الجابري والعقلانية


العقلانية مذهب فلسفي ينطلق من كون العالم بنوعيه؛ الميتافيزيقي والمادي، لا يمكن إدراكه إلا بالعقل وحده، باعتباره الأداة الرئيسة للمعرفة. والعقلانية أيضا مذهب قديم في البشرية، يبرز أشـد ما يبرز في الفلسفة اليونانية وخاصة عند سقراط وأرسطو. ولقد بقيت هذه الفلسفة مؤثرة في الفكر الأوربي زمنا ليس بالقصير، حتى ظهرت المسيحية فغيرت مجرى ذلك الفكر تغييرا جذريا؛ حيث أبعد العقل وحل محله المنطق الكاثوليكي الكنسي بأغلاله وقيوده. وقد تمخض هذا المذهب في العصور الحديثة، عن الصراعات الفكرية والعقدية التي رافقت تطور الفكر الأوربي منذ عصر النهضة. والعقلانية تمثل أحد الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوربية، كما شكلت الوقود الأساسي للثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية.


وترتـبـط العقـلانية الأوربية تاريخيا بالفيلسوف الـفـرنـسي "ديكارت". وكان الفيلسوفان "سبينوزا" و"ليبنز" من أشد دعاتها المتحمسين لها. ولقد حاول الفيلسوف "كانت" التصدي لها وانتقدها في كتابه "نقد العقل الخالص"، إلا أنها انتعشت من جديد بفصل ازدهار "مدرسة هيجل"،  في النصف الأول من القرن التاسع عشرالميلادي.


إن العقلانية، من هذا المنطلق، فلسفة غربية، صاحبت قيام وتطور البورجوازية و الرأسمالية في الغرب. ثم انتقلت إلى العالم. وإذا كانت في ميدان العلوم قد ظلت تتقدم، وبلا توقف، فإنها في ميدان الفلسفة والسياسة، شهدت تحولات وتقلبات كبيرة.


يتضح من هذا التمهيد أن العقلانية مذهب فلسفي وتصور للكون والحياة، ظهر في أوربا الحديثة انطلاقا من عصر النهضة. وهو مذهب يجسد بالأساس منطق الأوربين ونظرتهم الفلسفية للوجود.


والآن أقتطف من كتابات الأستاذ عابد الجابري بعض النصوص التي يدعو فيها إلى العقلانية، والتي لا تخلو من الروح الاستغرابية.


يقول الدكتورالجابري: «ينبغي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية... والتعامل العقلاني النقدي مع تراثنا يتوقف على مدى ما نوظفه بنجاح من المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة».[1]


ويقـول أيضا: «ونحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، ومالم نفضح أصـول الاستـبداد ومظاهره في هذا التراث، فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا. حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة "العالمية"، كفاعلين وليس كمجرد منفعلين»[2].


يرى الأستاذ الجابري أن تاريخنا الثقافي لم يكتب بعد، وبتعبير آخر؛ لم يدون بطريقة مفيدة وايجابية، أي نقدية وعقلانية. ومن هنا فهو يرى أنه إذا أردنا أن نعيد كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة، بمعنى أنه يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا مالم نستعمل "نظارة" غيرنا.


بيــد أنـه إذا كانـت الـمناهـج الـعـلمـية المعاصرة قـد أفرزتها الحضــارة الغـربـية لتتخـذها ، بالأساس ، أداة لفهم وتحليل ثقافاتها الأوربية، أي أن هذه المناهج تم وضع هندستها وشكلها ليتناسب مع تلك الثقافات، فكيف يتأتى لنا استعمالها لتحليل ثقاقتنا الذاتية؟


قد يجيب الأستاذ الجابري بقوله: «إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تـؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع انساني عام. فإذا استطعنا أن نربط هذه المفاهيم بمرجعياتنا؛ أي أن نبيئها (من البيئة) في محيطنا وثقافتنا فإنها ستصبح ملكا لنا».[3]


هذه الإجابة وجيهة ومنطقية إلى حد ما، ولكن كيف السبيل إلى هذه "التبيئة" (إن صح التعبير)؟ وهل وضع لها كاتبنا إطارا نظريا، أو خطة منهجية دقيقة ومناسبة. كلا إنما نجده في كتاباته يتبنى كل ما يجذبه ويستلبه ويأسره من مفاهيم وتصورات غربية ولا "يبييء" منها شيئا. من ذلك قوله «سيلاحظ القارئ أننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو "قراءات" مختلفة متباينة، مفاهيم يمكن الرجوع ببعضها إلى "كانت" أو "فرويد" أو "التوسير" أو "باشلار" أو "فوكو" بالاضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها»[4]...{؟!!}


والخلاصة أن باحثنا د. الجابري يمارس العقلانية ويوظف مفاهيمها بروح استغرابية.









[1] ـ د. محمد عابد الجابري "اشكاليات الفكر العربي المعاصر" ، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر ، الدار البيضاء ، 1989 ص 35.





[2] ـ "التراث والحداثة" المرجع السابق ص17.





[3] ـ د. محمد عابد الجابري: "التراث والحداثة" ، ص 287.





[4] ـ د. محمد عابد الجابري:" الخطاب العربي المعاصر" ، المرجع السابق ص12.


د.عبد الله الشارف؛ الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر؛ طوب بريس الرباط 2003، ص 108-109



إرسال تعليق

1 تعليقات