رأي الإمام الشوكاني في التصوف



 

يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه: "أدب الطلب ومنتهى الأرب"، وهو يتحدث عن "ابتلاء الإسلام بالمذاهب وتقديس الأموات": "... ويلتحق بالأمرين المذكورين أمر ثالث: وإن لم تكن مفسدته كمفسدتهما، ولا شموله كشمولهما، وهو ما صارت عليه هذه الطائفة المدعوة بالمتصوفة، فقد كان أول هذا الأمر، يطلق هذا الاسم على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلى مبلغ، ومشى على هدي الشريعة المطهرة، وأعرض عن الدنيا وصد عن زينتها، ولم يغتر ببهجتها، ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا، ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع، ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة، ثم جعلوا لهم شيخا يعلمهم كيفية السلوك، فمنهم من يكون مقصده صالحا وطريقته حسنة، فيلقن أتباعه كلمات تباعدهم من الدنيا وتقربهم من الآخرة، وينقلهم من رتبة إلى رتبة، على أعراف يتعارفوها، ولكنه لا يخلو غالب ذلك من مخالفة للشرع وخروج عن كثير من آدابه. والخير كل الخير في الكتاب والسنة، فما خرج عن ذلك فلا خير فيه، وإن جاءنا أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة، وأتقاهم لله تعالى وأخشاهم له في الظاهر فإنه لا زهد لمن لم يمش على الهدي النبوي، ولا تقوى ولا خشية لمن لم يسلك الصراط المستقيم. فإن الأمور لا تكون طاعات بالتعب فيها والنصب وإيقاعها على أبلغ الوجوه. بل إنما تكون طاعات خالصة محضة مباركة نافعة لموافقة الشرع، والمشي على الطريقة المحمدية. ولا أنكر أن في هذه الطائفة من قد بلغ في تهذيب نفسه وغسلها من الطواغيت الباطنة والأصنام المستورة عن الناس، كالحسد والكبر والعجب والرياء ومحبة الثناء والشرف والمال والجاه مبلغا عظيما، وارتقى مرتقا جسيما، ولكني أكره له أن يتداوى بغير الكتاب والسنة، وأن يتطبب بغير الطب الذي اختاره الله لعباده، فإن في القوارع القرآنية والزاجر المصطفوية، ما يغسل كل قذر، ويدحض كل درن، ويدمغ كل شبهة، ويدفع كل عارض من عوارض السوء. فأنا أحب لكل عليل في الدين أن يتداوى بهذا الدواء، فيعكف على تلاوة كتاب الله متدبرا له متفهما لمعانيه، باحثا عن مشكلاته، سائلا عن معضلاته ويديم النظر في كتب السنة المعتبرة عند أهل الإسلام، كالأمهات الست وما يلحق بها. ويستكثر من مطالعة السيرة النبوية، ويتدبر ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره، ويتفكر في أخلاقه وشمائله، وهديه وسمته، وما كان عليه أصحابه وكيف كان هديهم في عباداتهم ومعاملاتهم.1 كأني بهذا العالم القدوة يعض بنواجذه على سنة نبيه، وهو يرغب الناس في طلب الهدي من الكتاب والسنة، والإعراض عما سواهما من الطرق التي قد تفضي بسالكيها إلى ما لا يحمد عقباه، لقد كان هذا العالم رحمه الله للعلم مجمعا، وللدين مفزعا، وعلما في علمه وزمانه. وبعد، أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون القارئ اللبيب ذي الرأي الثاقب قد انقدح في قلبه، واستقر في عقله، أن القدوة المثلى لا تلتمس في شيوخ الطرق الصوفية، وإنما تطلب من معدنها الجوهري وعينها الفياضة: محمد صلوات الله وسلامه عليه، وصحابته ومن على أثرهم من العلماء الربانيين إلى يوم الدين.

1- الإمام محمد بن علي الشوكاني: "أدب الطلب ومنتهى الأرب"، دار ابن حزم 1419-1998، ص 261. د.

عبد الله الشارف، كلية أصول الدين، تطوان المغرب، جمادى الثانية 1433-أبريل 2012.

