الاستغراب في مناهج العلوم الاجتماعية

"أثر الاستغراب في مناهج العلوم الاجتماعية"

1- تمهيد

لقد كان الاستعمار السياسي والعسكري للبلاد الإسلامية، عاملا في تحريك عجلة الاستغراب والدفع بها إلى الأمام. فما أن انتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيدا للغرب الأوربي وخولا له. فلما استيقظ المسلمون على إثر ضربات العدو المتوالية وصحوا من سكرهم، شرعوا في البحث عن الأسباب التي مكنت العدو من رقابهم وغلبت عليهم الأوربيين. غير أن ميزان الفكر كان مختلا أشد ما يكون الاختلال، وقد تجلى هذا الاختلال في أن شعورهم وإحساسهم بالذلة والهوان كان يحثهم على تبديل حالتهم المزرية، لكن رغبتهم في الراحة وإيثارهم الدعة والارتخاء -من جانب آخر- حملهم على التماس أقرب الطرق والوسائل وأسهلها لتغيير تلك الوضعية. وهكذا مال أولوا الأمر من الحكام ومن في حاشيتهم وعلى شاكلتهم، وكذا كثير ممن حمل راية الإصلاح من المفكرين والمثقفين إلى محاكاة الغربيين في مظاهر تمدنهم وحضارتهم. ومن ثم لم تكن المحاكاة إلا الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن ترقى إلى استعمالها كل عقلية مرضية ومختلة.

إن هؤلاء الذين رفعوا لواء المحاكاة ومن تبعهم إلى الآن، يشكلون الجبهة الرابعة في الجبهات الأربع التي أنزلت الهزيمة بثقافتنا وبأصالتنا، وأبرزت ظاهرة الاستغراب. وأولى تلك الجبهات تتمثل في المنصرين الذين عملوا على غزونا بواسطة المدارس والمؤسسات التعليمية والخيرية وشتى الإعانات. ثم جبهة المستشرقين طلائع الاستعمار، وذلك بما يبثونه في كتبهم من سموم تستهدف الأمة الإسلامية وتراثها، بالإضافة إلى خدماتهم الجليلة للمستعمر. وثالثا جبهة المستعمرين المكشوفة خلال الاستعمار، والمتسترة أو غير المباشرة بعد مجيء الاستقلال.

والجبهة الرابعة هي الجبهة الداخلية، جبهة منا وإلينا، عملت من حيث تدري أو لاتدري، على تسهيل مهمة الغزو الاستعماري، بل منها من شارك المستعمر القديم ويشارك الغزاة المعاصرين في صرفنا عن أصولنا وجذورنا، بل وفي غسل أدمغتنا من كل ماله علاقة بماضينا وتوجيه قبلتنا نحو الغرب.

لقد سعت هذه الجبهة المستغربة ـ بكل ما أوتيت من وسائل ـ إلى استيراد الثقافة الغربية، حتى أصبحت هذه الثقافة في ثقافتنا المعاصرة، ظاهرة تدعو للانتباه، وغدا العالم هو الذي له دراية بالتراث الغربي » وأصبح العلم نقلا والعالم مترجما والمفكر عارضا لبضاعة الغير  « .

يقول أبو الأعلى المودودي :  » المستغربون : المائلون إلى الغرب المفتتنون بحضارتـه. هكذا استعمل هذه الكلمة الكاتب الكبير محمد البشير الإبراهيمي في بعض مقالاته في مجلة "البصائر"، فاخترناها على غيرها من الكلمات في هذا المعنى كالمتغربين والمتفرنجين « [1].

والجمع بين المستشرقين والمستغربين في غاية المنطق والصواب، إذ أصحاب "الثقافة" من المستغربين مدينون ـ في رؤاهم ودعاواهم واستنتاجاتهم ـ لأساتذتهم المستشرقين.

ولعل المستشرق هـاملتون جيب يكون أسبق إلى الحديث عن الاستغراب من كثير من الباحثين المعاصرين في العالم الإسلامي . يقول هذا المستشرق":

» والتعليم أكبر العوامل الصحيحة التي تدعو إلى الاستغراب. ولسنا نستطيع الوقوف على مدى الاستغراب في العالم الإسلامي إلا بمقدار دراسته للفكر الغربي وللمبادئ والنظم الغربية، ولكن هذا التعليم ذو أنواع كثيرة تقوم بها جهات متعددة، وبالطبع لابد أن هناك بالفعل قليلا من التعليم على الأسلوب الأوربي في المدرسة، وفي الكليـة الفنية وفي الجامعة، وعلى هذا التعليم يتـوقف كـل ماعداه« [2]. لقد صدق المستشرق جيب فيما ذهب إليه من كون التعليم "أكبر العوامل الصحيحة التي تدعو إلى الاستغراب".

ويمكن تعريف الاستغراب بما يلي:

" الاستغراب ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسدونها بالميل نحو الغرب والتعلق به ومحاكاته. نشأت في المجتمعات غير الغربية ـ سواء أكانت إسلامية أم لا-على إثر الصدمة الحضارية التي أصابتها قبيل الاستعمار وخلاله "[3].

2- الاستغراب على المستوى المنهجي :

إن العلوم الإنسانية في الغرب المعاصر تعاني مشاكل حادة، سواء على مستوى المنهج أو فيما يتعلق بالبناء النظري. ويرى كثير من الباحثين المتخصصين أن هذه المشاكل المنهجية والنظرية مرتبطة بطبيعة موضوع العلوم الإنسانية من جهة، وبالمؤثرات الفلسفية والإيديولوجية التي رافقت تلك العلوم في تطورها ومسيرتها التاريخية.

