أسطورة الثقافة الكونية


 








إن المستغربين من "المثقفين" المغاربة انخدعوا ـ كغيرهم من المستغربين في الشرق الإسلامي ـ بأسطورة الحضارة العالمية أو الثقافة الكونية؛ تلك الاسطورة القائمة على أساس أن العالم وطن واحد ـ ثقافيا وفكريا وحضاريا ـ رغم وجود الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، وأن الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد للحضارة المعاصرة. ومن ثم لاحرج من أن نتبنى الثقافة العالمية ونسلك السبل المؤدية إلي تمثلها، بل من الواجب علينا المبادرة بذلك قبل فوات الأوان. كما أن هذا التطور العالمي للثقافة يروج له في الداخل والخارج بشتى الأساليب والإمكانيات، ويبذل القائمون عليه مجهودات كبيرة لإخفاء دوافع نشره والدعوة إليه، لدرجة أن المستغربين ـ من شدة انخداعهم ـ يرون أن عبور الفكر الغربي لحدوده وسريانه في جسد الأمة الإسلامية، لاينطوي على أدنى شبهة غزو أو أثر عدواني. وياليت مستغربينا دعوا إلى الاستفادة من الثقافة الكونية جمعاء، أي تلك التي تنضوي تحت لوائها الثقافات والحضارات المتعددة، غير أنهم اختزلوا كل ذلك في ثقافة وحيدة هي ثقافة الغرب.


وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاستغراب من جهة، والدعوة إلى الثقافة الكونية من جهة أخرى، لايمكن فهمهما بعمق إلا في اطار عملية التغريب التي يضطلع بها الغربيون منذ أزيد من قرنيين. والتغريب من بين الموضوعات الأساسية التي نالت  اهتمامات المعنيين بالمجال الثقافي في العقود الأخيرة. ذلك أن بلدان ما يسمى بالعالم الثالث أضحت منذ زمن الاستعمار هدفا للأطماع الغربية والغزو الفكري الخبيث.


 ولعل من نافلة القول التأكيد بأن ثقافات "العالم الثالث" لم تتعرض طوال تاريخها لما تتعرض له الآن من محاولات الهيمنة والاحتواء والإذابة. ويذهب بعض الدارسين إلى أن التهديد الذي يستهدف الهوية الثقافية في الدول النامية أخـذ يخيف البلدان الأوربية نفسها، مما حـذا بالمسؤولين الأوربيين إلى عقد لقاءات ومؤتمرات، أشهرها المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية الذي انعقد في المكسيك سنة 1982م، من أجل الدفاع عن الثقافات المحلية، والحيلولة دون ذوبانها في الثقافة الأمريكية، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى من خـلال سياستـها الثقافيـة الخارجيـة إلى ماسمي ب "أمركة العالم ثقافيا".


ومن الناحية التاريخية تمتد جذور التغريب إلى القرن السادس عشرالميلادي الذي تزامن مع الحملة الاستعمارية الكبرى بقيادة "الغزاة". ثم تدرج مع زمن الاكتشافات العلميـة الكبرى، إلى أن بلغ ذروته في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وبعد أفول مرحلة الاستعمار، انتقل التغريب من مظهر العنف والقوة إلى مظهر الهيمنة الخفية والتوجيه العقلي المخطط والمدروس، ومايصاحب ذلك من الاغراء والفتنة وخلق الآمال الكإذبة بالخلاص، عبر وسائل التأثير الأكثر تغلغلا، وبطرق غير مباشرة ، لايتفطن إليها معظم المثقفين بله العوام.



د.عبد الله الشارف؛ "الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر"، طوب بريس، الرباط 2003، ص 18-19.


إرسال تعليق

0 تعليقات