إن القارئ المتأمل في الآيات القرآنية التي ورد فيها لفظ القلب، يجد أن هذا الجوهر، أو الكيان الإنساني الروحي، هو الجامع لكل الأوصاف والخصائص، والمميزات والصفات والقدرات المعنوية التي يشتمل عليها الإنسان كنفس أو روح. وبعبارة أدق؛ هناك مطابقة تامة بين القلب بالمعنى الروحي القرآني، وبين الإنسان كنفس أو روح؛ أي أن ألفاظ : القلب ، النفس، الروح، هي أسماء لمسمى واحد.
إن القرآن يخبرنا أن القلب يعقل ويفقه ويحب ويكره، ويؤمن ويكفر، ويلين ويقسو، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يتصف بها الإنسان كروح أو نفس. ويغلب في القرآن والسنة إطلاق القلب وإرادة الروح أو النفس، وذلك أسلوب عربي معروف، لأن من أساليب اللغة العربية؛ إطلاق المحل وإرادة الحال فيه، والقائلون بالمجاز يسمون ذلك الأسلوب مجازا مرسلا. ومن علاقات المجاز المرسل عندهم؛ المحلية والحالية. كإطلاق القلب وإرادة النفس أو الروح، وكإطلاق النهر الذي هو الشق في الأرض، على الماء الجاري فيه.
ثم إن الآيات التي تدل على تعلق الروح أو النفس بالقلب، كثيرة منها قوله تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج 46). وقوله أيضا: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد 28). فالمطمئن حقيقة ليس هو عضو القلب، وإنما الحال فيه أو المتعلق به؛ الروح أو النفس. وقوله تعالى: "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" (الحج 35). وقوله تعالى: "وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" (الأحزاب 10) أي النفوس أو الأرواح، من شدة هول المعركة في غزوة الأحزاب، بلغت الحناجر، يعني كادت تفارق البدن وتعانق الموت.
أما فيما يخص العقل، فإنه لم يذكر في القرآن إلا في صيغة الفعل، وفاعله هو الإنسان أو قلبه أو روحه أو نفسه. فلا يوجد ذكر للعقل في القرآن بمعنى الفاعل. مما يفيد أن الأفعال: يعقلون، تعقلون، عقلوه، نعقل،.. الواردة في القرآن تشير إلى عملية التعقل التي يقوم بها الفاعل العاقل، الذي هو الإنسان أو قلبه بمعنى الروح أو النفس.
ومصطلح العقل استعمل في التراث الإسلامي بمعنيين. المعنى الأول يتلخص في كون العقل مرادفا للقلب؛ أي أنهما يشتركان في مسمى واحد وجوهر واحد. وهو اختيار علماء المسلمين وأئمتهم وفقهاؤهم، ومن حدا حدوهم ممن حكم النقل مع استعمال العقل والاستئناس به.
وعندما يقول علماء المسلمين وفقهاؤهم: إن الله ميز الإنسان بالعقل، وشرفه به، أو يقولون من منظور الشريعة؛ إن حفظ العقل واجب، أو يقولون؛ إن العقل مناط التكليف بخطاب الشارع، طلبا أو كفا أو تخييرا أو وضعا. أقول: إن علماءنا وفقهاءنا عندما يستعملون مصطلح العقل فإنما يقصدون به القلب أو الإنسان ككيان روحي أو نفسي. أي ان المخاطب واحد والجوهر واحد. وقد يقصدون بالعقل الفهم والتدبر، وكل هذه الألفاظ الثلاثة مصادر لأفعال: عقل وفهم وتدبر. والقائم بالتعقل والفهم والتدبر، هو الإنسان روحا أو نفسا أو قلبا.
أما المعنى الثاني للعقل في التراث الإسلامي، فيقصد به كيان مستقل، وجوهر قائم بذاته. فهو الذي يعقل ويتدبر ويريد ويقدم ويؤخر... أو هو الآلة أو القوة الغريزية التي بواسطتها يدرك الإنسان الأشياء والحقائق، ويتعلم العلوم والمعارف. أما القلب بالنسبة لأصحاب هذا الاتجاه، فهو موطن أو محل الإيمان والكفر، والحب والكراهية، والأمن والخوف... وكل العواطف والانفعالات الوجدانية. بمعنى أننا إزاء جوهرين مستقلين مع وجود تأثير متبادل بينهما.
