العقل جوهر أم عرض ؟


إن الجوهر والعرض من المفاهيم والمصطلحات الفلسفية التي وظفها متفلسفة المسلمين؛  (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد...) في تحليلاتهم الفلسفية لموضوعات الوجود الإنساني والوجود الكوني. وهذه المفاهيم ترجع إلى أصول يونانية، حيث أن الاشتغال بالفلسفة عند المسلمين، حدث مباشرة بعد تأسيس بيت الحكمة في بغداد بأمر من الخليفة العباسي المأمون، الذي أعجب بالفلسفة اليونانية، وعمل على جلب كتبها وشجع على ترجمتها إلى العربية.


وإذا كانت هذه المفاهيم، في مجملها، قد اندثرت بفعل تطور التفكير والثقافات عبر التاريخ، فإن مفهومي الجوهر والعرض من المفاهيم التي صمدت في وجه التغيير. ولعل السبب في ذلك يكمن في كونهما يعبران عن حقيقة من الحقائق التي لا يرقى إليها الشك.


والمقصود بالجوهر، هو الماهية التي إذا وجدت في الخارج وجدت لا في موضوع، كالكتاب يوجد في الخارج مستقلاً أي قائماً بنفسه، وجوده غير وجود الحرارة للماء، أو البياض للورقة، فالحرارة موجودة بغيرها، بينما الكتاب موجود بنفسه.


أما العرض فهو الموجود في موضوع، لكن ليس كل ما وجد في موضوع هو عرض، بل العرض هو ما وجد في موضوع وكان الموضوع مستغنياً عنه، كالحرارة الموجودة في الماء، والماء مستغن عنها، والبياض الموجود في الورقة والورقة مستغنية عن البياض.


وفيما يتعلق بالعقل، ذهب متفلسفة المسلمين وعلماء الكلام إلى أنه جوهر قائم بنفسه.


إن متفلسفة المسلمين يطلقون لفظ العقل على ثمانية معان :
منها المعنى الذى يقصده المتكلمون ، وهو الذي ذكره أرسطو في كتاب البرهان ، و هو التصورات والتصديقات الحاصلة للنفس بالفطرة.
والثانى العقل النظرى وهو قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية .وهذا العقل له عدة أحوال يطلق على كل منها عقلا: هو العقل الهيولانى والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد .
فالعقل الهيولانى؛ حالة للقوة النظرية لا يكون لها شيء من المعلومات حاصلة، فحده أنه قوة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد.
وأما العقل بالملكة وهو ما ينتهى إليه الصبى عند التمييز، وحده؛ أنه استكمال العقل الهيولانى حتى يصير بالقوة القريبة من الفعل.
وأما العقل بالفعل فإنه استكمال للنفس بصور ما أي؛ صور معقولة حتى متى شاء عقلها أو أحضرها بالفعل.
وأما العقل المستفاد؛ فهو أن تكون تلك المعلومات حاضرة في ذهنه وهو يطالعها ويلابس التأمل فيها، وهو العلم الموجود بالفعل الحاضر؛ وحد العقل المستفاد؛ أنه ماهية مجردة عن المادة مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج[1].
وهناك العقل العملى؛ وهو قوة للنفس محركة ليس من جنس العلوم، وإنما سميت عقلية لأنها مؤتمرة للعقل مطيعة لإشاراته بالطبع.
وأما العقل الفعال فهو نمط آخر، والمراد بالعقل الفعال كل ماهية مجردة عن المادة أصلا، فحد العقل الفعال من جهة ما هو عقل فإنه جوهرى ، وأما من جهة ما هو فعال؛ فإنه جوهر بالصفة المذكورة من شأنه أن يخرج العقل الهيولانى من القوة إلى الفعل بإشرافه عليه.
"أما المتكلمون، فقد ذهب جمهور الأشاعرة والمعتزلة إلى أن العقل هو جملة العلوم الضرورية. فالباقلانى وأبو يعلى  يقولان إن العقل عبارة عن العلوم الضرورية و يقول الأشعرى ؛ إن العقل هو العلم" [2] .


إن وصف العقل بالهيولاني أو الملكة أو الفعل أو المستفاد أو الفعال... كان أمرا مألوفا ومتداولا عند فلاسفة اليونان ومن قلدهم من متفلسفة المسلمين ومتفلسفة المسيحيين. وفي العصور الحديثة والمعاصرة، اختفت هذه الأوصاف من القاموس الفلسفي، لكن جوهرية العقل ظلت قائمة. وهو مذهب كل من اشتغل بموضوع العقل من الفلاسفة وعلماء النفس والأطباء. بل شاع في الناس جميعا أن العقل جوهر قائم مستقل بذاته.


والحقيقة أن العقل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة ... هو أمر يقوم بالعاقل سواء أسمي عرضا أم صفة، وليس عينا قائمة بنفسها، سواء أسمي جوهرا أم جسما. فالعقل عرض قائم بالعاقل، كما يدل على ذلك القرآن في آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى : "أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها" (الحج، آية 46)، ونحو ذلك مما يفيد أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا. قال الإمام أبو عبد الله القرطبي: " وهذا القول في العقل بأنه جوهر؛ فاسد، من حيث إن الجواهر متماثلة؛ فلو كان جوهر عقلا، لكان كل جوهر عقلا. وقيل: إن العقل  هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني، وهذا القول بعيد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي، والعقل عرض يستحيل ذلك منه، كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا[3].


وإذا كان العقل عرضا، والعرض لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالجوهر، فأين يقع الجوهر الذي يقوم به العقل ؟ ذلك ما سأتناوله، إن شاء الله، في موضوعات لها علاقة بالعقل والدماغ والقلب والروح.




-1 انظر أبى حامد الغزالى :معيار العلم فى المنطق ص 278.





2- الزركشى : البحر المحيط 1/165





[3] الإمام أبو عبد الله القرطبي؛ "الجامع لأحكام القرآن"، ج 1 ، ص 252.




د. عبد الله الشارف، كلية اصول الدين، تطوان المغرب، ربيع الأول 1434/يناير 2013.






إرسال تعليق

1 تعليقات