ثم إن هذه الفلسفات والإيديولوجيات التي صبغت العلوم الإنسانية بصبغتها، تمثل النتاج الفكري والفلسفي الذي تمخض عن قرون من الصراع بين الفكر اللاهوتي الكنسي والفكر المتحرر، الذي عرف عند مفكري وفلاسفة عصري النهضة والتنوير.

ولما دخل القرن الثامن عشر الميلادي، كانت الثقافة الأوربية قد قطعت أعظم الأشواط في التحرر من هيمنة الفكر اللاهوتي الكنسي. ورفع فلاسفة التنوير شعار العقل، وآمنوا بقدرته على فهم الكون وتسخيره للإنسان، كما أخضعوا المعارف والعلوم للدراسة العقلية المتسلحة بالنقد والتحليل.

ومع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، بزغت العلمانية كمذهب قوي في وجه الكنيسة الكاثوليكية المثخنة بالضربات، والانتقادات الفلسفية والعلمية. كما توج هذا الوضع بأكبر ثورة اجتماعية وثقافية في تاريخ الغرب؛ وهي الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي شكلت أعظم سند لقيام المنهج الوضعي، وذلك على يد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وهكذا قامت الفلسفة الوضعية في وجه كل تفكير يخرج عن دائرة الحس، سواء أكان تفكيرا دينيا، أو فلسفيا، أو عقليا.

يقول أوجست كونت: "إننا ما دمنا نفكر بمنطق وضعي في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة السياسة أو الدين. فالمنهج الوضعي الذي نجح في العلوم الطبيعية غير العضوية، يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير"[4].

لكن يواجه من يتصدى لدراسة منهج العلوم الإنسانية، بعدم اتفاق العلماء وفلاسفة العلم فيما بينهم بشأنه. وقد ظهر هذا الخلاف واضحا منذ النشأة الحديثة للعلوم الإنسانية أو الاجتماعية الغربية.

"فنجد من جهة من ينادي بوحدة المنهج بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن العلوم الطبيعية قد وصلت إلى درجة من التقدم، مما يجعل مناهجها تقدم مثالا جديرا بالاحتذاء والتطبيق في المجال الإنساني. فالإنسان، في رأيهم، ليس إلا جزءا من العالم الطبيعي... و لا مندوحة لمادة العلاقات الإنسانية، إذا أريد لها أن تكون علما، عن السير في نفس الطريق المنطقي الذي تسير فيه بقية العلوم الطبيعية".[5]

وهناك الرافضون لفكرة الوحدة المنهجية بين علوم طبيعية وعلوم إنسانية، وللرأي القائل بأن العلوم الطبيعية هي المثل الأعلى للفهم العقلي للواقع. ويذهب هؤلاء الرافضون إلى أنه: " بينما تتعامل العلوم الطبيعية مع علاقات ثابتة وموضوعات مادية قابلة للقياس وتخضع للتجارب، فإن العلوم الإنسانية تفقد التجارب والقياس وتتعامل مع موضوعات معنوية ونفسية تند عن الثبات. من الخطأ إذا، في رأي أصحاب هذا الاتجاه، تطبيق المناهج التي ثبت نجاحها في العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية، لأن هذا سوف يؤدي إلى خلط كبير، بل هو السبب في تخلف العلوم الإنسانية. فالوحدة المنهجية في رأيهم مرفوضة لأنها تقوم على افتراض غير مؤكد، فحواه أن الطرق المستخدمة من قبل العلماء الطبيعيين هي وحدها المتصفة بالعلمية"[6] .

وهكذا إذا كانت القوانين الفيزيائية والبيولوجية والجيولوجية صالحة في كل زمان ومكان لكون العالم الطبيعي يحكمه نسق من الاطرادات الثابتة، فإن القوانين الإنسانية لا تخضع للنسق نفسه لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان.

"إن البحث العلمي إنما هو مجرد نشاط إنساني متأثر في نشأته وتطوره وفي صورته الحالية، بالظروف التاريخية والاختيارات الثقافية والقيمية الخاصة بالمجتمعات الغربية...وأنه بهذا يحتمل ظهور توجهات أخرى منبثقة من نظرات أخرى للكون والحياة... نظرات قد تتطلب إدخال تعديلات جوهرية على تلك النظرة التقليدية خصوصا عند التعرض بالدراسة للظواهر الإنسانية"[7]

ومن ناحية أخرى، فإن المناهج والدراسات الاجتماعية والتنظيمية لا يمكن فصلها عن الاتجاهات الفلسفية والإيديولوجية التي تسيطر على تلك المناهج والدراسات، وتؤثر في عملية التنظير العلمي والمنهجي.

إن مناهج العلوم الإنسانية في صورتها الحالية هي في الحقيقة إنتاج غربي مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ الثقافي للغرب، ويعبر عن خصوصياته ومشكلاته الفكرية. وقد كان تسرّب هذه المناهج إلى جامعات ومراكز البحث العلمي في العالم الإسلامي أمرا تفرضه الحاجة نتيجة الفراغ العلمي، مع شدة الحاجة إلى التجديد. فكان لابد من استيراد العلوم الغربية أو استيراد مناهجها الجاهزة بدون تعديل أو تغيير.