إرسال تعليق

12 تعليقات

  1. مدونة قيِّمة ما شاء الله .. جازاك الله خيراً.. سأرجع لها إن شاء الله لأقرأ باقي التدوينات..

    ردحذف
  2. طبعا أعجبني هذا الأمر لأنها تنم عن مدى محبة الأستاذ الفاضل لهذا الدين ,الله يجعلك خادما له و مبينا و موضحا اكل غامض ,صراحة أستاذ أنا معجب بمنهجك الذي تتبعه سواء الجامعي أو الفكري,و حتى أنني أعجبت بمسارك الدراسي,أتمنى أن تقبلني أستاذنا الجليل كعضو نشيط يهتم بالتصوف الذي له علاقة بالكتاب و السنة النبوية بعيدا التصوف الباطل الذي يخرج عن الاسلام و يدخل فيما يسمى بالتصوف الموقوة المفتعل الذي يرجى منه تفريق و تفتيت الدين الاسلامي

    ردحذف
  3. أبو أويس الإدريسي27 يوليو 2012 في 9:40 م

    يروى عن الجنيد أنه قال كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من إقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هكذا كان جيل الرواد، كانوا يحرصون على اتباع أدب الشرع، فبارك الله لهم في حياتهم وبعد مماتهم،

    ردحذف
  4. عبد المالك طاهر6 أغسطس 2012 في 5:12 ص

    لماذا تشجع الانظمة العربية الاتصوف خاصة في الجزائر والمعرب

    ردحذف
  5. بسم الله الرحمن الرحيم
    الأخ الفاضل عبد المالك طاهر؛ السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبعد:
    إن التصوف لا يشجع في المغرب والجزائر فقط، وإنما في العالم الإسلامي أجمع بدءا من إندونيسيا... بل إنه يشجع في الدول الغربية أيضا، و يفضل الغربيون ما يسمونه الإسلام الصوفي على الإسلام على الإسلام السني الذي يطلق عليه إسم الإسلام الوهابي أو الأصولي أو السلفي أو الإرهابي أو ما شئت... إن الإسلام السني الملتزم النظيف، الذي يدعو أصحابه إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، و تطبيق الشريعة السمحاء وعدم الخضوع للطغاة والمتكبرين في الأرض، هذا الإسلام السلمي الطاهر الملتزم الذي يأبى الضيم والخذلان والجهل، يشكل بالنسبة للمسؤولين الغربيين وأتباعهم وأذنابهم في العالم الإسلامي، بعبعا مخيفا يقض مضاجعهم ويعكر صفو حياتهم، لذا فهم يشجعون التصوف، ويجعلون منه ذرعا واقيا في وجه البعبع. إن التصوف الطرقي المنتشر في العالم، ما هو إلا وسيلة لتخذير المسلمين والحيلولة بينهم وبين يقظتهم التي تزعج أولئك المسؤولين ورعاياهم الدائرين في فلكهم...لكن هيهات ثم هيهات، لقد أرسلت اليقظة شراراتها الأولى... وإنها ليقظة مباركة حتى النصر والتمكين. "ولينصرن الله من نصره إن الله لقوي عزيز".

    ردحذف
  6. Hello! eakeecd interesting eakeecd site! I'm really like it! Very, very eakeecd good!

    ردحذف
  7. Hello! edbgece interesting edbgece site! I'm really like it! Very, very edbgece good!

    ردحذف
  8. Hello! kgdedfe interesting kgdedfe site! I'm really like it! Very, very kgdedfe good!

    ردحذف
  9. Hello! deebkcg interesting deebkcg site! I'm really like it! Very, very deebkcg good!

    ردحذف
  10. Hello! eaegbce interesting eaegbce site! I'm really like it! Very, very eaegbce good!

    ردحذف
  11. Hello! eaackaf interesting eaackaf site! I'm really like it! Very, very eaackaf good!

    ردحذف
  12. روح الايمان9 مايو 2015 في 1:44 م

    التصوف الطرقي من أخطرما ابتليت به أمتنا الغالية ،عافاها الله و هيأ لها من العلماءأمثاكم من ينقي عقيدها و يعيدها إلى طريق النجاة.

    ردحذف