العقل بين الزمن النفسي الشهوي والزمن الروحي الفطري




زمنك فصلك عن حقيقتك، وأخضع عقلك لمحسوساتك، فشق عليك أن تعقل ما لا تلمسه، وإن عقلته فلا أثر. فإن رمت الحق وجب كسر قيد العقل المقيد، لأن الأول (وسع كرسيه السماوات والأرض) لا محدود، والثاني قيدته التجربة والنفس الأمارة. ولن تسطع عليك أنوار الحق، ما لم تتبرأ من القيد وتكسره، إذ نوره لا يرى إلا بنوره، (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ). وإيمانك به هو الذي زينه في قلبك (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم). فلا تعبده بنفسك، إذ عبادتك له رحمة منه، وقد تعرف إليك قبل أن تعرفه، وبه عرفته سبحانه ما أجوده.[1]



إن المراد بالزمن في هذا النص هو الزمن النفسي الشهوي الذي يفصل الإنسان الغافل  عن حقيقته، ويحول بينه وبين عبوديته. وهذا الزمن يقابله الزمن الروحي الفطري. فالظالمون، والغافلون، والمشركون، والضالون، وغيرهم من الطوائف المنحرفة، يغيبون أو ينسلخون عن ذواتهم الحقيقية المطابقة للفطرة، بسبب انصهارهم وذوبانهم في ذلك الزمن النفسي الشهوي، الذي اختزل الزمن كله في الزمن الدنيوي الآني؛ الذي هو "ساعة من نهار بلاغ ". (الأحقاف 34).


ثم إن الإنسان إذا انغمس في الشهوات وركن إليها، حدثت في باطنه نشوة عظيمة ولذة قوية، مما قد يرمي به في السكر النفسي، فيفقد العقل والتمييز، حتى يقال فلان أسكره حب الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حبك الشيء يعمي ويصم "[2].  أي يحجب عنك مساوئ وعيوب الأشياء المحبوبة لديك، كما يسد أذنيك عن سماع كلام اللائمين، أو الناصحين. وهذا السكر الذي أفقد صاحبه ملكة التمييز، وأضعف عنده قوة النفس العاقلة، جرده بالكلية عن زمنه الروحي المتميز بالإرادة الذاتية، وقوة الوعي واليقظة، والانسجام مع روح المسؤولية والاستخلاف، وألقى به في يم الزمن النفسي الشهوي المظلم؛ لا يسمع ولا يرى، لكونه مستعبد من قبل هواه، قال تعالى : " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ". (سورة الجاثية : 23).


وعندما أصبح الهوى إلها يعبد، بطلت وظيفة الحواس، وحيل بين الإنسان وبين زمنه الروحي الفطري، مما أدى إلى حصول القطيعة بينه وبين السماء فخر منها، فتخطفته مخالب الزمن النفسي الشهوي، فانساق مع لذاته ومتعه المادية، إلى أن يفيق في قبره، ولات حين مناص، أو يتداركه الله سبحانه برحمته.


إن زمنك الذي فصلك إذن عن حقيقتك، وأخضع عقلك لمحسوساتك، هو زمنك النفسي الشهوي المرتبط بالماديات الفانيات، وبالأوهام والخيالات. إنه الزمن المهيمن على حياتك وكيانكن والمانع لك من معرفة الزمن الآخر الروحي الفطري، بله الاستفادة منه.


ثم إن المكوث المتواصل في هذا الزمن النفسي المسكر، يؤثر سلبا  في العقل ويقيده، وقد يشله. "فإن رمت الحق وجب كسر قيد العقل المقيد"، إذ تستحيل معرفة الله وعبادته والخضوع لأوامره بقلب ميت وعقل مغلول ومقيد. "وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه"[3].


ومن أبرز أسباب ضياع العقل؛ الجهل بحقيقته، وهذا ما يخفى على أغلب الناس؛ إذ الكل يظن أنه يحسن توظيف عقله، في حين يبدو للمدقق والمتأمل، أن العقل عند معظم الناس، يتجلى في شدة الحرص على المصلحة الدنيوية، والرغبات والأهواء والشهوات النفسية، والحذر من المخاطر المحيطة، والتفنن في أساليب النفاق....وكأن العقل خلق لأغراض مادية دنيوية فقط. إن هذا التصور الخاطئ لمفهوم العقل، وهذا  الاستعمال المنحرف لوظيفته، يدلان على أن الإنسان قد حاد عن فطرته، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. فأصبح عقله مقيدا بتلك الأهواء والضلالات والشهوات المسكرة، مما جعله أشبه بحيوان يعيش داخل كهف مظلم، لأن نور العقل المنبعث من القلب المنيب، قد انطفئ بفعل الأهواء والشهوات والتعلق بالزمن النفسي الشهوي الآني.


إن القطيعة التي حصلت بين القلب المنيب والعقل بسبب الأهواء والشهوات والضلالات، قيدت ذلك العقل وأفقدته وظيفته وهام الإنسان على وجهه.











[1] 1- عبد الله الشارف خواطر إيمانية، باريس 1981.





[2] - رواه الإمام أحمد في مسنده.





[3] - ابن منظور، لسان العرب، مادة عقل.



د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/جامعة القرويين، تطوان المغرب، ربيع الأول 1434/ يناير 2013.


 


 





إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. كيف أتخلص من تقييد العقل وجزاكم الله خيرا

    ردحذف