وهكذا أصبحت العلوم الاجتماعية في العالم " التابع " تعاني أزمة حادة، ناتجة أساسا عن التبعية النظرية للحقل المعرفي الغربي، وذلك على المستويين النظري والمنهجي. ومن مظاهر هذه التبعية؛ التقليد والنسخ الأعمى لمناهج المعرفة الغربية، وإعادة إنتاج فكرها، أو مجرد استهلاكه دون أدنى تساؤل أو مراجعة نقدية.

فعندما تأسست العلوم الاجتماعية في جامعات البلدان الإسلامية،لم يحاول الرواد الأوائل استعمال الحس النقدي والمنطق العملي، وإنما نقلوا مناهج الغرب كما تعلموها. إن إشكالية المنهج هي إشكالية النشأة والتأسيس، كما أن تكوين العلوم الاجتماعية عندنا حصل خارج السياق التاريخي والمجتمعي. ولذلك فهي لا تعبر عن عقلية المسلمين ولا عن واقعهم، كما أنها لا تعكس صورة التطور الحقيقي للمجتمعات الإسلامية، بل تعبر مضمونا ومنهجا عن تجربة المجتمعات الأوربية.

إن المنهج الاستدلالي الصوري، والمنهج العقلاني، والمنهج الظواهري، والمنهج البراغماتي، والمنهج الجدلي، والمنهج البنيوي، ومنهج التحليل النفسي، والمنهج الأركيولوجي، والمنهج التفكيكي، والمنهاج التفاعلي، إلخ ... كلها مناهج تدرس بها العلوم الاجتماعية في جامعاتنا، وهي مناهج لها تاريخها الخاص في الصراع مع الغيبي والمقدس والمعنوي.

ومما يدعو للأسف أن هذه المناهج بمضامينها المعادية والمتحيزة، تدرس لطلبة الجامعة، وتؤخذ على أنها محض علوم ومعارف موضوعية عالمية، تلخص حقيقة المعرفة وتنشئ التصور السليم المتصل بالعالم.

وبالرغم من أن ميدان مناهج العلوم الاجتماعية في الغرب قد شهد في العقود الأخيرة ظهور تيارات نقدية وتوجهات تمردية تستهدف المناهج الكلاسيكية، وتقترح مناهج جديدة تواكب التطورات الأخيرة للمجتمعات الغربية، فإن كتابنا وباحثينا وأساتذتنا الجامعيين مازالوا يدورون في فلك تلك المناهج الكلاسيكية المتجاوزة، بل يستميتون في الدفاع عنها. وينتج عن هذا الموقف اللامنطقي والاستغرابي، تخلف واضح ومذهل عن " الإسهام في صياغة نهج الدور الحضاري للعلوم الاجتماعية، وهو دور تتحقق ماهيته بصورة دقيقة عندما يوضع في إطاره المجتمعي، ذلك الإطار الذي يستمد مقوماته من خصوصية المجتمع، وتفرد بنائه وتميزه وهويته الاجتماعية والسياسية، فضلا عن تميزه الديني  والثقافي ([8]) .

وبالمناسبة أسوق كلاما للدكتور محمد عابد الجابري حيث يعبر من خلاله عن ذلك الموقف اللامنطقي والاستغرابي. يقول هذا الدكتور في كتابه "نحن والتراث": « كيف نتحرر من سلطة التراث علينا؟ كيف نمارس نحن سلطتنا عليه؟ تلك هي مهمة المنهج الذي نقترحه هنـا. إنه منهج تحليلي، ولكن لا بمعنى رد المركب إلى البسيط أو البسائط التي يتألف منها، كما يفعل العالم الكيميائي حين يحلل الماء، وهو مركب، إلى العنصرين البسيطين اللذين يتألف منهما: الأكسجين والهيدروجين، لا. إن التحليل في المنهج الذي نمارسه شيء آخر مختلف تماما: إنه ينطلق من النظر إلى موضوعاته لا بوصفها مجرد مركبات بل بوصفها بنى. وإذا كـان صحيحا أن لكل مركب بنية فإن تحليل المركب يختلف عن تحليل البنيـة: تحليل المركب يعني عزل العناصر التي يتألف منها وفرزها، في حين أن تحليل البنية معناه كشف الغطاء عن العلاقات القائمة بين عناصرها بوصفها منظومة من العلاقة الثابتة في إطار بعض التحولات. إن تحليل البنية معناه القضاء عليها بتحويل ثوابتها إلى تحولات ليس غير، وبالتالي التحرر من سلطتها وفتح المجال لممارسة سلطتنا عليها هذا النوع من التحليل هو ما أسميه هنا بـ "التفكيك": تفكيك العلاقات الثابتة في بنية ما بهـدف تحويلها إلى لا بنية، إلى مجرد تحولات. وهذا يندرج تحته، كما هو واضح، تحويل الثابت إلى متغير، والمطلق إلى نسبي، واللاتاريخي إلى تاريخي، واللازمني إلى زمني، وبالتالي الكشف عن المعقولية الثأوية وراء كثير من الأمور التي تقدم نفسها كسر مغلق، كميدان للامعقول مستغن عن المعقولية بفعل التقادم الذي يجعل التراث مقطوع الصلة عن زمانيته وأسباب نزوله»[9].

