الهجرة إلى أوربا أو الخيال الذي أعدم

الهجرة إلى أوربا أو الخيال الذي أعدم

تأملت حياتك فوجدتها مليئة بالأتعاب، والشقاء، وآلام الغربة، والضغوط النفسية، والاجتماعية. لا شك أنك حزين كئيب....

قبل عقد، أو عقدين، أو ثلاثة، أو أكثر، كنت في بلدك المغرب، الجزائر، تونس، مصر....، تحلم بأن تطأ أقدامك أرض أوربا، حيث المال، والحداثة، والجمال، والعدالة، والعلم، والتقدم، و....

تحقق الحلم بعد أن قطعت المسافة أرضا أو جوا، ونزلت بالديار الأوربية، وانبهرت بالأضواء، والشوارع الفسيحة المضيئة، والعمارات الزجاجية الشاهقة، والقناطر الفولاذية المتقنة، والبساتين الجميلة الواسعة الفيحاء، ووسائل النقل النظيفة المريحة، والمقاهي، والمطاعم الفخمة، إلخ.

كما أعجبت بأسلوب الحياة، ونظام العمل، واحترام الإنسان الأوربي للقوانين الاجتماعية والمدنية، وحبه للعلم والمعرفة والإنتاج.

أنزلت الإنسان الأوربي منزلة عظيمة في قلبك حتى كاد يملكه، وطفقت تتحدث عنه مع أصدقائك بكل إعجاب. لقد صار في عينيك المثل الأعلى، إنه معلم البشرية، المبدع، المنتج، القاهر، العالم، المسير، المتحضر، صاحب الرسالة الحضارية العالمية، إلى غير ذلك من الألقاب والتشريفات وأوصاف المدح.

وكما تألقت في عينيك شخصية الإنسان الأوربي، سقطت منها شخصية الإنسان المغربي والعربي أو المشرقي؛ ذلك الإنسان الجاهل، الفقير، الغبي، المستبد، المتكبر، المعاند، الذليل، الذي يحمل كل أوصاف الضعف والجهل والتخلف.

إن نظرة الإعجاب إلى الأوربي المصاحبة لنظرة الاحتقار إلى المغربي أو العربي أو المشرقي، أثرت في حديثك وجعلتك تنسلخ تدريجيا من بعض مكوناتها وعناصرها، وبدأ طبعك يتأثر بطباع الأوربيين، وطفقت شخصيتك تتقمص بعض ملامح شخصيتهم.

مرت السنوات الأولى، كنت خلالها تفكر في جمع المال، وإقامة مشروع تجاري في البلد الأصلي بعد الرجوع النهائي. كما كنت تجتهد في اكتساب أوصاف وسمات الإنسان الأوربي المتحضر، و تعلم لغته، وتقليده في الملبس والمأكل وأسلوب الحياة، وفي التفكير في متاع  الدنيا وملذاتها. لكن تحقيق هذه الأحلام وغيرها، لا يتم إلا بتوفير بعض الشروط الضرورية لمتابعة الحياة في اطمئنان وسعادة، منها إيجاد الأسرة.

تزوجت أو استدعيت زوجتك، إنه حدث عظيم، حيث شعرت بالدفء النفسي، وألفة الحياة الزوجية، ثم ازدادت الأحلام والآمال وتنوعت، مرت سنوات أخرى أنجبت خلالها زوجتك أولادا، فكبرت الأسرة، وكبرت معها الأحلام.

ثم بدأ الأولاد يتلفظون بالكلمات الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية أو....، ويتمتمون أحيانا بكلمات عربية تلتقطها آذانهم من فمك أو فم زوجتك.

لقد شعرت بنشوة تغمر كيانك وهم يستعملون الكلمات الأولى للغة الفرنسية، أو الإنجليزية....، التي تعلموها من أبناء الجيران الأوربيين، أو في رياض الأطفال بالمدرسة. لكنك همست إلى نفسك قائلا:

أخشى أن يقتصر لسانهم على لغة الأوربيين ولا يتكلمون العربية إلا كلمات، لا لن يحدث هذا أبدا، وسأرجع إلى بلادي قبل  أن يلجوا سن البلوغ، بل قبل سن العاشرة. بيد أنني سأعمل وأكدح كي أوفر المال لبناء منزل في أرضي الحبيبة، مسقط رأسي.

