نشأة التنصير





يمكن اعتبار لحظة بداية المواجهة بين المسيحية والدين الإسلامي الناشئ في مكة والمدينة، نقطة الانطلاق التاريخية لعملية التنصير. إذ أن الوحي لم يلبث أن أضاء بنوره أرجاء المدينتين، وهز كيان القبائل العربية، ونفذ إلى قلوب طالما استحوذ عليها الجهل والجمود، حتى سارع أفراد من نصارى الجزيرة العربية إلى مجادلة المسلمين في هذه العقيدة الجديدة. هذا الجدال الأول الذي وقع بين الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، سيكون الحلقة الأولى في سلسلة من الجدالات، التي سيخوض فيها علماء ومناظرون من الجانبين طوال العصور الإسلامية وإلى الآن.

لم تلحق محاولات التنصير والتشكيك أي ضرر بالعقيدة الصلبة، ولم يعرف التاريخ الإسلامي في عصوره المزدهرة رجالا تنصروا. واكتفى البابوات والقساوسة ورجال الكنيسة بتشويه صورة الإسلام، فنظموا حملة خبيثة ضد المسلمين ودينهم الحنيف، حيث ظهرت مآت الكتب المليئة بالأكاذيب، كي تشبع الرغبة العدائية التي أصلها أصحاب الكنيسة في قلوب رعاياهم من النصارى، وحتى يتم إقامة سد منيع في وجه الدولة الإسلامية النامية.
بقيت نار الحقد تتأجج في صدور النصارى ما يقرب من ستة قرون، حتى اندلعت الحروب الصليبية، فظن الصليبيون أنهم بحملتهم الدينية التي تخفي وراءاها أطماعا سياسية واقتصادية، سيسيطرون على الشرق الإسلامي وسيعملون على تنصير أهاليه بعد أن يخلو لهم الجو للتنصير. وكان من لطف الله أن خابت نياتهم، بالرغم من تفكك الدولة الإسلامية آنذاك، وبعث الله للمسلمين القائد الصالح صلاح الدين الأيوبي، فأحيا همم المسلمين ووحد صفوفهم، وجمع كلمتهم على الجهاد، فكان النصر حليفهم وطردوا النصارى الغزاة من بيت المقدس.

ظلت الهزيمة تعمل عملها في نفوس النصارى حيث لم يهدأ لهم بال، وشرعوا يفكرون في خطة غير خطة الحرب، لأن شوكة المسلمين قوية. فاستقر رأيهم على غزو أرض المسلمين وممارسة التنصير بالطرق السلمية.
ويحدثنا التاريخ أن "رامون لول" الذي تعلم العربية على يد أسير عربي، بذل مجهودات كبيرة في سبيل إيجاد مكان للغة العربية في معاهد ومدارس أوربا. وكان من نتائج ذلك السعي أن صادق مجمع فيينا الكنسي في سنة 1312م على تدريس اللغة العربية والاهتمام بها. فكانت جامعات باريس وأكسفورد وسلمنكا، بالإضافة إلى جامعة المدينة البابوية، أولى الجامعات السباقة إلى تعليم اللغة العربية لطلابها.

جاء في كتاب " الغارة على العالم الإسلامي" يقول: " ادوين بلس في كتابه؛ "تاريخ التبشير" :إن تاريخ التبشير المسيحي يرجع إلى صدر النصرانية ومبتدأ تأسيسها. وإن ريمون لول الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها. فتعلم لول العربية بكل مشقة، وجال في بلاد الإسلام، وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة (...)