وقد مال إلى هذا المعنى من اشتغل أو تأثر بالفلسفة وعلم الكلام، من المسلمين قديما وحديثا. وكذا كثير من كتاب المسلمين المعاصرين، الذين تأثروا بالمناهج والفلسفات الغربية المستوردة. ولا بأس من الاستشهاد على هذا المعنى بنص لكاتب من أولئك الكتاب المعاصرين، وهو الدكتور محمد على الجوز الذي يقول في كتابه: "حول مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة":
"في القرآن يمثل القلب والعقل كينونتين. ففعل عقل يرد تسعاً أربعين مرة في القرآن بصيغ مختلفة. أما مفردة القلب (أو قلب) فيأتي ذكره مائة واثنين وعشرين مرة. ورغم ذلك فالقرآن لا يرى ضرورة القطعية بينهما. بل يؤكد واقع الالتقاء بين العقل والقلب. ولعل أكثر آيات القرآن تعبيراً عن ذلك الآية السادسة والأربعون من سورة الحج: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46). يمثل القلب هنا تلك القوة التي تقف وراء العقل ولا نستطيع تحديدها تحديدا مادياً. إنها البصيرة. فالقلب هنا يرى الوجود بعين البصيرة لا بعين البصر ويدرك الحقيقة إدراكاً من الداخل لا من الخارج أو الظاهر. وبتعبير العلم الحديث فكسب رهان الحقيقة ويتطلب رؤية مركبة ومعقدة للأشياء. فالإمساك بإيمان مطمئن لا يكفي فيه التوكل على سلطان العقل وحده بل يحتاج فيه المتعطش إلى نور اليقين إلى هدي القلب. فبصيرة القلب وعقلانية العقل مستويان ضروريان للمجتمع باليقين. ومن ثم لا يمكن للرؤية القرآنية إلا أن تدعو إلى التواصل والتعاون بين العقل والقلب في مثل هذا النوع الرفيع المستوى في دنيا المعرفة الإنسانية. (....)
إن تكامل القلب والعقل والتقاءهما في رؤية القرآن والسنة يمكن إبرازهما في النقاط التالي: فالعقل يسمح للفرد بالتفكر في الطبيعة والحياة والإنسان، ومن ذلك يستنتج أدلته على وجود الخالق. فيسعى إلى كسب رهان العقيدة واليقين. أما القلب فيقوم أساسا بالشيء نفسه لكن بأسلوب تفكير مختلف، فهو يستند إلى الوجدان العميق والبصيرة النفاذة. إن هناك اختلافا في الأدوار بين الإثنين. فالعقل يجمع المعلومات وينظمها ويستنتج منها ما يمكن أن يساعده على تحسين رصيد معرفته. أما القلب فهو يدرك هذه المعلومات إدراكاً باطنياً ووجدانياً"[1].
إن قول د. محمد على الجوز: " في القرآن يمثل القلب والعقل كينونتين" و " القرآن لا يرى ضرورة القطعية بينهما. بل يؤكد واقع الالتقاء بين العقل والقلب". يفيد أن فهم الدكتور يفتقر إلى الاستيعاب الصحيح لمعاني الآيات المتعلقة بالقلب، مما جعله يتوهم وجود كينونتين، أو جوهرين قائمين بعملية الإدراك والتعقل. ولا وجود لآية قرآنية واحدة تدل من قريب أو بعيد، على صحة ما ذهب إليه. أي تثبت وجود العقل باعتباره كينونة قائمة موازية لكينونة القلب.
ثم إنه عمد إلى إقحام هاتين الكينونتين في شرحه وفهمه لقوله تعالى: " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج:46)، حيث قال: " يمثل القلب هنا تلك القوة التي تقف وراء العقل ولا نستطيع تحديدها تحديدا مادياً". ذلك أنه استنبط وجود كيان العقل وجوهره من قوله تعالى: "يعقلون". ثم ميز القلب بالبصيرة والعقل بالعقلانية. فنحن إذا إزاء كيانين أو جوهرين؛ مجال أحدهما البصيرة ومجال الآخر العقلانية.
وكذلك قوله: " فالعقل يسمح للفرد بالتفكر في الطبيعة والحياة والإنسان... فالعقل يجمع المعلومات وينظمها ويستنتج منها ما يمكن أن يساعده على تحسين رصيد معرفته. أما القلب فهو يدرك هذه المعلومات إدراكاً باطنياً ووجدانياً". لماذا هذا التقسيم وهذه الثنائية إن صح التعبير؟ بل كيف يعقل تصور مخاطبين في كيان واحد؛ كيان الإنسان باعتباره روحا أونفسا أو قلبا؟
[1] - د. محمد علي الجوز: "حول مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة"؛ دار العلم للملايين، بيروت 1980، ص 275.
د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/جامعة القرويين، تطوان المغرب. ربيع الأول 1434/ فبراير 2013.
5 تعليقات
بارك الله فيك أستاذنا الفاضل وجزاك الله خيرا على المقال القيم
ردحذفI appreciate the good work you are doing! I’ve really enjoyed reading it. You’ve arouse me a great interest. I’ll investigate it more. Keep up doing it!
ردحذفThat's the best ansewr by far! Thanks for contributing.
ردحذفI hate my life but at least this makes it berabale.
ردحذفAt last! Someone who understands! Thanks for piostng!
ردحذف