يقول مارك كونطاغ: "إن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية شيء طارئ، أو حادثة تاريخية تحيا في ظروف مفارقة ومتناقضة... وهو أدب انتقالي أو مرحلي قام بدور هام، إلى جانب الأدب العربي، في الصراع ضد الاستعمار الجديد"1
مما لاشك فيه أن الاستعمار الفرنسي لبلدان المغرب العربي، يعتبر السبب الأساسي في ظهور هذا الأدب، إذ لولا وجود تلك الظاهرة السياسية والإمبريالية، لما كانت هناك دواع لكي يعبر بعض الروائيين والقصاصين من أبناء تلك الأقطار، عما يختلج في صدورهم بلغة غير لغتهم الأم. ولقد استطاعت إدارة الاستعمار الفرنسي بما أوتيت من قوة ودهاء، أن تهمش اللغة العربية وتظهرها بمظهر العقم والجمود، وتعلي، في المقابل، من شأن اللغة الفرنسية، وتجعل منها اللغة الوحيدة في ميدان الفكر والأدب. ومن هنا كانت المدارس والمؤسسات التعليمية الفرنسية تستقطب كل سنة، عددا لا بأس به من أبناء المغاربة، مما أدى إلى ظهور جيل يحمل راية اللغة والثقافة الفرنسيتين . فكان منهم كتاب، وروائيون، وشعراء ممن سيضعون اللبنات الأولى للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية.
وصرح نجيب العوفي، في حوار أجري معه حول هذا الأدب، بأن ظاهرة الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، أو الأدب المغربي الفرنكفوني بوجه عام، ظاهرة ثقافية حساسة تولدت ضمن سياق تاريخي وسياسي بالغ التعقيد، سياق الهيمنة أو الهجمة الاستعمارية التي اكتسحت كافة الأصعدة والمجالات، بما في ذلك المجال الروحي والثقافي واللساني، الذي يعد وعاء الهوية وذاكرتها.
جاءت الظاهرة إذن في سياق مخطط استعماري شامل لغسل الذاكرة وطمس الهوية وتمييع اللسان، لأجل تمييع الوجدان، وكان الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية لذلك "شرا" لابد منه.
لقد كان "منفى اضطراريا" على حد تعبير الكاتب الروائي مالك حداد. وكأن الأديب المغربي الكاتب باللغة الفرنسية بمثابة "اللاجئ اللغوي" الذي استغل لجوءه هذا ليقول كلمته. لكن بعد حصول الأقطار المغربية على استقلالها، أصبح هذا اللجوء اللغوي غير مبرر وغير مشروع2.
أجل ليس هناك أي سبب منطقي لاستمرار هذا الأدب ، ولقد كان ألبير ميمي أول من أكد سنة 1957 بأن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية سيموت أو ينمحي تلقائيا بعد الاستقلال3 .
وذهب عبد اللطيف اللعبي في مجلة "أنفاس"، إلى أن هذا الأدب يساهم في بلورة الثقافة الوطنية، وأنه لا يستعمل اللغة الفرنسية إلا كأداة مؤقتة5 . ومعلوم أن هذا الرأي كما ورد في المجلة المذكورة لا يمثل وجهة نظر اللعبي فحسب، وإنما يعبر عن موقف كل كتاب المجلة آنذاك. إذن ما هي يا ترى الأسباب التي حالت دون احتضار هذا الأدب إلى الآن بالرغم من توفر الشروط الموضوعية لذلك؟
لعل تفسير موزوني لهذه الاستمرارية يتضمن جانبا من الإجابة: "إن الأدب المكتوب بالفرنسية يشكل في الواقع ثغرة يمكن التنفس من خلالها، ذلك أن هذا الأدب يتناول بسخرية تلك المواضيع التي يحجم عنها – لأسباب أخلاقية أو دينية – الكتاب المغاربة الذين يكتبون بالعربية. فمأساة " الخبز الحافي" لمحمد شكري، دليل على الرقابة الصارمة في وجه الكتابات المتعلقة بالجنس. لقد ترجم هذه الرواية بول بولز إلى الإنجليزية سنة 1973، ثم ترجمها الطاهـر بن جلون إلى الفرنسية سنة 1980.....