وما هي إلا سنوات معدودة، حتى كان البيت جاهزا، وبدأت تأوي إليه في عطلة الصيف، حيث تلتقي بالأقارب والأحباب.

إن التفكير في الرجوع النهائي، غدا شغلك الشاغل، خاصة أن الأبناء يكبرون، وعجلة الزمن تدور بسرعة. لكن المال الذي توفره لإقامة المشروع التجاري في البلاد ينمو ببطء، بل سرعان ما تلتهمه الحاجات المتجددة أو الطارئة، لتنطلق عملية التوفير من جديد.

وإذا ما حالفك حظ، وتوفر لديك نصيب لا بأس به من المال، بعد أن سلم من مخالب الحاجات، احتقرته، واستهنت به، وقلت: هذا لا يكفي لإقامة مشروع تجاري مناسب في بلادي. ومرت بضع سنوات، والحرب سجال بين جيش التوفير، وجيش الحاجات المتجددة، إلى أن وضعت أوزارها، بقدوم طرف ثالث إلى حلبة الصراع، إنهم الأبناء، وما أدراك ما الأبناء!!!

لقد ولج هؤلاء الأولاد سن المراهقة، وبدأوا يتحررون من سلطة الآباء، كما شعروا بأن كيانهم متجذر في التربة التي ولدوا ونشأوا فيها، وقد تغذت ونفوسهم بثقافة وعادات ومدنية الأوربيين، فرفضوا كل ما تفكر فيه من أسطورة العودة، وخاطبوك بصريح العبارة: إن شئت فارجع إلى وطنك، أما نحن فلن نغادر وطننا!!

كلام غاية في المنطق والصواب، لكنه أشد ألما في قلبك من طعنة الخنجر. هناك شعرت بآمالك وأحلامك تتهاوى، كما تفعل القصور الرملية التي يصنعها الأطفال على الشاطئ عندما تدنو منها مياه البحر فتحولها من خيال إلى عدم.

نعم، لقد أعدم خيالك لأنه كان خيالا. كما كان خطاب الأبناء أو موقفهم من "حلم العودة" بالنسبة لك، بداية العد العكسي، وبداية النهاية.

نعم، تبين لك أنك كنت تعمل في غير معمل، أو كنت تضرب في حديد بارد، وأن سنوات التعب والكدح ذهبت نتائجها وثمراتها أدراج الرياح، وقديما قال الشاعر:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه           تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ضاقت بك الأرض بما رحبت، بعد أن حصل ما لم يكن يخطر ببالك، ولا هجس في ضميرك، إنهم أبناؤك الذين كنت تتعب من أجلهم، وتكد وتشقى لكي يسعدوا في مستقبلهم!

إن السنوات التي كنت خلالها تبذل مجهودات كبيرة في تنشئتهم، ورعايتهم، وتفكر في حياتهم ومستقبلهم بعد العودة إلى الوطن الحبيب، هي السنوات نفسها التي، على حين غفلة منك، صاغت شخصيتهم، وغذتها بعناصر ومكونات الثقافة الأوربية، وأرضعتهم لبن التربية العلمانية، وبذرت في قلوبهم بذور المحبة للوطن الذي نشأوا فيه، وترعرعوا في أحضانه. فكيف يغادرونه إلى أرض لم ينشأوا فيها ولم يألفوها، ولا يتكلمون لغتها إلا كلمات متقطعة، أو جملا مزركشة، ولا يستسيغون عاداتها وتقاليدها، بل يستغربون من أسلوب حياة أهلها، ونمط عيشهم. هيهات هيهات، هل تريد بعد هذا أن تقنعهم بأفضلية وطنك الحبيب، وجمال طبيعته، وكرم أهله، الخ.كلا وألف كلا، إلا أن يشاء الله، أو يلج الجمل في سم الخياط!

ويصدق عليك قول الشاعر:

متى يبلغ البنيان تمامه           إذا كنت تبني وغيرك يهدم!

