الحارث المحاسبي وأسلوب التخويف النفسي



 

 

يقول الحارث المحاسبي في كتابه "الرعاية لحقوق الله". " باب ما ينال به خوف وعيد الله عز وجل"؛قلت فبم ينال الخوف والرجاء؟
قال: تعظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد
قلت: فبم ينال عظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد؟
قال: بالتخويف لشدة العذاب والترجي لعظيم الثواب
قلت: وبم ينال التخويف؟ قال بالذكر والفكر في العاقبة، لأن الله عز وجل قد علم أن هذا العبد إذا غيب عنه ما قد خوفه ورجاه، لن يخاف ولن يرج إلا بالذكر والفكر،لأن الغيب لا يرى بالعين، وإنما يرى بالقلب في حقائق اليقين، فإذا احتجب العبد بالغفلة عن الآخرة... ولم يخف ولم يرج إلا رجاء الإقرار وخوفه. وأما خوف ينغص عليه تعجيل لذته... إنما يجتلب بالذكر والفكر والتنبيه والتذكر لشدة غضب الله وأليم عذابه وليوم المعاد"

التجأ المحاسبي في هذا الكتاب إلى طريقة الحوار؛ حيث افترض مخاطبا ويجيب عن تساؤلاته، ولا ريب أن استعمال هذه الطريقة في معالجة بعض الموضوعات له دور إيجابي في تقريب المعاني إلى الذهن وبلوغ الهدف المنشود. وبعد أن حاور المحاسبي مخاطبه في موضوع التقوى ومحاسبة النفس، ثم في التوبة وشروطها وما يبعث عليها، انتقل به إلى مجال الخوف والرجاء. فالنص الذي بين أيدينا، وصف دقيق وتحليل مركز للطريقة التي بواسطتها يستشعر العبد الخوف والرجاء وتظل نفسه خاضعة لتجاذب قوتيهما.

إن المسلم في زمان كزماننا يصعب عليه أن يتحقق بحالتي الخوف والرجاء، ويقتفي في ذلك أثر السلف الصالح، لكن الصعوبات مهما عظمت تتلاشى أمام الإرادة الصلبة والعزم الصادق. فممارسة التخويف النفسي عملية إرادية محضة، وهي من أنجع الوسائل في استحضار حالتي الخوف والرجاء، وتكون بواسطة الذكر والتفكر. ولقد علم الله سبحانه وتعالى أن المسلم في سعيه الدنيوي وجريه وراء الرزق، يكون عرضة للغفلة ولقساوة القلب، لذا نبهه إلى الذكر وقراءة القرآن، وحثه على التأمل والتدبر ليستيقظ ويزيل عن قلبه آثار تلك الغفلة، ويحيل القساوة ليونة وخشوعا.

ويرى المحاسبي أن المسلم يملك التخويف، أي باستطاعته أن يلجأ إليه ويمارسه تكلفا، غير أنه لا يملك الخوف، وإنما يقذفه الحق سبحانه وتعالى في قلبه إن كان صادقا في تخويفه لنفسه. "إن الله عز وجل إنما خوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا، ورجانا لنرجيها، والتخويف تكلف من العبد بمنة الله عز وجل وبفضله عليه، والخوف هائج منه لا يملكه... وقد يخطر الله عز وجل الخوف بقلب العبد المؤمن من غير تكلف، إذا أراد أن يتفضل عليه بذلك، وإن لم يخطره بباله لم يكن العبد عنده معذورا بترك تكلفة للتخويف، كما أمره أن يخوف نفسه، لأن أمره بالفكرة في المعاد، وذلك هو التخويف والترجي، وتهدده وأوعده ليتفكر في ذلك فيخافه ويرجوه"

ثم إن أهم ما يعين على تخويف النفس ويعجل بقطف ثمار الخوف ولوج باب معرفة الله وصفاته لأن من عرف الله سبحانه وتأمل بعض أسمائه الحسنى كالجبار والمتكبر والقهار والمنتقم والمذل خافه بالضرورة، قال تعالى : "إنما يخشى الله من عباده العلماء".(فاطر 28). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" (رواه البخاري)
ومما يحسن الإشارة إليه؛ أن الإفراط في التخويف قد يأتي بنتيجة غير مرضية، ومن ثم ينبغي للمسلم أن يراعي التوازن بين حالتي الخوف والرجاء لأن الإفراط في الخوف يؤدي إلى اليأس والقنوط، كما أن الإفراط في الرجاء يوقع في التهاون والكسل. وكان فيما قاله أبو بكر الصديق – وهو يودع الدنيا- لعمر بن الخطاب. "... ألم تر يا عمر أنها نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه"

ثم إن الخوف والرجاء متقابلان، أي أن الإنسان إذا تصور أحدهما تصور الآخر فلا يتجرد أحدهما عن مقابله، فالذي يخاف من شيء يرجو في نفس الوقت النجاة منه،الذي يرجو شيئا يخاف أيضا فواته، فالرجاء إذن متصل بخوف خفي كما أن الخوف متصل برجاء خفي.

د. عبد الله الشارف؛ جامعة القرويين، كلية أصول الدين/ تطوان المغرب.

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. Could you send me an application form? flagyl buy actions. Never abuses abuses special priviledges. abuses special abuses special

    ردحذف