وهكذا ما دامت هناك مقاومة أخلاقية، فإن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية سيظل دائما في خدمة الخطابات التي تهدد القيم... إذن هناك على الأقل ثلاثة أسباب لتفسير استمرارية هذا الأدب: طبيعته الإيديولوجية ، رغبته في المساهمة في بلورة الثقافة الوطنية، وقدرته على إيصال الخطابات الممنوعة والمحرمة"6
لا شك أن هذا التفسير ألقى بعض الأضواء على السر في استمرارية الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، بالرغم من اندثار العوامل الاستعمارية التي أنشأته وأخرجته إلى الوجود. لكن لماذا لا نعتبر الأسباب الثلاثة المذكورة آنفا، والتي حالت دون أفول هذا الأدب وموته، من صنع هؤلاء الكتاب المستغربين الذين شق عليهم أن يطلقوا لغة المستعمر؟ لقد بحثوا عن مجال خصب يتخذونه موضوعا لكتاباتهم الروائية والقصصية والشعرية، فلم يجدوا أحسن من واقع المرأة المغربية، وواقع العلاقات الجنسية ووضعية الأعراف والتقاليد في المدن والقرى، وممارسة المغاربة على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية للدين والعقيدة...الخ، كل ذلك في صورة رمادية غير مشرقة، بلغت حدا متناهيا من الاستخفاف بمقومات المجتمع المغربي ومقدساته. وإذا كانوا قد تقربوا إلى فرنسا بإثارتهم للمواضيع ذاتها، التي كانت وما تزال تستهوي الباحثين الفرنسيين من الانتروبولوجيين والمستشرقين، فإنهم قد فاقوا أساتذتهم في الوقاحة والازدراء بأصالة المجتمع المغربي وتراثه.
ومن الناحية النفسية، يمكن القول؛ إن هؤلاء الروائيين وجدوا أنفسهم، غداة الاستقلال، معزولين عن الشعب المغربي لكونهم لا يملكون أداة التواصل الرئيسة، وهي اللغة العربية، فولوا وجوههم قبل أوربا وحكموا على أنفسهم بالنفي عندما اختاروا اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير، والقارئ الفرنسي هدفا لإبداعهم الأدبي.
وفي هذا الصدد يقول نجيب العوفي: "إن القارئ الفرنسي الأوربي يبقى هو المستهدف الأول لهذا الأدب، سيما إذا علمنا أن أغلب النصوص الأدبية المكتوبة بالفرنسية، مطبوعة بكمية وافرة في فرنسا على نحو خاص، وأن أغلب هؤلاء الأدباء الفرنكوفونيين مقيمون بفرنسا، ويحملون معهم المغرب كذاكرة موشومة، ومادة خامة للكتابة. ومن ثم أرى أن الجمهور الأساسي الذي يتوجه إليه هذا الأدب، هو الجمهور الأوربي بعامة والجمهور الفرنسي بخاصة، من غير أن يعني هذا غياب الجمهور المفرنس، لكن حجمه يبدو أقل من الحجم الأول لأنه ببساطة لا يمثل القارئ "النموذجي" الذي يتوجه إليه أو يتصوره الكاتب المغربي الفرانكفوني"7.
الهوامش:
2 – الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، عدد 270 مارس 1989
3- ( Le roman marocaine de langue française)Ed Publisud, 1987 Paris, p 23-24 i Lahsen Mouzoun
د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/ تطوان المغرب. جمادى الأولى 1434/ مارس 2013.
1 تعليقات
اشعر بنوع من الحسرة عندما اجد في دراستي الجامعية مادتين بالفرنسية ولا وجود لمادة العربية مع انها ضرورية في علوم الشريعة و الفقه
ردحذف