لقد أخطأت الطريق عندما غادرت وطنك الحبيب.....

إن بلدان أوروبا عندما شرعت في إعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وعندما عزمت على بناء الطرق الجديدة، وحفر أنفاق المترو....، احتاجت إلى مزيد من الأيدي العاملة. فأبرمت حكوماتها اتفاقيات مع بعض الحكومات العربية، مثل حكومات المغرب والجزائر وتونس، تقضي بإرسال أعداد من الشباب للعمل في أوربا. وهكذا اندفع عشرات الالآف من هؤلاء الشباب نحو القارة العجوز يحدوهم أمل الغنى والرفاهية....

لقد كنت من بين الذين وقعوا في فخ تلك الاتفاقيات، وأنت تحسب نفسك من المحظوظين!! واستغلت أوربا قوة عضلاتك، كما استفادت حكومتك من أموالك التي ادخرتها في مصارف وطنك الحبيب، أو استثمرتها في بناء منزل العودة!! ثم لما بدأت تقترب من سن التقاعد، أخذت أبناءك ليحلوا محلك، ولتعالج بهم خلل النمو الديموغرافي لديها.

يا له من استغلال بشع، ويا لها من اتفاقية لا إنسانية نكراء، تلك التي أوقعت في شركها مئات الآلاف من الشباب، وأبعدتهم عن أوطانهم، وأذاقتهم مرارة الغربة، وآلام الذل، والعنصرية والهوان، واستنزفت طاقاتهم العقلية والبدنية، وحالت بينهم وبين أبنائهم!!

أخي المسلم المهاجر، إن هناك عاملين أساسيين تظاهرا وتضافرا لإخراجك من وطنك الحبيب، وقذفا بك في أوربا عبدا مستغلا في المناجم، أو المعامل، أو أوراش البناء، أو الطرقات...

هذان العاملان هما:

العامل الأول: طمعك المادي، وانبهارك بأوربا، وإعجابك بمدنيتها وقوتها وصناعتها.

العامل الثاني: الاتفاقيات المبرمة بين الحكومات الأوربية، وحكومات الدول المصدرة للأيدي العاملة. إن هذه الاتفاقيات فتحت الطريق، ومهدت السبل، وشجعت الشباب على الهجرة، ووعدتهم بالأماني المعسولة، وأغرتهم بالربح والسعادة!!

لقد كان العمال المهاجرون في عقد الستينيات والسبعينيات، وفي منتصف عقد الثمانينيات يرجعون إلى أوطانهم في الشهر السابع أو الثامن من كل سنة، يحملون معهم الأموال والهدايا الكثيرة، والناس معجبون بهم، ويتمنون ما هم فيه من ثراء ورفاهية!!، وكثيرا ما ينظرون إليهم بعين  الحسد، وهم يشترون الأراضي، ويبنون المنازل الفخمة، ذات الطوابق، بل شيدت أحياء بأكملها من أموالهم. ولم يكد عقد الثمانينيات ينصرم، حتى أفل نجم الثراء والرفاهية، فتوقفت أموال المهاجرين عن التدفق أو كادت، واختفت هدايا الأقارب والأحباب، وتقلص بناء تلك المنازل.

إن موجات الركود الاقتصادي التي عصفت بكثير من دول أوربا منذ مطلع التسعينيات وإلى الآن، أثرت في وضعية العمال المهاجرين، حيث ارتفعت نسبة البطالة في صفوفهم، كما صاحب ذلك أيضا استفحال ظاهرة العنصرية، مما تسبب في سيل من الاعتداءات على هؤلاء المهاجرين وأبنائهم.

ومن ناحية أخرى، فإن مجيء بعض الأحداث السياسية والاجتماعية الجديدة، المرتبطة بالعالم الإسلامي، مثل: الثورة الإيرانية، والجهاد الأفغاني، وأحداث الجزائر الناتجة عن حركة جبهة الإنقاذ الإسلامية، والمقاومة العراقية للغزو الأمريكي، ثم ظهور ما سمي ب "القاعدة"، بعد أحداث شتمبر 2001 بنيويورك، وكذا حدوث بعض التفجيرات في مدن أوربية، نسبت إلى أعضاء فاعلين في "القاعدة"، أو نشطاء  في الجهاد الإسلامي....