ويقول أيضا: «لابد من التمييز بين خطوات ثلاث في البحث، من أجل تحقيق الحد الأدنى من الموضوعية في دراسة التراث:

الخطوة الأولى قوامها المعالجة البنيوية، ونقصد الانطـلاق في دراسة التراث من النصوص كما هي معطاة لنا. إن هذا يعني ضرورة وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا التراث بين قوسين والاقتصار على التعامل مع النصوص، كمدونة، ككل تتحكم فيه ثوابت يغتني بالتغيرات التي تجري عليه حول محور واحد. هذا يقتضي محورة فكرة صاحب النص (مؤلف، فرقة، تيار…) حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك بها ومن خلالها فكر صاحب النص، بحيث تجد كل فكرة من أفكاره مكانها الطبيعي (أي المبرر أو القابل للتبرير) داخل الكل. إن القاعدة الذهبية في هذه الخطوة الأولى هي تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (الألفاظ كعناصر في شبكة من العلاقات وليس كمفردات مستقلة بمعناها): يجب التحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة… يجـب وضع كل ذلك القوسين والانصراف إلى مهمة واحدة هي استخلاص معنى النص من ذات النص نفسه، أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه.

والخطوة الثانية هي التحليل التاريخي. ويتعلق الأمر أساسا بربط فكرة صاحب النص، الذي أعيد تنظيمه حين المعالجة البنيوية، بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية. إن هذا الربط ضروري من ناحيتين: ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس وجينيالوجيته، وضروري لاختبار صحة النموذج (البنيوي) الذي قدمته المعالجة السابقة. والمقصود بالصحة هنا ليس الصدق المنطقي، فذلك ما يجب الحرص عليه في المعالجة البنيوية، بل المقصود الإمكان التاريخي: الإمكان الذي يجعلنا نتعرف على ما يمكن أن يقوله النص وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله ولكن سكت عنه.

أما الخطوة الثالثة فهي الطرح الايديولوجي، ونقصد الكشف عن الوظيفة الايديولوجية، الاجتماعية والسياسية، التي أداها الفكر المعني، أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي العام الذي ينتمي إليه. إن الكشف عن المضمون الايديولوجي للنص التراثي هو، في نظرنا، الوسيلة الوحيدة لجعله معاصرا لنفسه، لإعادة التاريخية إليه»[10].

وجاء في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" سيلاحظ القارئ أننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو "قراءات" مختلفة متباينة، مفاهيم يمكن الرجـوع ببعضها إلى "كانت" أو "فرويد" أو "باشلار" أو "التوسير" أو "فوكو"  بالإضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها»[11].

إذا ما تم احصاء عدد الكلمات الواردة في كتاباته التراثية والمتعلقة بالبنيوية (بنية ـ بنيات ـ بنى ـ بنيوي ـ إلخ) نجدها تربو على المآت لما يدل على أن كاتبنا أكثر ما يكون متأثرا بالمنهج البنيوي.

إن كلام الدكتور محمد عابد الجابري ما هو إلا غيض من فيض، أو قطرة في بحر المواقف الاستغرابية الذائعة والشائعة في عالمنا الغربي والإسلامي، كما أن كلام أمثاله من المستغربين الذين يستخدمون المناهج الغربية المستوردة، يسقطون أثناء دراستهم لواقع المجتمعات الإسلامية، في تحليلات وتفسيرات متناقضة مع هذا الواقع ومع تاريخه، ويصدرون أحكاما بعيدة عن الصواب والسداد.

3- الاستغراب على مستوى المصطلحات والمفاهيم :

توطئة:

إن مما هو بديهي عند العلماء واللغويين منهم خاصة، أن اللغة والثقافة في التحام دائم ويشكلان وجهين لموضوع واحد، ذلك أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب وإنما هي أيضا ناقلة للثقافة التي تنتمي إليها. أو بعبارة أخرى فإن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار، وإنما هي ذات ارتباط وثيق بالأفكار التي تنقلها، وذات تأثير فيها وتأثر بها. كما أن اللغة تؤثر في الشخص الذي يتحدث بها ويمارسها تأثيرا لا حد له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته وإلى أعماق أعماقه، وإن جميع تصرفاته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيفة به.

ومن هنا فإن المصطلح متصل اتصالا وثيقا بالنسق التصوري العام للغة، كما أن كل لغة تلتقط التجربة الخارجية بوسائلها الخاصة. ومع ذلك يرى بعض الكتاب والمفكرين ألا حرج على الباحث أو العالم أن يستخدم أي مصطلح من المصطلحات بصرف النظر عن لغته، أو بيئته الحضارية، أو إطاره الفكري، أو فلسفته العقدية وهكذا فإن هؤلاء الكتاب والمفكرين حين يستعيرون مفهوما أو مصطلحا من المصطلحات فإنهم لا يبحثون في أصوله المعرفية، وإنما يبادرون إلى استعماله بكل أبعاده وحمولاته.

إن نقل مصطلحات العلوم الاجتماعية الغربية وزرعها في أرض الثقافة الإسلامية دون نقد وتمحيص، يعد إخلالا بالمنهج العلمي، بل جناية عظمى في حق ثقافتنا وعقيدتنا.

يقول الدكتور محمد عمارة" وإن عاقلا من العقلاء لا ينكر أن " القاموس "، في أي فن من الفنون أو علم من العلوم، قد غدا في واقعنا الفكري أداة شديدة الفعل والتأثير في تلوين الفكر والمذهب والرؤية والهوية، ومن ثم تلوين الاتجاه الحضاري لمن يستخدم هذا القاموس بالفلسفة الحضارية لواضعيه ومنشئيه.

