العقل والدماغ




إن دماغ الإنسان، حسب العلم الحديث، هو ذلك الجهاز المعجز ذي القدرة الهائلة على التحكم في أجهزة الجسم والسيطرة عليها مدى الحياة، والقيام بوظائف عديدة ما زلنا نجهل كثيرا منها. ولو فكر الإنسان في تقليد الدماغ البشري، اصطناعيا، فسيجد أنه سيحتاج لمعدات إلكترونية تملأ مدينة صناعية للقيام بالمعلوم من وظائف مخ واحد. وخلايا مخ الإنسان يمكن أن تستوعب ما يزيد على مليون بليون معلومة، والأشد إعجازا هو المرونة والتنظيم الخفي، والحساسية الفائقة في التعامل مع هذه المعلومات.


ولقد ذهب الفلاسفة المعاصرون والأطباء وعلماء النفس وجل المفكرين إلى أن العقل موجود في الدماغ، ويستندون في ذلك إلى دلائل كثيرة، من بينها:


-أن من أُجْريت لهم عمليات استئصالٍ للقلب ثم استبداله بقلب اصطناعي، فإنهم لم يصابوا بالجنون، مع فقدهم لكثير من الأحاسيس.


-أنك ترى جميع البشر يشيرون إلى الدماغ إما بالذكاء وسرعة الفهم، وإما بالجنون وبطء الفهم.
-قالوا: إنا وجدنا أن عامة ما يُؤثر في الدماغ يؤثر في العقل، وأن المرء إذا سكر أو ضُرِب على رأسه فإنه قد يُغمى عليه أو حتى يفقد عقله، فدلّ ذلك على أن الدماغ هو العقل ومركز الإحساس والتصورات.
-وقالوا: إنه إذا اختل الدماغ أو المخ في حادث، اختل العقل والتصور والإحساس، بينما نجد أن القلب قد يمرض ويبقى العقل سليماً.


إن الدراسات والأبحاث البيولوجية و الفسيولوجية، بنتائجها العلمية الباهرة، أوحت إلى كثير من الباحثين والفلاسفة وعلماء النفس، بأن العقل محله الدماغ، كما أن هذا الأخير هو آلة التفكير. وفي غمرة الفرح بما توصل إليه الفسيولوجيون في ميدان وظائف الدماغ، والجوانب المتعلقة بالإحساس والفضاء العصبي، وبما انتهوا إليه من استنتاجات ونظريات مادية، مال علماء النفس وأطباء الدماغ، إلى المزج بين الماهية العضوية للجسم البشري، وبين جوهر الكينونة البشرية، علما بأن الأعضاء المكونة لجسم الإنسان، لها خصائص ووظائف غير خصائص ووظائف الإنسان ككيان بشري متميز.


إن لكل عضو من جسد الإنسان خاصية تميزه عن الأعضاء الأخرى. وكذلك الإنسان يتصف بصفات خاصة به غير صفات جسمه أوأعضائه، لكونه كيانا خاصا لا مجرد جسم أو مجموعة أعضاء.


وإذا كانت خاصية الحواس تكمن في نقل الإحساس بالواقع، وخاصية الدماغ؛ تمركز الإحساس الواقعي المنقول إليه، فإن خاصية الإنسان أعلى من ذلك وأرقى؛ إنها الإحساس والشعور والإدراك.


يقول د. هشام البدراني:


"فالعين والأذن وغيرهما من الحواس، ترتبط في الكائن البشري بعلاقة كونه كيانا وليس مجموعة أعضاء، بأنها وسائل نقل الحس بالواقع إلى مراكز الإحساس في الإنسان. وهذا النقل ليس هو الإحساس المترتب من تكامل عناصره من الواقع المحسوس، وخاصة الحواس لنقله، وقدرة الكائن البشري على تمثله بالصورة الحسية المعينة. لأن العين هنا وساطة لتوصيل صور الواقع الحسية بصفتها البصرية، وليست هي محل الرؤية أو صفته. على هذا فإن العين لا تبصر، وإنما تنقل الحس بالواقع الذي تتأتى به مقومات الرؤية للكائن الحي البشري، فتحصل الرؤية. والأذن لا تسمع، وإنما تنقل الحس بصورة الواقع السمعي، والدماغ لا يحس، وإنما يتركز فيه الإحساس، وهكذا. فلو كان الإبصار خاصة العين لأمكن الرؤية بالعين وحدها وبمعزل عن الجسم؛ وما يقال في العين ينطبق على باقي الحواس أو الأعضاء."[1]