إن هذه الانتفاضة التي عرفها العالم الإسلامي، والتي تشير إلى أن هذا العالم بدأ يتحرك ويشق طريقه نحو الانعتاق والتحدي، كان لها وقع سيء في نفوس المسؤولين الغربيين، الذين سرعان ما كشفوا عن نواياهم العدائية، فشرعت وسائل الإعلام؛ المكتوبة والمسموعة والمرئية، تصف هذه الانتفاضة وهذه الصحوة، بكل أوصاف الغرابة، والوحشية، والإرهاب، واللإنسانية، كما تحذر العالم من خطرها. وهكذا انتشر في الغرب المسيحي ما سمي ب: إسلامفوبيا؛ أي الخوف من الإسلام.

كما أثارت هذه الصحوة قضية وجود المسلمين في الغرب، وتزايد أعدادهم يوما بعد يوم، مما أثار قلق الغربيين، وجعلهم يفكرون فيما ينبغي عمله إزاء ما سماه بعضهم؛ "الغزو الإسلامي للغرب".

وخلاصة القول: إن هذه الأحداث والوقائع التي جعلت الروح الصليبية تتجدد في كيان الغربيين المسيحيين، ويعبرون عنها في حياتهم اليومية، وفي وسائل الإعلام، والمؤسسات التعليمية، دفعت هؤلاء الغربيين كي يكرهوا العمال العرب المهاجرين وأبناءهم أكثر فأكثر، ويمعنوا في استغلالهم واحتقارهم، والاستهزاء بهويتهم، ومقوماتهم الدينية، ولا أدل على ذلك من قضية الحجاب، وقضية الرسوم المسيئة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

أخي المسلم المهاجر، لا شك أنك شعرت بكراهية الأوربيين، وعدائهم للإسلام والمسلمين، وأن هذا العداء ازداد حدته، وتضاعف بعد حدوث تلك الأحداث والوقائع المشار إليها آنفا. لقد أحسست بوطأة تلك الكراهية التي تعلو محياهم، وتنطق بها ألسنتهم، فتنطلق كلماتها المقيتة كالسهام النارية، نحو قلبك، وقلوب أمثالك من المهاجرين المسلمين.

ما كنت تحسب قبل عقود مضت،  عندما غادرت وطنك الحبيب أن الأيام ستباغتك بهذه الدواهي المدهية، والنوائب المبكية، والشدائد والنكبات وقوارع الدهر: أحلامك لم تتحقق، وأبناؤك تمردوا عليك، وسخروا من أفكارك وتصوراتك، والبلد الأوربي الذي طلبك واستقبلك، ودعاك لبناء طرقه، والعمل في الأعمال الشاقة، تنكر لجميلك، وقلب لك ظهر المجن، بعد أن استغل فتوتك وشبابك، ثم أخذ منك أبناءك قسرا وقهرا، وأنت لا تستطيع فعل شيء، كأنك مكتوف الأيدي.

إن الميراث الديني، والثقافي، والحضاري، الذي انتقل إليك عن طريق الآباء والأجداد، والذي شكل عناصر ومقومات هويتك، وشخصيتك، وكيانك، تجمد في عروقك وأوصالك، لأنك لم تستطع نقله وإيصاله إلى أبنائك، بسبب انقطاع التواصل بينك وبينهم، ذلك الانقطاع الذي نتج عن اختلاف التربتين والنشأتين؛ إذ أن وحدة التربة والنشأة شرط أساسي وجوهري لنقل الميراث.

عندما تجمد الميراث في أوصالك، وشعرت بنهايتك، حيث لم تتحقق سيرورتك واستمراريتك الوجودية في شخص أبنائك، أورث ذلك حزنا عميقا في قلبك، تولد عنه طائفة من الهواجس والوساوس، وأنواع من المخاوف والخيالات المؤذية، والتي كثيرا ما تتعب المصابين بالأمراض النفسية.

