التنصير والاستعمار





قرب مجيء الاستعمار، وقبل أن يشرع المستعمرون في التمهيد للسيطرة على شعوب أفريقيا وآسيا، كان معظم المنصرين يقومون بنشاطهم التنصيري خارج أوربا وأمريكا ، وكان عملهم في البلدان الإسلامية يتميز بالخفاء والحذر. ثم إن المنصرين كانوا متسترين بأسماء مختلفة. وإذا ما افتضح أمرهم تلاحقهم الحكومات الإسلامية وتطردهم، بل منهم من كان يقتل. لكن لما ذب الضعف في كيان الدولة العثمانية وباقي الدول الإسلامية، وبدأ التدخل الأجنبي في شؤون الحكومات الإسلامية، وظهرت مسألة الحماية الأجنبية وتعددت القنصليات فوق أراضي المسلمين، تنفس المنصرون الصعداء وانطلقوا يمارسون عملهم في اطمئنان، وإذا مسهم أحد بسوء لجؤوا إلى قناصلهم فدافعوا عنهم. ومع مرور الأعوام ازداد دعم الحكومات الأجنبية للمنصرين، وركز  المسؤولون الغربيون مسالة الإرساليات والبعثات المسيحية، وعملوا على إنشاء المدارس ذات الطابع التنصيري في البلدان الإسلامية، واتضح لهم الدور السياسي الذي يمكن أن يضطلع به المنصرون في مجال التمهيد للتدخل والسيطرة على الشعوب الضعيفة، فكانت هذه الإرساليات والبعثات تجسد طلائع الغزو المسلح، وتعبر عن مرحلة من مراحل عملية إخضاع تلك الشعوب للاستعمار. لقد كان للمنصرين أدوار كثيرة في التمهيد للاستعمار، كما كان للدول الاستعمارية ادوار كبيرة في مساعدة المنصرين ومؤازرتهم وحمايتهم، وخطط العمل من الفريقين يكمل بعضها بعضا. " قال الرحالة المنصر الفرنسي شارل دو فوكو في سنة 1924 : " إن مملكة فرنسا في غرب وشمال أفريقيا: الجزائر وتونس والمغرب الأقصى وأفريقيا الغربية.. الخ سكانها ثلاثون مليونا وسيضاعف عددهم في ظرف خمسين سنة بفضل السلم، وحينئذ سيكون التقدم المادي بلغ فيها غاية كبيرة فتصير غنية تمتد فيها السكك الحديدية، وتتعلم نخبة من أبنائها في مدارسنا ويتقن أهلها استعمال أسلحتنا. وإذا لم نعرف كيف نجعل هؤلاء الشعوب فرنسيين فسيخرجوننا من أرضهم، والوسيلة الوحيدة لجعلهم فرنسيين هي جعلهم مسيحيين"[1].


ومن ناحية أخرى لم يكن للمستعمر وسيلة للإطلاع عن كثب على ثقافة الشعوب الإفريقية والآسيوية، وعاداتها ومعتقداتها ولهجاتها ونظمها الاجتماعية وقوانينها، إلا البعثات التنصرية، فكان المنصرون وغيرهم من الرحالة الأوربيين، يدونون ما جمعوا من أخبار وأفكار ومعلومات، أثناء إقامتهم بين ظهراني هؤلاء الشعوب، تلك الإقامة التي تتراوح ما بين السنة وبضعة عقود. ولم يكن الحصول على هذه المعلومات بالأمر الهين، لذا كان على المنصرين والرحالة، أن يواجهوا صنوفا من العقبات والصعوبات، وأن يتحملوا مشقة تعلم اللهجات المحلية، ومشقة التكيف مع أنماط مختلفة من الحياة الاجتماعية.


" لكن الاستعمار غالبا ما كان مدينا للمبشرين فيما بتعلق بالقانون العرفي للسكان المستعمرين، ذلك القانون الكاشف والمبين لحضارة هؤلاء الأهالي. والاستعمار بانتشاره في البلدان ووسط الشعوب التي لم يكن يعرف عنها أي شيء، كان يعرض نفسه للأخطاء التي يصعب جبرها فيما بعد، هذا التفاوت والاختلاف بين الغزو والاستعمار والمعرفة المتعلقة بالسكان المستعمرين هو الذي يوضح لنا قيمة المنصر ودوره"[2].


ولعل أقوى دليل على صلة التنصير بالاستعمار يكمن من الفرق بين موقف الحكومات الأوربية الاستعمارية من الدين والكنيسة داخل بلدانها، وموقفها منهما داخل الدول المستعمرة، ففي الوقت الذي كانت فيه ألوية العلمانية تخفق عالية في سماء أوروبا، كانت الحكومات الأوروبية تنشئ المدارس التبشيرية والكنائس في البلدان التي استعمرتها وتقيم فيها المحاضرات والندوات عن الديانة النصرانية وهذا من المفارقات العجيبة.


إن إيطاليا التي ناصبت الكنيسة العداء وحجزت البابا في الفاتيكان، كانت تبنى سياستها الاستعمارية على جهود الرهبان والمنصرين. بل إن روسيا التي لم تأل جهدا في محاربة الأديان قد تظاهرت بالعطف على رجال الدين ودعت إلى جمع مسكوني في موسكو، وذلك حينما أرادت – بعد الحرب العالمية الثانية- أن تحقق لنفوذها توسعا إقليميا وسياسيا، وقس على ذلك فرنسا وانجلترا والبرتغال وإسبانيا وهولاندا وبلجيكا... وقال " وزير خارجية فرنسا أمام البرلمان عندما وقعت المناقشة بشأن فصول من الميزانية الفرنسية تتضمن العناية بجمعيات التنصير ومحاولة الاعتراف بها، ما مفاده: " إن فرنسا غير متدينة داخل حدودها، ولكنها متدينة في الخارج" فلقد أوجدت هذه التصريحات روحا جديدا في دعاة الكنيسة الكاثوليكية، أصبحوا بها وكأنما نشطوا من عقال لمحاولة تنصير مسلمي شمال إفريقيا"[3].


نستنتج مما سبق، أن المستعمرين قد ألفوا في الحركات التنصيرية خير عون لهم على تحقيق أهدافهم المتمثلة في استبعاد الشعوب، وإخضاعها لمخططاتهم التوسعية والاستعمارية.










[1] - مصطفى نصر المسلاتي " الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين" دار اقرأ طرابلس سنة 1986 ص: 179.






[2] - Robert De lavignette " christianisme et colonialisme" Fayard Paris. S.D. P: 66.



[3] - " الاستشراق السياسي " المرجع السابق ص: 178.



د. عبد الله الشارف، جامعة القرويين، كلية أصول الدين، تطوان المغرب/ صفر الخير 1434/دجنبر 2012.


 




إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. Heck of a job there, it asboelutly helps me out.

    ردحذف
  2. Impressive content is the way I am going to describe this article for starters. Your gift for original informative content is unsurpassed on this subject.

    ردحذف