فالباحث والقارئ الذي يريد معرفة مضمون مصطلح من المصطلحات، فيمد يده إلى القاموس باحثا عن هذا المضمون، إنما يزرع في عقله ووجدانه بذرة فكرية تنمو، فتلوّن مساحة من عقله ووجدانه بالصبغة الحضارية التي حكمت لون ومذهب مضامين مصطلحات هذا القاموس، مما يؤدى إلى احتلال العقل العربي والمسلم، وتلوينه بلون الحضارة الغربية، وإسهامه في تغريب هذا العقل، وخاصة في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تتمايز فيها الحضارات، ومن ثم تتمايز فيها مضامين الكثير من مصطلحات هذه العلوم"[12].

إن ثقافة الاستغراب والانبهار بحضارة الغرب ومدنيته يتعذر عليها إيجاد مناخ فكري وعلمي تتبلور في إطاره المعارف والنظريات والعلوم الضرورية لتطور المجتمع الإسلامي وتقدمه. وإذا استثنينا بعض المحاولات والمشاريع التأصيلية المتواضعة في ميدان العلوم الاجتماعية،[13] فإن هذه العلوم في أوطاننا الإسلامية، ما هي إلا مجموعة نظريات ومصطلحات ومفاهيم وأدوات بحثية مستوردة، وممارستها لا تعبر إلا عن تبعية محضة.

إن المفاهيم والمصطلحات الإجتماعية والنفسية، التي غزت الثقافة الإسلامية، أحدثت ارتباكا وحيرة في عقول المسلمين، كما ألحقت الضرر ببعض ثوابت التراث والعقيدة. ومن بين هذه المصطلحات الشائعة : الإيديولوجيا، الصراع الطبقي، العقل الجمعي، العقلانية، العلمانية، التاريخانية، التحديث، الحداثة، الاستلاب، الحتمية، الليبرالية، الاشتراكية، اللاشعور، الهو، الأنا الأعلى، النرجسية، الكبت، الليبيدو، إلخ... ومصطلحات أخرى في الاقتصاد والتربية والسياسة والتاريخ.

و فيما يلي سأتناول بالعرض والتحليل نمادج من المصطلحات الاجتماعية المستوردة والمتداولة في لغة أبحاثنا ومناهجنا، وخطاباتنا وبرامجنا التربوية، مع ربط ممارستها بالاستغراب ورصدها من خلاله.

1- التحديث:

يطلق لفظ التحديث على العمليات التراكمية التي تعمل على توجيه المجتمع نحو الإنماء والتطور والتقدم، وذلك على المستوى الاقتصادي من خلال تفعيل واستغلال الموارد والثروات والطاقات المادية، وتطوير قوى ومراحل الإنتاج، وعلى المستوى السياسي عبر بلورة دولة المؤسسات القائمة على مبادئ الديمقراطية والعدالة، وعلى المستوى الاجتماعي بتأسيس القيم والقوانين الوضعية، وإبعادها عن المواقف الدينية والعقائدية.

" ويعود تاريخ عملية التحديث في الغرب إلى بدايات عصر النهضة، وقد زادت حدتها في بداية القرن التاسع عشر، وواصلت هذه المرحلة إلى نهايتها مع الحرب العالمية الأولى حيث تحولت المجتمعات الغربية من كونها مجتمعات زراعية إقطاعية إلى مجتمعات تجارية، وأخيرا إلى مجتمعات صناعية رأسمالية إمبريالية.

والتحديث هو عملية تعديل البيئة الاجتماعية والرؤية المعرفية والأخلاقية بحيث يخضع الواقع بأسره للقواعد والإجراءات العامة غير الشخصية ويزداد التحكم فيه، فتستبعد كل المطلقات، وتصفى كل الثنائيات.

ويصبح مصدر المعرفة هو العقل، وما يصله من معطيات من خلال الحواس.

وينتج عن ذلك أن الشخصية التقليدية تتحول إلى المواطن الحديث القادر على الاستجابة للقانون العام، والذي لا يدين بالولاء إلا للدولة أو الوطن. كما أن البيئة الاجتماعية تسيطر عليها مؤسسات الدولة التي تحل محل المؤسسات التقليدية مثل الكنيسة أو الأسرة

وتصاحب هذه العملية نمو الديمقراطية وانتشار التعليم، وزيادة الإبداع والحراك الاجتماعي، ونزع القداسة عن الأفراد والرموز، وتزايد تكيف المرء مع القيم والمخترعات الجديدة، وتعاظم دور الإعلام"[14].

ويرى رايمون بودون وفرانسوا بوريكو أن « التحديث عملية تعبئة وتمايز وعلمنة»: أما التعبئة فتتخلص عندهما في مظاهر ومؤثرات أهمها:

1- سرعة تنقل الأموال والأشخاص والمعلومات داخل المجتمع.

2- انتشار ظاهرة الهجرة وسرعة وتيرتها.

3- نمو المدن وتطور العمران.

4- تطور الصناعة والأسواق والمبادلات التجارية.

5- ظهور الأسرة الذرية.

وأما التمايز أو المباينة، فإن هذا المفهوم يشير- حسب المفكرين الاجتماعيين- إلى تمايز وتباين المجتمعات الحديثة عن المجتمعات التقليدية بأوصاف ومظاهر معينة منها: البيروقراطية والمشروع الصناعي وتقسيم العمل. أما العلمنة فإنهما يقولان بشأنها: «عندما نتحدث عن العلمنة كمعيار للحداثة، لا نريد القول أن كل إيمان دوغماتي" وبخاصة الديني، قد اختفى من مجتمعاتنا...إن الإيمان بإله يوزع الثواب والعقاب ومنتقم، يبدو أنه ما زال واسع الانتشار، إن العلمنة هي الفصل القائم بين الكنيسة (وكذلك الدولة) ومن جهة أخرى مؤسسات البحث والتعليم([15]).