لقد أكدت الدراسات النفسية والاجتماعية قديما وحديثا، أن "الإنسان ابن بيئته"، فمن نشأ وترعرع وكبر في بيئة معينة، فهي أمه ومرضعته وملهمته، وبها يتأثر، ولها يخضع، وبأوامرها يأتمر، وبأحلامها يعيش، وبثقافتها يتنفس.

وللمجتمع من خلال اللغة، والمؤسسات التربوية، والثقافة والعادات والتقاليد، سلطة قاهرة على الفرد الذي يحيا بداخله. وقلما يثور الفرد على هذه المكونات والعناصر المادية والمعنوية، التي يتأسس عليها مجتمعه. بل كيف يثور عليها، وكيانه مرتبط بها.

أخي المسلم المهاجر، إن من أبشع الجرائم المعاصرة وأفظعها، اعتداء الطغاة وأصحاب القرار في البلدان الغربية، على هويات الأبناء المهاجرين المسلمين كأبنائك، ذلك أن البرامج التعليمية والتربوية المعدة لهؤلاء الأبناء، وأساليب الاندماج والتكيف التي تمارس عليهم ترمي بالدرجة الأولى، إلى سلخهم عن هويتهم، كي يذوبوا وينصهروا في الهوية الغربية العلمانية.

ومما زاد الطين بلة، أن الحكومات العربية التي صدرت أبناءها للعمل في أوربا، لا تبدي اهتماما حقيقيا بموضوع هوية أبناء المهاجرين وأحفادهم...أما ما تقوم به جهات معينة، أو جمعيات ومؤسسات، سواء بتنسيق مع تلك الحكومات أو بغير تنسيق، فيما يخص تعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي لأبناء الجاليات العربية، فإن ذلك مجرد مجهودات متواضعة أو ضعيفة جدا لا ترقى إلى مستوى الإنقاذ، بله إثبات الذات والتحدي.

ولما كنت طالبا جامعيا في مدينة باريس، خلال العقد الثامن من القرن العشرين الميلادي، كثيرا ما كنت ألتقي بفرنسيين طلبة، أو أساتذة، أو أطباء، أو مهنيين، من أصول عربية قديمة، بعضها جزائرية، حيث أن فرنسا استعمرت الجزائر سنة 1830، فحصل الزواج بين كثير من الجزائريين والفرنسيات خاصة في فرنسا، وظلت ألقاب أولئك الجزائريين مقترنة بأسماء أولادهم وأحفادهم.

لقد تلاشت هويات أولئك الأحفاد ولم يبق منها سوى ذلك اللقب، حيث تحولوا مع الزمن إلى فرنسيين مسيحيين أو علمانيين. كما أن هنالك حالات مماثلة لتونسيين أو مغاربة تزوجوا فرنسيات أثناء الفترة الاستعمارية.

"في مرحلة الاستعمار الفرنسي، هاجرت مجموعة من مسلمي شمالي إفريقيا وإفريقيا الجنوبية الغربية إلى فرنسا، وكانت هنالك أقلية تسكن في باريس ومرسيليا وليون قبل الحرب العالمية الأولى، ومع بداية الحرب دخل بعض المسلمين المهاجرين في الجيش الفرنسي، وشاركوا في المعارك المختلفة، وتقدموا إلى قلب ألمانيا، حيث قتل عدد منهم، وفي الحرب العالمية الثانية، شارك مسلمو شمال إفريقيا في وحدات الجيش الفرنسي. وقد قتل عشرات الالآف من المسلمين في المعارك الضارية التي دارت بين فرنسا وألمانيا دفاعا عن الأرض الفرنسية..."[1].

وقد عثرت في الانترنيت على قائمة طويلة من الألقاب المغاربية المقترنة بأسماء فرنسية، وجل أصحابها لا يزالون على قيد الحياة، ويشغلون مناصب أو وظائف معينة، أو يحترفون الطب، والهندسة، والمحاماة، أو التجارة، إلى غير ذلك من المهن، مثلJacques Amrani أي جاك العمراني، أو Juliette Mrabet أي جولييت المرابط وهكذا....وأغلبهم يمثلون الجيل الرابع، أو الخامس، أو السادس، أو السابع، في سلم الأجيال المنحدرة من الجيل الأول، الذي كان يتكون من المغاربيين، الذين هاجروا إلى فرنسا قبل أو خلال الفترة الاستعمارية، أو الذين تجندوا في الجيش الفرنسي خلال الحربين العالميتين.

