بين السفسطائي زينون وك. ليفي ستراوس البينيوي





يعتبر التراث الإغريقي القديم أحد المراجع الأساسية في بناء الفكر الغربي الحديث والمعاصر، فقد أحيت أوروبا في معركتها الثقافية تراثها القديم. وإذا تصفحنا أعمال كثير من الفلاسفة والمفكرين الأوربيين وجدناها زاخرة بأفكار وتأملات اليونانيين مع صياغة جديدة وملائمة لروح العصر الحديث. ولقد كانت النظرة العامة التي تولدت عن نمو البحث العلمي هي في أساسها نظرة اليونانيين، وقد بعثت من جديد.
إن الفيلسوف الإنجليزي توامس مور مثلا، بنى نظريته الاجتماعية والسياسية والتي فصلها في كتابه "اليوتوبيا"، مستلهما جمهورية أفلاطون. ولم يكن تفكير الألماني "كانت" إلا تفكيرا أرسطيا لما اطلق اسم المقولات ، وهو مصطلح أرسطي ، على المبادئ العامة للعقل، تلك المبادئ التي يضفيها الذهن من عنده من أجل تشكيل التجربة في صورة معرفة.
ثم إن أعمال نيتشه مستوحاة في المحل الأول، من المثل العليا اليونانية في عصر ما قبل سقراط وخاصة في اسبرطة، وقد استحدث في كتابه الرئيسي الأول؛ " ميلاد التراجيديا"، التمييز المشهور بين الحالتين الأبولونية والديونيزية للروح اليونانية. وكان هيجل مثل هيراقليط، يضفي قيمة كبيرة على الصراع والنزاع، ويذهب إلى حد القول؛ بأن الحرب أرفع أخلاقيا من السلم. إن المشكلات الفكرية والاجتماعية التي تزامنت وظهور الثقافة العصرية، عملت على إثارة مناقشات فلسفية قديمة. وهكذا نجد أن هيجل يكتشف هيراقليط، ثم جاء كارل ماركس من بعده واهتم بالفيلسوف نفسه وبأفكاره حول الصراع.

وإذا تعرضنا للأوجه الشبه الكائنة بين البنيوية الحديثة والنسق الفلسفي لزينون اليوناني، ازددنا يقينا بأن الفكر الغربي مازال يستلهم الفكر الإغريقي.
لم يكن زينون السفسطائي أكثر من فيلسوف استعمل فكره للدفاع عن بنية وطنه الاجتماعية والثقافية، التي باتت مهددة من الداخل ومن الخارج، لذا نجده قد كرس حياته لبلورة ونشر أفكار فلسفية تساعد على قبول الواقع كما هو، وترفض كل ما من شأنه أن يغير المسار الاجتماعي الذي رسمته الحضارة اليونانية في الشطر الأخير من حياتها، ومن هنا اتخذ زينون موقفا معاديا من فلسفة هيراقليط التي تدعو إلى الحركة والتغير، واستعمل كثيرا من الأساليب الجدلية والكلامية لدحض أفكار هذا الخصم حتى قيل عنه: " إن زينون له لسان ذو حدين؛ فهو يستطيع أن يفند لك كل ما تستطيع أن تقول".

ولكي يبرهن على عدم صحة مفهومي الكثرة والحركة، عمد زينون الأيلي، إلى عرض حجج لا تخلو من تناقضات، ومن أمثلته المشهورة في هذا المجال؛ مثال السهم، فهو يقول: إن السهم الذي انطلق من قوس وذهب في الهواء، لا يتحرك أبدا وإن كنا نراه متحركا، لأنه في كل لحظة من لحظات طيرانه، يكون غير متحرك بل موجودا وثابتا في نقطة معينة من الفضاء، وهكذا يرى زينون أن الحركة والتغير مجرد أشباح لا أساس لها، ومدلولهما ينطوي على التناقض، وأن وراء هذه الحركة والتغير الزائفين توجد الوحدة الثابتة التي لا تتجزأ ولا تتغير ولا تذوب.

لقد كان زبنون الإيلي ذا قدرة فائقة على الجدل على طريقة السوفسطائيين، كما كان القدوة الأساسية للمدرسة الأيلية التي صدرت بالنقد والتفنيد لآراء اتباع هيراقليط، وبذل هؤلاء الأيليون مجهودات ومجادلات فكرية كبيرة، لإعلاء قيمة المكان على حساب مفهوم الزمن المتضمن لمعنى الحركة والسيرورة، ذلك لأن الوصول إلى فرض مفهوم المكان وإعطائه الأولوية، ينتج عنه سيطرة فكره الثبات الملاصقة لمفهوم المكان، وبالتالي نفي التغير في الوجود، وفي الوجود الاجتماعي على الخصوص.

وكما كرس زينون جزءا من حياته لتفنيد نظرية التغير الهيراقليطية عن فكرة الثبات، نجد أن ليفي ستراوس منذ بداية حياته العلمية، وجه انتقادات عديدة للنظريات الماركسية وللفكر الجدلي، كما اعتبر البنيات التي توصل عليها من خلال دراسته للمجتمعات البدائية، بمثابة قوانين ثابتة في الزمان.
لقد باتت أثينا مهددة من الداخل بفعل تفاقم المشاكل السياسية والاجتماعية، ومن الخارج بوجود العدو الرابض في إسبرطة، والذي يتهيأ للانقضاض على الوطن الأثيني. وفي ظل هذه الظروف لم تكن فلسفة زينون الأيلي لتناصر فكرة التغير والحركة، لأن المجتمع الأثيني كان قد ولج مرحلة الشيخوخة وفقد فتوته، وهكذا انتقص الأيليون من قيمة مفهوم الزمن، وأرادوا أن يوقفوا عجلته لما شعروا بخطره. أما فيما يخص الواقع الحالي للحضارة الغربية فإن ليفي ستراوس قام، من خلال فكره البنيوي بدور مشابه لما قامت به الفلسفة الأيلية، فقد تصدى هو الآخر لمفهوم الزمن المتضمن لمعنى التغير والثورية، ووضع أفكارا ونظريات حاول من خلالها التخفيف من وطأة المستقبل المظلم. لقد حقق المجتمع الغربي في رأيه نوعا من التماسك في بنيانه الاجتماعية، دون أن ينجو من بعض عوامل التفكك التي نشبت في تلك البنيات وباتت تهدده، يجب إذن العمل على إيقاف الانزلاق نحو الكارثة.

إن الخوف من التطور ومن الزمن، كما يرى هنري لوفيفر في كتابه: "الأيديولوجيا البنيوية"، هو الذي جعل ليفي ستراوس وغيره من الأنتروبولوجيين، يهتمون بدراسة الشعوب البدائية والموضوعات الأثرية. فالفكر البنيوي الاجتماعي يكون قد سجل إذن تراجعا في مسيرة الفكر الغربي، لكونه يعارض الزمن والتغير، ويدافع عن واقع المجتمعات الغربية ويعلى من شأن القبائل والمجتمعات البدائية.

د. عبد الله الشارف، جامعة القرويين/كلية أصول الدين، تطوان المغرب.

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. شكرا لك أستاذنا الكريم على هاته المعلومات القيمة,والتي استفدنا منها أيما استفادة, فلك محبة في قلبي غالية, فلقدتعلمنا من توجيهاتكم كثيرا أيام الدراسة في معهد الإمام أبي القاسم الشاطبي,حفظكم الله

    ردحذف