إن مصطلح التحديث من المصطلحات الوافدة التي غزت قواميس اللغات العالمية، والتي فرضت مكانها وقوتها في الكتابات الفكرية والأدبية والإعلامية والخطابات السياسية، خاصة بعد حصول الدول المستعمرة على استقلالها وحريتها السياسية، حيث برزت الدعوة الشديدة والملحة إلى الأخذ بأسباب التقدم العلمي والاقتصادي وممارسة عملية التحديث، أسوة بالدول الصناعية المتقدمة. وهي دعوة مشروعة ومنطقية لا يختلف فيها اثنان. بيد أن الكثير ممن حملوا مشعل هذه الدعوة في العالم الإسلامي، لم يراعوا الخصوصيات الثقافية والدينية والحضارية لمجتمعاتهم الإسلامية، بل منهم من دعا إلى نبذ كل ما يتعلق بتلك الخصوصيات، واعتبرها عائقا في وجه التحديث والتطور، وذلك عين الاستغراب والتبعية.

إن مصطلح التحديث من المصطلحات التي يستعملها الكتاب والمشغلون بالعلوم الاجتماعية في بلداننا استعمالا استغرابيا، حيث ينظرون إلى حقيقة التحديث وآلياته بمنظار غربي تماما. ويحاولون استنباته في مجتمعاتنا بكل إيجابياته وسلبياته، ولو أدى ذلك إلى سلخنا من مقوماتنا ومميزاتنا، أو إلى أبعد من ذلك كالذوبان في شخصية الإنسان الغربي وحضارته والرضا بتغريبه، بعد إقامة القطيعة مع التراث الغربي الإسلامي. وهذا ما دعا إليه سلامة موسى أو طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، وكذلك كان دأب كثير من اليساريين والقوميين في الوطن الإسلامي أمثال حسين مروة، وعبد الله العروي وغيرهما.

ورغم أن عملية التحديث في الغرب كان يوازيها في تطورها تفكك وتضعضع تدريجي في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، ورغم أن الحداثة([16]) التي هي عصارة التحديث وفلسفته، أنجبت لقيطا مشوها، ساخطا، معدوم العقل ومفكك البنية، يحمل اسم ما بعد الحداثة. ورغم هذا كله فإن كتابنا المستغربين يتعامون عن كل هذه الحقائق ويأبون إلا أن يدخلوا في جحر الضب!!

2- العقلانية :

"تستعمل العلوم الاجتماعية مفهوم العقلانية في عدة معان. ويسمى الفعل عقلانيا في التراث الاقتصادي عندما يكون موضوعيا متكيفا بشكل جيد مع الأهداف التي يسعى إليها الشخص. فالعقلانية تعني في هذه الحالة تكيف الوسائل مع الغايات... وفي علم الاجتماع، تدل مفاهيم العقلانية على كل فعل يستعمل وسائل متكيفة مع الغايات التي يسعى إليها"[17].

والعقلانية مذهب فلسفي ينطلق من كون العالم بنوعيه الميتافيزيقي والمادي لا يمكن إدراكه إلا بالعقل وحده، باعتباره الأداة الرئيسة للمعرفة. والعقلانية أيضا مذهب قديم في البشرية، يبرز أشـد ما يبرز في الفلسفة اليونانية وخاصة عند سقراط وأرسطو. ولقد بقيت هذه الفلسفة مؤثرة في الفكر الأوربي زمنا ليس بالقصير، حتى ظهرت المسيحية فغيرت مجرى ذلك الفكر تغييرا جذريا؛ حيث أبعد العقل وحل محله المنطق الكاثوليكي الكنسي بأغلاله وقيوده. وقد تمخض هذا المذهب في العصور الحديثة عن الصراعات الفكرية والعقدية التي رافقت تطور الفكر الأوربي منذ عصر النهضة. والعقلانية تمثل أحد الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوروبية، كما شكلت الوقود الأساسي للثورات الصناعية والاجتماعية والسياسية.

وترتـبـط العقـلانية الأوربية تاريخيا بالفيلسوف الـفـرنـسي "ديكارت" 1596) ـ .(1650 وكان الفيلسوفان "سبينوزا" و"ليبنز" من أشد دعاتها المتحمسين لها، ولقد حاول الفيلسوف "كانت"(1804-1724) التصدي لها وانتقدها في كتابه "نقد العقل الخالص"، إلا أنها انتعشت من جديد بفصل ازدهار "مدرسة هيجل"  في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي.

إن العقلانية لم تكن صراع أفكار فقط، ولا ولدت في عالم الأفكار. كان العالم القديم، عالم القرون الوسطى يسقط، وكان عالم جديد ينهض، وكانت قوى العالم الجديد، هذه تنطلق من عقالها. إن حركة الانطلاق هذه ولدت العقلانية. كان العالم القديم، عالم الإقطاع، والكنيسة، وتوما الأكويني، أما العالم الجديد فهو عالم اكتشاف رأس الرجاء الصالح والعالم الجديد ، وقيم الدولة القومية، واكتشاف الطباعة. ومع ولادة هذا العالم الجديد، كان الفكر العقلاني يزدهر، ويسقط أغلاله، ويسقط معها مخلفات العصور الوسطى المتراكمة.

