بين الاستغراب والتغريب والاغتراب



 

...ولعل المستشرق هـاملتون جيب يكون أسبق إلى الحديث عن الاستغراب من كثير من الباحثين المعاصرين في العالم الإسلامي . يقول هذا المستشرق":
» والتعليم أكبر العوامل الصحيحة التي تدعو إلى الاستغراب. ولسنا نستطيع الوقوف على مدى الاستغراب في العالم الإسلامي إلا بمقدار دراسته للفكر الغربي وللمبادئ والنظم الغربية، ولكن هذا التعليم ذو أنواع كثيرة تقوم بها جهات متعددة، وبالطبع لابد أن هناك بالفعل قليلا من التعليم على الأسلوب الأوربي في المدرسة، وفي الكليـة الفنية وفي الجامعة، وعلى هذا التعليم يتـوقف كـل ماعداه« . لقد صدق المستشرق جيب فيما ذهب إليه من كون التعليم "أكبر العوامل الصحيحة التي تدعو إلى الاستغراب".
ويمكن القول على سبيل التعريف: "إن الاستغراب ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسدونها بالميل نحو الغرب والتعلق به ومحاكاته. نشأت في المجتمعات غير الغربية ـ سواء أكانت إسلامية أم لا-على إثر الصدمة الحضارية التي أصابتها قبيل الاستعمار وخلاله ".
ومن أجل استجلاء أكثر لمدلول الاستغراب لابأس من عقد مقارنة سريعة بينه وبين بعض المفاهيم القريبة منه، مثل تغريب واغتراب .
فإذا كان التغريب عمل ثقافي وسياسي يتولاه المسؤولون في الغرب ومن والاهم من المستشرقين والمستغربين، يهدف إلى طمس معالم الحياة الدينية والثقافية للمجتمعات الإسلامية وغيرها، وإجبار هذه المجتمعات على تقليد الغرب والدوران في فلكه، فان الاستغراب مرتبط أساسا بالعامل الداخلي، أي بالمكونات الذاتية الاجتماعية والثقافية والسياسية لتلك المجتمعات، حيث أن هذه المكونات ـ بما تميزت به من انحطاط وتقهقر وجمود ـ ساعدت على إفراز ظاهرة الاستغراب. يقول أنوار الجندي متحدثا عن التغريب: » منذ أن طرح الاستشراق مصطلح "التغريب" في الثلاثينيات من هذا القرن، لفت الأنظار إلى إحدى الغايات الكبرى التي يستهدفها الغزو الثقافي الغربي للفكر الإسلامي، وهي صبغ الثقافة الإسلامية بصبغة غربية، واخراجها عن طابعـها الإسلامـي الخالص، واحتواؤهـا على النحـو الذي يجعلها تفقد ذاتيتها وكيانها« .
أما مفهوم الاغتراب فيقصد به "أن المرء يصبح غريبا تجاه شيء معين أو شخص معين كان يرتبط به على نحو وثيق...ويعرف الشخص المغترب سياسيا بأنه هو ذلك الشخص الذي يكون لديه شعور دائم بالغربة عن المؤسسات السياسية القائمة، وعن القيم السياسية الموجودة وعن القيادات التي تضطلع بأمر السلطة" .
ولفظ الاغتراب أصبح من المصطلحات التي يكثر شيوعها في وقتنا الراهن، لأن الإنسان بوجـه عـام مغترب في عصره، نتيجة لمجموعة العوامل المصاحبة لظروف التغيرات الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية الحديثة في الحضارة الأوربية، التي ترتب عليها إهدار فرديته وقيمه التاريخية، وجعله مجرد مخلوق آلي. كما أن طغيان النزعة العلمانية على القيم الراسخة التي شكلها الدين يعتبر عاملا أساسيا فيبروز ظاهرة الاغتراب
إن العامل الداخلي في الاستغراب أكثر هيمنة من العامل الخارجي، ومن هنا بات من المنطقي أن يكون لفظ مستغرب مبني للمعلوم باعتبار أن الاستغراب يعبر عن ظاهرة نفسية وعقلية واجتماعية تشكل الذات الواعية للمستغرب محورها الرئيس. وبالتالي فالإنسان المستغرب يعي استغرابه تمام الوعي، ويمارسه بكامل إرادته وشخصيته.
د. عبد الله الشارف
الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر/ طوب بريس، الرباط 2003، ص 29...

إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. مقالة في الصميم جزاك الله خيرا يا استاذنا الفاضل على مقالاتك التى نستفيد منها ونرجوالمزيد من العطاء والتأليف .

    ردحذف
  2. بارك الله فيك أستاذنا الكريم، أثلجت صدورنا، كثر الله من أمثالك، وأسال قلمك في الحق والهدى.

    ردحذف