وكثيرا ما تجد الإنسان غائبا بعقله وكيانه، يفكر في موضوع معين، وتحدث وقتئذ أصوات فلا يسمعها، أو تمر أشياء أمام عينيه فلا يبصرها. لماذا بطل الإحساس بتلك الأصوات والصور، مع سلامة الأذن والعين والدماغ؟ أليس لأن الإنسان بعقله وقلبه وكيانه المستقل عن تلك الأدوات والآلات ومجموع البنية الفسيولوجية والعصبية، هو الذي يقرر ويحكم ويحس ويشعر ويدرك...؟ فلم لم يأمر الدماغ (الذي يعقل ؟؟ !) الحواس بنقل تلك المحسوسات المسموعة والمرئية، إلى مركزها، ثم يعمل على إدراكها بنفسه ؟. ألا يتبين من خلال هذا المثال أن خاصية الإحساس والشعور والإدراك هي خاصية متعلقة بماهية الإنسان وكينونته وحقيقته الروحية؟ أليس من السطحية وقصور في الفهم الظن بأن تلك الخاصية هي خاصية عضو جسدي مادي، أو خاصية مجموعة من الخلايا، أو أعصاب دماغية...؟


وقد يقول قائل: إن الأجهزة العلمية الدقيقة استطاعت رصد الحركات أو التفاعلات البيولوجية الدماغية، التي تحدث أثناء عملية التفكير، سواء كان الإنسان غائبا أو حاضرا بذهنه، نائما أو يقظان، مما يثبت الأصل البيولوجي المادي للتفكير؛ أي أن الدماغ هو الذي يفرز التفكير. أقول: إن هذا خطأ فادح، والصواب هو أن تلك الحركات أو التفاعلات البيولوجية الدماغية تمثل وتجسد الآثار المادية البيولوجية للعمليات العقلية القائمة في كيان الإنسان أو قلبه أو روحه، إذ كل ما يفكر فيه الإنسان أو تنقله حواسه، يطبع وينقش في دماغه. إن الإحساس بوجود العملية العقلية في الدماغ هو مجرد إحساس وليس معرفة، إحساس ناتج عن أثر المعرفة في الدماغ من خلال النقش أو الطبع الذي تدل عليه تلك الحركات أو التفاعلات البيولوجية الدماغية. ومن هنا فإن الظن بوجود القدرة العقلية، ذات الأساس الروحي، في الدماغ ظن خاطئ واستنتاج لا ينهض على دليل قاطع.


إن عقل الإنسان قائم على على عناصر أربعة: 1- الواقع المحسوس، 2- المعلومات السابقة، 3- الحواس الخمس، 4- الدماغ. ولا يمكن أن يحصل فكر إلا بوجود المعلومات السابقة التي بواسطتها يفسر الإحساس؛ إذ يستحيل أن يتولد تفكير أو فكر عن الإحساس البيولوجي وحده.


إن الاعتقاد بمادية الوجود كله، ونفي وجود الروح وعالم الغيب، من الأسباب الرئيسة التي جعلت الفسيولوجيين وعلماء النفس والفلاسفة الماديين، يخلطون بين الخواص والوظائف العضوية والجسمية، وبين الخواص البشرية وماهية الإنسان، مما أدى إلى تقديم فكرة غير صحيحة عن الإنسان ووظيفته وموقعه في الوجود. كما نتج عن هذا الموقف الفلسفي سوء فهم طبيعة الدماغ ووظيفته؛ حيث اعتبروا هذا العضو محل العقل أو هو العقل ذاته، في حين أنه فضاء عضوي وظيفي، تتمركز فيه الصور الحسية التي تنقلها الحواس.



 [1] - هشام البدراني: "مفاهيم علماء النفس؛ دراسة وتقويم"، دار البيارق، عمان الأردن 1998/ ص 101-102.



د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/ جامعة القرويين، تطوان المغرب، ربيع الأول 1434/ فبراير 2013.













إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. محجوبة لعوينة7 فبراير 2013 في 7:36 ص

    جزاك الله خيرا على المقال القيم

    ردحذف
  2. I guess finding useful, reliable information on the internet isn't hpoeless after all.

    ردحذف