكانوا بحق أول من مارس الاستشراق وكتب عن الشرق الإسلامي.


بعد نهاية الحروب الصليبية واندحار جيوش النصارى، استنتج هؤلاء دروسا وعبرا من بينها أن العالم الإسلامي متفوق من حيث القوة الاقتصادية، وبالتالي لا يمكن قهره والانتصار عليه، إلا انطلاقا من قوة اقتصادية أوربية. وفي عصر النهضة الأوروبية وما بعدها أصبح العالم الإسلامي يشكل مجالا اقتصاديا ذا أهمية قصوى بالنسبة للتجار الأوربيين الناشئين، وتبع ذلك بالضرورة اهتمام الغرب المسيحي بدارسة علوم الشرق. "ومن خلال هذه الدراسات أدرك الغرب أنه إذا أراد أن يسامي الشرق ويتفوق عليه فليس له من سبيل آخر يوصله إلى انتزاع زمام الأمور من يده إلا بتعلم لغاته، وما يتعلق بها من حضارة وعلوم، وأدرك أنه لكي يتسرب إلى مصادر القوة في الشرق ويمزقها، يجب أن يتسلح بالقوة الاقتصادية، ولذلك تشبث بهذا المحور وجعله هدفه الأسمى، وسخر كل شيء في سبيله فطلب التجارة الرابحة، وهو أقوى المشجعات البشرية على النشاط والعمل، كان له أثره الطبيعي في ميول الأمة ومجهوداتها الفكرية. وبينما كان التاجر يسعى في تحصيل النفع المادي من الشعوب الشرقية، شرع يتعلم لغاتها وآدابها وينشئ المعاهد ويؤسس الجمعيات ليتعلم أبناء جلدته ومواطنوه"[1].


وبالنسبة للدافع العلمي فإنه لم يفرض نفسه إلا بعدما بدأت الكنيسة تفقد هيبتها في قلوب رعاياها، ولاحت في الأفق بوادر نهضة علمية وثقافية، وعزم بعض ساسة الدول الأوربية على الأخذ بأسباب التقدم والرقي، فشرعوا يحثون أرباب العلم والمعرفة على نقل كتب العلم من العربية إلى اللاتينية. وهكذا أقبل المستشرقون على دراسة تراث الشرق الإسلامي بهمة وشغف، وفي هذه المرحلة لم يكن الدافع عند هؤلاء دينيا بل كانت جهود البحث تجسد أغراضا علمية هدفها اقتناء ما تحويه علوم الشرق من فوائد وكنوز؟ وتميزت هذه المرحلة أيضا بوصول هيئات أوربية إلى المعاهد والمؤسسات العلمية بالأندلس، كما تميزت بإنشاء مدارس لتعليم العربية وعلوم المسلمين في أهم مدن أوربا.


[1] - د.أحمد سمايلوقتش "فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار المعارف مصر 1980 ص 45-46"



د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/ تطوان المغرب. ربيع الثاني 1434/ مارس 2013.











.




إرسال تعليق

0 تعليقات