وقد أجريت دراسات اجتماعية وميدانية حول الوضع الثقافي، والديني، والاجتماعي، للأجيال المتأخرة من هذه الأمثلة، فتبين أن أفرادها لا تربطهم أدنى علاقة دينية أو ثقافية، بدين أو ثقافة الجد المغاربي الأول، الذي تصلب ميراثه الديني، والثقافي في كيانه، ولم ينتقل إلى أبنائه أو أحفاده، أي  إلى الذرية اللاحقة.

يا لها من مأساة، ويالها من كارثة!!؟

إن مثل هذه الأحداث، تعيد إلى أذهاننا صورة المورسكيين، ذلك الشعب الأندلسي المسلم الذي اضطهد على يد المتعصبين من المسيحيين الكاثوليك، بعد سقوط مملكة غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس. لقد حاول المورسكيون الأوائل المحافظة على دينهم وتراثهم لكن دون جدوى، لأن الأعمال العسكرية والتنصيرية، التي كانت تقوم بها السلطات والكنائس المسيحية، من أجل القضاء على ما تبقى من الروح الإسلامية، وطمس كل معالم الإسلام في ربوع إسبانيا، أقوى بكثير من إرادة المورسكيين، الذين لم يستطيعوا الهجرة إلى بلدان المسلمين، أو آثروا البقاء في البلاد، حفاظا على ممتلكاتهم، وطمعا في عودة الإسلام، أو لأسباب أخرى.

إن  مئات من العائلات الإسبانية المسيحية المعاصرة، ترجع في نسبها إلى أصول عربية إسلامية، تنصرت بعد خروج المسلمين من الأندلس، عندما ظلت بين أحضان المسيحيين اختيارا أو إكراها.

إن هناك مماثلة أو مشابهة بين المسلمين المورسكيين الذين تنصروا مع الزمن، وبين أولئك الفرنسيين من أصل جزائري أو تونسي أو مغربي أو الذين تنصروا أو تعلمنوا مع الزمن، أو مئات الآلاف من أبناء الجيل الثاني، أو الثالث، والرابع الذين هم في طريقهم، بعد انسلاخهم من الهوية العربية والإسلامية نحو التنصر أو العلمانية، إلا من عصمه الله.

إن العامل المشترك بين المورسكيين وبين هؤلاء "المورسكيين الجدد"، هو إقامتهم واستقرارهم جميعا في البلاد المسيحية، فصدق عليهم قول القائل؛" الإنسان ابن بيئته"، وهو بيت القصيد أو مربط الفرس.

أخي المسلم المهاجر، لقد أوضحت لك كيف أن الحكومات الأوربية، تسعى سعيا جادا في سبيل إتلاف هوية أبناء المسلمين، وطمس معالمها الدينية والثقافية، وأن الحكومات والمسؤولين في البلدان العربية المصدرة لليد العاملة، لا عمل لهم في هذا الشأن، باستثناء بعض المحاولات والمساعي الباهتة. لكن هذا لا يعني أن المهاجر نفسه لا يد له في هذا الإثم، كلا إنه المسؤول الأول، فهو الذي هاجر إلى بلاد النصارى باختياره لا كرها، وفضل العيش هناك بكامل إرادته وحريته، وتزوج وأنجب أولادا، وعندما كبروا وتمردوا عليه، ومالوا وركنوا إلى الوطن الذي نشأوا فيه وأحبوه، أدرك أبوهم خطأ فعله، وما أقدم عليه عندما هاجر وطنه الحبيب.

يقول المثل العربي:

"يداك أوكتا وفوك نفخ"، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. عبد الله الشارف

جامعة القرويين، كلية أصول الدين

تطوان المغرب، صفر الخير 1431 يناير 2010


[1] - محمود خداقلي يوم وليهمة وزيري: الإسلام والمسلمون في فرنسا " ترجمة الدكتورة دلال عباس ...للطباعة والنشر / بيروت 1425 – 2004.

إرسال تعليق

0 تعليقات