العلمانية في النفق المسدود




لقد أثبتت كثير من الدراسات الغربية المتعلقة بالنقد والتحليل الاجتماعي والحضاري، أن الحضارة الغربية، رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي، عرفت تصدعا عميقا، واضطرابا خطيرا على المستوى النفسي والعقدي. ولعل ذلك يرجع أساسا، إلى القطيعة المعرفية بين السماء والأرض، تلك القطيعة التي أحدثتها الفلسفات العقلانية والمادية المتعاقبة خلال القرون الأخيرة، والتي توجت بالفلسفة العلمانية. ثم إن هذه العلمانية، ذات النشأة الأوربية، سرعان ما تحولت إلى "مأزق أوربي"، همش المسيحية في أوربا وجعل مجتمعاتها تعيش فراغا دينيا، انصرف فيه أغلب الناس عن الإيمان الديني، حتى أغلقت كثير من  الكنائس أو بيعت !!.


 هذه العلمانية عجزت عن أن تملأ هذا الفراغ، وتجيب على أسئلة النفس الإنسانية التي يجيب عنها الدين. يقول القس الألماني، عالم الاجتماع، الدكتور "جوتفرايد كونزلن":


" نبعت العلمانية من التنوير الغربي، وجاءت ثمرة لصراع العقل مع الدين، وانتصاره عليه، باعتباره مجرد أثر لحقبة من حقب التاريخ البشري، يتلاشى باطراد في مسار التطور الإنساني. ومن نتائج العلمانية فقدان المسيحية لأهميتها فقدانا كاملا، وزوال أهمية الدين كسلطة عامة لإضفاء الشرعية على القانون والنظام والسياسة والتربية والتعليم...بل وزوال أهميته أيضا كقوة موجهة فيما يتعلق بأسلوب الحياة الخاص للسواد الأعظم من الناس وللحياة بشكل عام ..فسلطة الدولة وليست الحقيقة، هي التي تصنع القانون ..وهي التي تمنح الحرية الدينية.


ولقد قدمت العلمانية الحداثة باعتبارها دينا حل محل الدين المسيحي، يفهم الوجود بقوى دنيوية هي العقل والعلم..لكن وبعد تلاشي المسيحية في أوربا، سرعان ما عجزت العلمانية عن الإجابة على أسئلة الإنسان التي كان الدين يقدم لها الاجابات ..فالقناعات العقلية أصبحت مفتقرة الى اليقين .. وغدت الحداثة العلمانية غير واثقة من نفسها، بل وتفكك أنساقها، العقلية والعلمية، عدمية ما بعد الحداثة .. فدخلت الثقافة العلمانية في أزمة بعد أن أدخلت الدين المسيحي في أزمة ..فالإنهاك الذي أصاب المسيحية أعقبه إعياء أصاب كل العصر العلماني الحديث، وتحققت نبوءة نيتشة 1844-1900عن إفراز التطور الثقافي الغربي لأناس يفقدون نجمهم الذي فوقهم، ويحيون حياة تافهة ذات بعد واحد لا يعرف الواحد منهم شيئا خارج نطاقه ..وبعبارة ماكس فيبر 1864  1920: "لقد أصبح هناك أخصائيون لا روح لهم وعلماء لا قلوب لهم" ! .


لقد أزالت العلمانية السيادة الثقافية للمسيحية عن أوربا.. ثم عجزت عن تحقيق سيادة دينها العلماني على الإنسان الأوربي، عندما أصبح معبدها العلمي عتيقا ! ففقد الناس "النجم" الذي  كانوا به يهتدون"[1] .


 أصاب القس الألماني كبد الحقيقة، وبين عجز العلمانية عن أن تحل محل الدين، أو تأخذ بيد الإنسان الغربي التائه، الذي أضحى هدفا لأمواج الحداثة وما بعد الحداثة العاتية. قال تعالى:    "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40).


 

[1] -جوتفرايد كونزلن؛ "مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا" ص 28-31-32. تقديم د. محمد عمارة، القاهرة 1999.

د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب. جمادى الأولى 1434/ مارس 201










إرسال تعليق

0 تعليقات