الإرادة والذكر








قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، أن الذكر والإرادة مفهومان منفصلان؛ باعتبار أن الذكر مجاله الدين والممارسة الروحية، التي تهدف إلى تقوية الرابطة بين الذاكر ومذكوره، وهو الله عز وجل. في حين أن الإرادة؛ وهي من المكونات الأساسية للشخصية الإنسانية ، تعتبر من المفاهيم الجوهرية المؤسسة لعلم الأخلاق، كما أن لها موقعها المتميز في المنظومات الفلسفية قديما وحديثا، وكذا في ثنايا الأبحاث والنظريات النفسية وفي صلب قضايا علم النفس الحديث. فكيف يا ترى يمكن الجمع بينهما؟. والحقيقة أن المفهومين متلازمان أقوى ما يكون التلازم، بل إن كل واحد منهما متوقف في وجوده على الآخر. بحيث إذا اختفى أحدهما اختفى الآخر.


إن علاقة التلازم والتداخل بين هذين المفهومين تتجلى في جوانب متعددة من حياة الإنسان؛ وعلى رأسها الجانب المعرفي. ذلك أن المسلم  لن يمتلك المعرفة الحقيقية إلا إذا استوعب مفهوم الذكر وتمثله في إطاره الشمولي، بحيث يؤدي هذا الاستيعاب والتمثل إلى تربع الإرادة القوية والهادفة، والملتزمة على عرش قلبه ، فيغدو بذلك مثالا للمسلم الذاكر المريد.


إن أنوار الذكر الشرعي اللساني والقلبي، عندما تنفذ إلى قلب المسلم وتضيء أرجاءه، تعمل في الوقت نفسه على تربية النفس وتزكيتها، وتحويل صفاتها وأخلاقها الذميمة من كبر وعجب وحسد ورياء وجهل، إلى أضدادها من تواضع... وحب وتعلم، فتنقشع غيوم النفس الأمارة، وترفع موانع المعرفة، ثم تفتح أبواب التلقي والتعلم بعد أن كانت موصدة.


وكما أن دخول ميدان الذكر، والترقي في مدارجه على المنهج النبوي وسنة الصحابة الأطهار، يفضي بالمسلم إلى عالم المعرفة الحقة، بعد التسلح بالإرادة الصحيحة والهادفة، فإن ركوب بحر الجهالة والغفلة، يجعل الإنسان أشبه ما يكون بالحيوان المتوحش بل أضل سبيلا.


ولما كان حال النفس الذاكرة كما ذكرت آنفا، كان حال النفس الغافلة بخلاف ذلك خائرة القوة، مسلوبة الإرادة يغلب عليها الخوف والقلق، إذا حل بها مكروه. ذلك أن الإنسان حين يغفل عن ذكر الله، فإنه ينتقل تلقائيا إلى ذكر غيره، فينتقل من التوحيد إلى الصنمية، حيث ينسب الفاعلية والتأثير إلى الأصنام التي يقيمها، فتضطرب بذلك معتقداته ويتمزق ولاؤه وتتناثر شخصيته، ولا ينقذه من هذا التمزق والاضطراب، إلا العودة إلى ذكر الله عز وجل.


نعم إن الذكر بمفهومه اللساني والقلبي، وكذا من حيث أنه تأمل وتفكر وتدبر، وطاعة وامتثال لأوامر الله، والمبادرة إلى الإصلاح، والبناء الاجتماعي والحضاري...  هذا الذكر له تأثيرعميق في تقوية الإرادة المثالية الهادفة واستثارة طاقاتها.


وبما أن النفس ميالة بطبعها إلى الملذات والشهوات، واتباع سبل الغواية، كانت بذلك السبب المباشر في إضعاف الإرادة الإنسانية، والحيلولة بينها وبين القيام بالوظائف السامية، ولا سيما وظيفة الاستخلاف في الأرض. وهنا تبرز أهمية الذكر بمفهومه الشامل، باعتباره أعظم وسيلة لتهذيب نوازع النفس وميولاتها، والأخذ بيدها إلى ساحل السعادة والطمأنينة، كما تبرز أهميته أيضا في إعادة الحياة إلى الإرادة الحقيقية الهادفة، لا سيما وأن عنصر الإرادة، هو أحد العناصر الجوهرية المكونة لحقيقة الإنسان، إذ لولاها لما كان مكلفا، ولما تحمل الأمانة.


وهكذا فإن الذكر الحقيقي والشامل يهدف أولا وقبل كل شيء، إلى تنمية قوى الإرادة التي تتجسد عمليا في محبة الله وخشيته ورجائه، لأن محبة الله تدفع الفرد إلى طاعته، وخشيته تزجره عن المضي فيما يغضبه، والرجاء من الله يمنحه القدرة على الاستمرار وعدم الملل. والنجاح في هذه الإرادات الثلاث، يؤدي إلى تحرير القلب من الخضوع لغير الله، وإلى الانسجام مع سننه وقوانينه في الوجود.


ولا يعدم المتأمل والباحث الحصيف، الشواهد التي تدل على أن واقعنا الحضاري اليوم يعاني أزمة في الإرادة، تمخضت عن أزمة في الذكر؛ أي في العلاقة بين المخلوق وخالقه؛  معنى ذلك أن أبعاد الأزمة روحية أكثر منها اجتماعية أو سياسية أو ما شابه ذلك، وباتت المشاكل النفسية والاجتماعية، الناتجة عن الضعف والانحراف في بنية الإرادة ومسارها، كثيرة.


ويوم تنكبت الحضارات منهج الفطرة  وأعرضت عن خطاب الوحي، سلك أهلها سبيل الحياة البهيمية، وتقلصت دائرة الإرادات، وانحصرت في المجالات المتعلقة بالأهواء والشهوات والسلوكات الدنيئة. بل إن الإرادة كمبحث من مباحث الفلسفة وعلم النفس قد أصبحت، منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، موضوع جدل حاد بين الاتجاهين العقلاني واللاعقلاني؛ حيث أكد الاتجاه الثاني خضوع الإنسان لقوى باطنية لاشعورية تحدد سلوكه وتوجه إرادته، مما يؤكد الطابع الجبري والقسري لسلوك الإنسان. وهو ما نلمسه في صلب نظرية التحليل النفسي عند فرويد ونظرائه من أنصار النظرية، أو فيما قبل في ثنايا فلسفة شوبنهور وسواه من الفلاسفة الذين أعلوا من شأن العقل الباطني واللاشعوري. ولعل الأمراض النفسية والعصبية المنتشرة في العالم الغربي خير دليل على أن الإنسان الغربي يعاني أزمة حادة وخطيرة على مستوى الإرادة.


د. عبد الله الشارف، كلية أصول الدين/ تطوان المغرب، ذو الحجة 1433-نوفمبر2012.     


 


 

إرسال تعليق

0 تعليقات