وهذا باب عظيم من أبواب السنة من دخله نال الخير العميم وحظي بالنعيم المقيم، ومن أبى فهو إلى الشقاوة أميل وعن الخير أبعد. ولقد حث الشارع على هذا الأدب، وأمر به في مطلع سورة الحجرات، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله."
والأمر يفيد الوجوب كما هو معلوم عند علماء الأصول، وبالتالي فمن الواجب على المسلم أن يعظم شأن نبيه صلى الله عليه وسلم، ويتأدب معه كأنه حي بين أظهرنا، ويجتهد في اتباعه والاقتداء به. قال صاحب المواهب اللدنية: "فمن الأدب ألا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى، ويأذن كما أمر الله بذلك في هذه الآية، وهذا باق إلى يوم القيامة لم يفسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم" .
وهل ضل أكثر من ضل من المسلمين إلا بسبب التقدم بين يدي سنته صلى الله عليه وسلم، من خلال اتباع الأهواء والخيالات، وما تمليه النفوس من الأوهام والتصورات الخاطئة، وترجيح الآراء على نصوص السنة وأ قوال النبي صلى الله عليه وسلم؟‼
لقد تجرأ هؤلاء الناس على نبيهم صلى الله عليه وسلم وسنته، فزلت أقدامهم وحبطت أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكيف يرجو الهدى من أعرض عن علم الهدى؟ بل كيف يستقيم حاله وهو يتخبط في متاهات الأهواء والآراء.
قال الإمام محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: "فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا. أو يحمله شبهة وشكا، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان. كما وحد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل. فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه."
ويدخل أيضا في باب الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، تعظيمه وتوقيره، بل لا يتحقق المسلم بصفات الأدب معه صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان معظما وموقرا له. قال تعالى "إنّا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا" .
والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.
وذكر القاضي أبو الفضل عياض كلاما جميلا متعلقا بتعظيم الإمام مالك رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ، أسوقه كاملا بنصه: " قال مطرف: كان إذا أتى الناس مالكا خرجت إليهم الجارية فتقول لهم يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله واغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا ولبس ساجه وتعمم ووضع على رأسه رداءه وتلقى له منصة، فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال غيره: ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي أويس؛ فقيل لمالك في ذلك، فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وس،لم ولا أحدث به إلا على طهارة.
قال وكان يكره أن يحدث في الطريق أو وهو قائم أو مستعجل. وقال أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ضرار بن مرة: كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير وضوء، ونحوُه عن قتادة.
وكان الأعمش إذا حدث وهو على غير وضوء تيمم.
قال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا؛ فلدغته عقرب ست عشرة مرة، وهو يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغ من المجلس وتفرق عنه الناس، قلت له يا أبا عبد الله لقد رأيت منك اليوم عجبا. قال نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
رضي الله عنك يا شيخنا الإمام مالك وطيب الله ثراك، فقد أحببت النبي صلى الله عليه وسلم وعظمت كلامه وتأدبت بأدبه ونشرت سنته الغراء.
ويدخل في باب الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، الثناء عليه بما هو أهله. وأفضل ذلك الصلاة والسلام عليه، قال تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " . والإكثار من ذكره والتشوق إليه. وتعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر أخلاقه وصفاته وخلاله، وما كان من أمور دعوته وسيرته وغزواته، والتمدح بذلك شعرا ونثرا.
1- شرح العلامة الزرقاني على "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" للعلامة القسطلاني الجزء الثامن ص 521 / دار الكتب العلمية بيروت 1417-1996
2 - محمد بن قيم الجوزية؛ "مدارج السالكين"، ج 2، ص 436. دار الجيل، بيروت، د. ت.
3 - سورة الفتح، آية 9.
4 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي أبو الفضل عياض السبتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 2، ص 29.
5 - سورة الأحزاب، آية 58.
د. عبد الله الشارف؛ "القدوة بين الاتباع والابتداع"، م. الخليج العربي، تطوان/المغرب، 2007، ص 21...
0 تعليقات