بين الاستشراق والاستعمار




إن الدول الأوروبية عندما بدأت تفكر في نهضتها العلمية والاجتماعية والاقتصادية بعد الحروب الصليبية، شجعت عمليات نقل علوم المسلمين وإرسال البعثات الطلابية إلى المؤسسات العلمية في الأندلس. ثم أنشأت مدارس ومعاهد تهتم بتدريس علوم العربية والبحث فيما يتعلق بحضارة المسلمين وثقافتهم. ولما قطعت هذه الدول، بخطى ثابتة، مراحل بنائها الحضاري، وانتقل التاريخ من الشرق الإسلامي إلى الغرب النصراني، وتغيرت موازين القوى بينهما، حينذاك وتبعا لمنطق وفلسفة الإمبريالية، فكر الأوربيون في بسط نفوذهم السياسي على العالم. وهكذا تم اللجوء للمرة الثانية، إلى المستشرقين والمتخصصين في علوم الشرق وتاريخه ودياناته، وعادات وتقاليد شعوبه ونظمه السياسية والقانونية.


فإذا كان الهدف المتوخى من الاستشراق في المرحلة الأولى، هو تهيئ أرضية للبناء الحضاري، فإن الهدف منه في مرحلة التوسع الإمبريالي؛ هو دراسة عقائد وعادات وأخلاق الشرق وحياته الاجتماعية والثقافية، وكذا ثرواته وقوته العسكرية من أجل الوصول إلى مواطن القوة في كل ذلك والتخطيط لإضعافها، وإلى مواطن الضعف والتفكير في سبل اغتنامها. ولما نمت عملية الاستيلاء العسكري ووطئت أقدام المستعمر أراضي البلدان المكتسحة، قامت في وجه القوة الاستعمارية حركات الجهاد والمقاومة الهادفة إلى طرد الغزاة وتحرير البلاد. هنالك التجأت السياسية الاستعمارية من جديد إلى الاستشراق، وشجعته على العمل بجانبها في سبيل إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية. وهكذا عمل عدد كبير من المستشرقين، من خلال نشاطاتهم وكتاباتهم، على بث روح الوهن والارتباك في تفكير الشرقيين، وذلك عن طريق التشكيك فيما أيديهم من تراث وما يمتلكونه من عقيدة وقيم إنسانية، مما يجعلهم يفقدون الثقة في أنفسهم، ويرتمون في أحضان الغرب. وكمثال على عمل المستشرقين في هذا القصد؛ إحياؤهم للقوميات التاريخية التي اندثرت نهائيا بعد مجيء الإسلام. لقد عمل المستشرقون على إحياء (الفرعونية) في مصر و (الفينيقية) في سوريا ولبنان و (الأشورية) في العراق و(البربرية) في شمال أفريقيا. لماذا كل هذا؟ أليس هدفهم من ورائه هو تشتيت شمل الأمة الإسلامية، وتمزيق وحدتها وإضعاف قدرتها، ثم وضع العقبات المانعة من تحررها؟


" وقد استطاع الاستعمار أن يجند طائفة من المستشرقين لخدمة أغراضه وتحقيق أهدافه، وتمكين سلطانه في بلاد المسلمين. وهكذا نشأت هناك رابطة رسمية وثيقة بين الاستشراق والاستعمار، وانساق في هذا التيار، عدد من المستشرقين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا عملاء، وأن يكون علمهم وسيلة لإذلال المسلمين، وإضعاف شأن الإسلام وقيمه. هذا عمل يشعر إزاءه المستشرقون المنصفون بالخجل والمرارة. وفي ذلك يقول المستشرق الألماني المعاصر (استفان فيلد: " ..... والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين، سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لابد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة"[1].


لم تكن الدول الاستعمارية، كإنجلترا وفرنسا وهولندا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، لتحقق كل خططها الاستعمارية لولا وجود جيش المستشرقين. فبالنسبة للمغرب مثلا، لهم يكن في مقدور الماريشال ليوطي – المقيم الفرنسي أيام الحماية – أن ينجح في سياسته البربرية وخططه في تقسيم المغاربة إلى عرب وبربر، لو لم يستعن بالمستشرقين والانتروبولوجيين المتخصصين في لهجات البربر وعاداتهم وتقاليدهم. لقد أنشأ المستعمر الفرنسي سنة 1914 مدرسة فرنسية بربرية بالرباط، كان من بين نشاطها نشر دراسات وأبحاث عن المناطق البربرية، في مجلة نصف شهرية، تحمل عنوان "الوثائق البربرية". إن إخماد المقاومة في القرى والجبال والمناطق البربرية استلزم إيجاد وتكوين مجموعة من "المتبربرين"، الذين بعد تعلمهم اللهجات البربرية سيتم استعمالهم في الأغراض المناسبة، وهكذا برزت في هذه المجموعة أسماء عديدة أمثال لوشاتلييه، وميشو بلير، ولوكلاي، ولاووست، وجوستينياغ، ولوبينياك وغيرهم.


"ومن بين أطروحات ماكراي ومونتاي ما يلي:  إن البربر قديما، عاشوا في مناخ اجتماعي مماثل للمناخ الاجتماعي الذي عاش فيه اليونانيون قبل أثينا، واللاتينيون قبل روما"[2]. و"إن الحكام الاستعماريين الفرنسيين، استنادا إلى فرضيات أتنولوجية، حاولوا عزل البربر عن باقي الشعب المغربي، وإخضاعه لعملية تكييف معينة تصيرهم مع مرور الأيام كائنات إنسانية طيعة تبغض التمرد والثورة. ومن هنا عملوا على إبعاد العنصر البربري عن الإسلام واللغة العربية، بل ذهبوا إلى أنه إذا كان من الضروري أن يتطور هؤلاء البربر فينبغي العمل على توجيه تطورهم نحو ثقافة أوروبية محضة وليس في اتجاه ثقافة إسلامية"[3].










[1] - د. محمود حمدي زقزوق المرجع السابق ص 44.






[2] - Poul coatalen "Ethnologie barbare, in Annales Marocaines de Sociologie, Rabat, Institut de sociologie 1970 p 3."




[3] - Abdellah Charef, " Essai sur la structure sociale des immigrés marocains dans la région parisienne ", Thèse de doctorat de troisième cycle d'Anthropologie, Université paris v 1984 p: 52.

د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب. جمادى الأولى 1434/ مارس 2013.

 


إرسال تعليق

0 تعليقات