إن ولادة القوى الاجتماعية الجديدة ولد معه هذه الأفكار الجديدة. ولقد رافق الصراع الفكري صراع سياسي حاد، وكسبت القوى الجديدة معارك فاصلة، مثل الإصلاح البروتستانتي في ألمانيا، والثورات في انجلترا حيث قطع رأس الملكة ، وقام أول برلمان حقيقي. ويجب أن ندرس هذه الفكرة جيدا، لأن العقلانية، تولد مع قواها، وتنتصر بانتصار قواها.

إن العقلانية، وهي بشكلها الذي نتحدث عنه، غربية، ارتبطت بقيام الدولة الرأسمالية في الغرب. ثم انتقلت إلى العالم. ولكنها، بدأت مدارس واتجاهات، وانتهت كذلك. وإذا كانت في ميدان العلوم قد ظلت تتقدم، وبلا توقف، فإنها في ميدان الفلسفة والسياسة، شهدت تحولات وتقلبات كثيرة.

والآن أقتطف من كتابات الأستاذ عابد الجابري بعض النصوص التي يدعو فيها إلى العقلانية والتي لا تخلو من الروح الاستغرابية.

يقول الدكتورالجابري: «ينبغي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية... والتعامل العقلاني النقدي مع تراثنا يتوقف على مدى ما نوظفه بنجاح من المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة».[18]

ويقـول أيضا: «ونحن نعتقد أنه مالم نمارس العقلانية في تراثنا ومالم نفضح أصـول الاستـبداد ومظاهره في هذا التراث، فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا. حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة "العالمية" كفاعلين وليس كمجرد منفعلين»[19].

"يرى الأستاذ الجابري أن تاريخنا الثقافي لم يكتب بعد، وبتعبير آخر لم يدون بطريقة مفيدة وايجابية أي نقدية وعقلانية. ومن هنا فهو يرى أنه إذا أردنا أن نعيد كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة. معنى ذلك أنه يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا مالم نستعمل "نظارة" غيرنا.

بيــد أنـه إذا كانـت الـمناهـج الـعـلمـية المعاصرة قـد أفرزتها الحضــارة الغـربـية لتتخـذها ـ بالأساس ـ أداة لفهم وتحليل ثقافاتها الأوربية، أي أن هذه المناهج تم وضع هندستها وشكلها ليتناسب مع تلك الثقافات، فكيف يتأتى لنا استعمالها لتحليل ثقاقتنا الذاتية؟"[20]

قد يجيب الأستاذ الجابري بقوله: «إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تـؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع انساني عام. فإذا استطعنا أن نربط هذه المفاهيم بمرجعياتنا أي أن نبيئها (من البيئة) في محيطنا وثقافتنا فإنها ستصبح ملكا لنا».[21]

هذه الإجابة وجيهة ومنطقية إلى حد ما، ولكن كيف السبيل إلى هذه "التبيئة" (إن صح التعبير)؟ وهل وضع لها كاتبنا إطارا نظريا أو خطة منهجية دقيقة ومناسبة. كلا إنما نجده في كتاباته يتبنى كل ما يجذبه ويستلبه ويأسره من مفاهيم وتصورات غربية ولا "يبييء" منها شيئا. من ذلك قوله «سيلاحظ القارئ أننا نوظف مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو "قراءات" مختلفة متباينة، مفاهيم يمكن الرجوع ببعضها إلى "كانت" أو "فرويد" أو "التوسير" أو "باشلار" أو "فوكو" بالاضافة إلى عدد من المقولات الماركسية التي أصبح الفكر المعاصر لا يتنفس بدونها»[22]...؟!!

3-  الإيديولوجيا:

أجمع النقاد الباحثون في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية بأن قضية تحديد المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالعلوم الإنسانية من أصعب القضايا المعرفية الموجودة. والسبب في ذلك يرجع إلى أن العامل الذاتي يسيطر على مواضيع هذه العلوم أكثر مـن العامل الموضوعي، حيث إن الإنسان هو الدارس والمدروس في آن واحد، بالإضافة إلى أن العلوم الإنسانية رغم المجهودات المبذولة في سبيل تقدمها وتطوير مناهجها لم تلحق نهائيا بالعلوم المادية الطبيعية، وغدا من الصعب مثلا أن يتفق علماء الاجتماع على تعريف موحد لمصطلح من المصطلحات الاجتماعية.

وقد يكون مفهوم الايديولوجيا أبرز مثال للإختلاف في التعريف، فالاشتراكيون عرفوا الايديولوجا انطلاقا من منظومتهم الفكرية. والمفكرون الغربيون في أوربا وأمريكا لهم تعريفاتهم الخاصة، بل إنهم يختلفون باختلاف المدارس التي ينتمون إليها. فأصحاب المدرسة الوظيفية يختلفون مع البنيويين. وهؤلاء يختلفون مع أصحاب الوضعية المنطقية وهكذا. كما أنهم كثيرا يدخلون تعديلات على بعض المصطلحات أو يعيدون صياغتها حسب الزمان والمكان.إن ما أصاب الايديولوجية الاشتراكية في العقود الأخيرة  من ارتكاس واندحار أثر حتما في فهم الاشتراكيين لمعنىالايديولوجيا وبالتالي تغير مضمونها.

