...وذات صباح ركبت قطار المترو قاصدا معهد الدراسات العليا الشرقية لكي أحضر درس الأستاذ ميشال شولدفيتسك حول التصوف الإسلامي. ولما دخلت قاعة الدرس وجدتها غاصة بالطلبة والباحثين المغرمين بالفكر الصوفي. عندما أخذت مقعدي كان الأستاذ على وشك الانتهاء من مقدمة تتعلق بكتاب عوارف المعارف للسهروردي المتصوف، والحاضرون ينصتون إليه في خشوع كأن على رؤوسهم الطير. ثم شرع في قراءة نص طويل من الكتاب المذكور وأتبعه بترجمة فورية. ولما انتهى من الترجمة طلب من امرأة شابة، كانت جالسة بالقرب منه أن تقوم بتصحيح ما قد يكون قد ارتكبه من أخطاء اثناء القيام بترجمته السريعة للنص الصوفي، فلبت طلبه وقومت بعض التعابير الواردة في الترجمة. ولقد علمت فيما بعد أن السيدة كانت مبرزة في اللغة العربية، وأنها ابنة الأستاذ المذكور الذي أعجبت بتواضعه ونزاهته العلمية. وبعد خروجي من قاعة الدرس أخبرني أحد الطلبة أن الأستاذ يعمل مديرا لإحدى دور النشر الكبرى في فرنسا، كما بدأ يشتغل منذ دخوله في الإسلام بالكتابة عن المتصوفة المسلمين، خاصة محيي الدين بن عربي. ولما اطلعت على بعض تآليفه لمست من خلالها إعجابه الشديد بنظرية وحدة الوجود الصوفية. وسمعته مرة يمدح ابن عربي ويثني على كتابه "الفتوحات المكية" الذي اعتبره أعظم كتاب في الفكر الصوفي على الإطلاق، كما أكد بأنه من المستحيل نقل بعض فصول هذا الكتاب إلى لغة أخرى لغزارة المعاني وعمقها، ولأن لغة الذوق إذا بلغت درجة معينة من العمق والتجريد فإنها تستعصي على الترجمة.
لم يكن الأستاذ الباحث ميشال شولديفيسك وحيدا في هذا المجال، بل هناك عشرات من الباحثين والأساتذة الذين يهتمون بالموضوع نفسه. ويبدو أن موضوع التصوف قد تبوأ مكانة لا بأس بها في الجامعات، والمعاهد، والمؤسسات والجمعيات الثقافية التي تهتم بدراسة الحضارات الشرقية. كما أن دخول الفرنسيين في الإسلام غالبا ما يتم من باب التصوف. وهذا يسري حسب اطلاعي على معظم الغربيين الذين اختاروا الإسلام دينا جديدا، ذلك لأنهم يلتجئون إلى الحياة الصوفية فارين من لهيب الحياة المادية. ولا يستغرب المرء عندما يسمع بوجود فرنسيين منتسبين إلى زاوية أو طريقة صوفية معينة. ولقد التقيت بمجموعة منهم ينتسبون إلى شيخ يعيش في دمشق حيث يقومون بزيارته عندما يشتاقون إليه، كما التقيت بآخرين لهم علاقة قوية بالزاوية البودشيشية ببركان.
د.عبد الله الشارف
من ذكرياتي زمن الدراسة / باريس 1980
0 تعليقات