وصف المؤلف تنظيم إرساليات التبشير في القرون الوسطى في الهند وجزائر السند وجاوة، واختلاط المنصرين بالمسلمين منذ ذلك الحين. وأشار إلى " بتر هيلنغ: الذي احتك بمسلمي سواحل إفريقيا، وإلى اهتمام هولندة بالتنصير في جاوة في أوائل القرن الثامن عشر، حتى قسمت جاوة لهذه الغاية إلى مناطق لكل منها كنيسة ومدرسة، وقال: عدد الذين تنصروا سنة 1721 بلغ 100.000. وكان النصارى في سيلان سنة 1722 ( وكانت يومئذ تحت سلطة هولندة)، يبلغ عددهم 424000، وتساءل عما بقي منهم الآن وقال: إن المسلمين كانوا قليلين فصاروا الآن فئة كثيرة. (....) وسرد تاريخ تنظيم الإرساليات البروتستانية؛ من دانماركية وانجليزية وألمانية وهولندية، وأخبار اتصال بعضها ببعض، وأسماء الملوك والأمراء الذين كانوا عضدا لها ومؤيدين لأعمالها في القرن السابع عشر وما بعده، في كل أقطار العالم. (....) فتأسست سنة 1795 " جمعية لندن التبشيرية" وما عتمت أن تأسست جمعيات على شاكلتها في اسكوتلندا ونيويورك، وانتشرت هذه الفكرة في ألمانيا والدانمارك وهولندة والسويد والنرويج وسويسرا وغيرها... وتأسست جمعيات فرعية كثيرة مثل " جمعية التبشير في أرض التوراة العثمانية". وبلغ الشغف بهذا العمل إلى أن تأسست إرساليات تبشير طبية على سبيل التجربة، لتلحق بالإرساليات العامة فنجحت نجاحا باهرا، لذلك أخذت تنمو وتزداد، وتألفت لها أقسام نسائية وأرسل بعضها إلى الهند والأناضول" 1.

مع حلول القرن التاسع عشر حين تزامن صعود الإمبريالية الأوربية مع اضمحلال الخلافة العثمانية، وتصدع أطراف الدولة الإسلامية، ازداد التنصير تجبرا وخبثا، واهتدى إلى وسائل جديدة استعملها للوصول إلى مآربه، مستغلا تضعضع المسلمين وضعف سياستهم. وكان على رأس تلك الوسائل؛ إنشاء مدارس تنصيرية تعليمية في مختلف بلدان المسلمين، تهدف إلى التأثير في أطفال المسلمين الأبرياء، وزرع بذور الشك والانحراف في نفوسهم قصد القضاء على عقيدتهم.

" لما نزل المبشرون الأمريكيون من البروتستانت في سوريا حوالي 1820 كانت الفكرة التي تراودهم أن يبشروا من طريق التعليم (...) إلا أن بؤرة نشاطهم التعليمي التبشيري كانت في بلدة عبية الدرزية في جبل لبنان، حيث أنشأوا مدرسة لتخريج المعلمين والواعظين (المبشرين) عام 1843. وفي عام 1859 أسس البروتستانت الأمريكيون في عبية أيضا مدرسة للبنات"2 . وفي سنة 1862 تأسست الجامعة الأمريكية في بيروت. وسعيا إلى منافسة جامعة الأزهر ومضايقتها، أنشئت الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما أنشأ الفرنسيون كلية لهم في لاهور.
وهكذا لم يشرف القرن التاسع عشر على نهايته، حتى كانت أغلبية البلدان الإسلامية مسرحا للعمل التنصيري التعليمي، وموطنا لإنشاء المدارس ذات الأهداف التنصيرية.

وفي مؤتمر القدس قال زويمر كلاما خطيرا؛ إذ رسم خط التبشير بعد ذلك: ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية، ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن هذا هداية لهم وتكريما (!) وإنما مهمتكم؛ أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله. وفي نهاية كلمته قال: إنكم أعددتم نشئا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي لما أراده له الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يعرف من دنياه إلا الشهوات" .

1 - ا.ل شاتلية A. le chatelet " الغارة على العالم الإسلامي" ترجمة محب الدين الخطيب ومساعده اليافي. بيروت د.ت ص: 13-14.
2 - مصطفى خالدي وعمر فروخ: " التبشير والاستعمار" المكتبة العصرية صيدا الطبعة الثالثة 1970 ص:80.


د. عبد الله الشارف، جامعة القرويين/كلية أصول الدين، تطوان المغرب، ذو الحجة 1433/اكتوبر 2012.

إرسال تعليق

0 تعليقات