ويلاحظ ريمون آرون الالتباس العميق المستخدم في كلمة ايديولوجية، فهي تـارة تكون ذات معنى حيادي بل اطرائي وطـورا بمعنى متبذل. فهو يرى: «أن هناك تذبذبا في استخدام تعبير ايديولوجيا يتراوح بين المعنى الحجاجي : الايديولوجيا هي الافكار المزورة، هي تبرير المصالح والأهواء، وبين المعنى المحايد : الصياغة الجدية لموقف معين اتجاه الواقع الاجتماعي أو السياسي» [23].

ويرى أندري لالند في قاموسه الفلسفي أن دستوت دوتراسي هو واضع مصطلح الايديولوجيا وذلك إبان فترة الثورة الفرنسية (1789)، ثم تناقلته أقلام الدارسيين الفرنسيين خلال القرن التاسع عشر الميلادي. وفي كتابه "مذكرة حول ملكة التفكير" ذهب دوتراسي إلى أن الايديولوجيا تمثل : "العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع لكلمة أفكار وخصائصها وعلاقتها بالوعي الاجتماعي"[24] .

لعل الأستاذ عبد الله العروي أول كاتب مغربي استخدم بغزارة لفظ الايديولوجية في انتاجه الفكري، وهذا مايتضح عند الاطلاع على مؤلفاته مثل "الايديولوجية العربية المعاصرة" أو "العرب والفكر التاريخي" أو "مفهوم الدولة " أو"مفهوم الحرية" أو "مفهوم الايديولوجية". والسبب في ذلك يرجع إلى ان الأستاذ كان من المغاربة الأوائل الذين تبنوا الفكر اليساري وعملوا على نشره ومناصرة الايديولوجية الماركسية الاشتراكية. إذ بما أن الكتابات الماركسية في الشرق والغرب الأوربي كانت أكثر الكتابات استعمالا لمفهوم الايديولوجية خصوصا في العقود الثلاثة الأولى للنصف الثاني من القرن العشرين ، بات من الضروري أن يكون لهذا الاستعمال صدى لدى الكتاب المغاربة الماركسيين. أضف إلى هذا أن الأستاذ العروي يتميز بتكوين فلسفي لا بأس به، خاصة فيما يتعلق بالفلسفة الأوربية في عصر النهضة والقرون المتأخرة .ومفهوم الايديولوجية كما سيتبين من إبداع الفلسفة الأوربية زمن الثورة الفرنسية. وقد تعرض العروي لتحليل مفهوم الايديولوجية في كتابه "مفهوم الايديولوجية "؛ يقول هذا الأستاذ في مقدمة كتابه :« إن مفهوم الايديولوجيا ليس مفهوما عاديا يعبر عن واقع ملموس فيوصف وصفا شافيا، وليس مفهوما متولدا عن بديهيات فيحد حدا مجردا، وإنما هو مفهوم اجتماعي وتاريخي، وبالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة، انه يمثل "تراكم معان" مثله في هذا مثل مفاهيم محورية أخرى كالدولة أو الحرية أو المادة أو الإنسان»، ثم يقرر« أن كل نقاش حول مفهوم الايديولوجيا يستلزم الاطلاع على أصله وصيرورته وبالتالي على المذاهب الفلسفية المتعلقة به»[25].

في كتابه "الايديولوجيا العربية المعاصرة "، حاول الأستاذ العروي أن يدرس الوضع الثقافـي والسياسي الذي سيطر على المجتمع العربي في عصر النهضة. لقد كانت هذه الدراسة تتسم بنوع من العمق والجدية. بيد أنه كان أثناءها أسير فكر ايديولوجي بالرغم من موقفه النقدي من كل تصور إيديولوجي. وهذا يؤكد ما أشرت إليه آنفا من أن الموضوعية في العلوم الإنسانية والبحوث الاجتماعية شيء صعب المنال، وإن الباحث في هذه المجالات لايمكنه التخلص من سلطة العامل الذاتي. إن شرح سلفية محمد عبده مثلا بالايديولوجية البورجوازية، وفهم عقلية وثقافة المسلمين من تصور ماركسي، يفيد أن باحثنا قد استعمل أدوات منهجية مستوردة وأنه بذلك يكرس فكرا استغرابيا دخيلا.

أما حين يطبق الأستاذ العروي بعض المصطلحات الاجتماعية والسياسية كالبورجوازية، والاقطاعية، والكنسية، على المجتمع العربي، فهو يعبر عن نوعين من الاستغراب : استغراب ايديولوجي ويتجلى في ولائه للإديولوجيا الماركسية، واستغراب فكري فلسفي يظهر في تعلقه بالمصطلحات والمفاهيم الاجتماعية والسياسية الغربية، ومحاولة إسقاطها وتطبيقها على مجتمعاتنا التي تختلف حضارة وثقافة وتاريخا عن المجتمعات الغربية.

هل عرفت مجتمعاتنا الإسلامية الحياة الدينية الكنسية أو النظام الاقطاعي أو الثورة البورجوازية ؟ كلا إنها لم تعرف ذلك والتاريخ خير شاهد. إلا أن الأستاذ العروي عندما تقمص الايديولوجيا الماركسية أوحت إليه بإصدار هذه الأحكام "العلمية". كيف لا والماركسية "علم العلوم" !! فصار في نفقه الفلسفي الايديولوجي ضاربا عرض الحائط بكل الخصوصيات الحضارية والثقافية للمجتمعات الإسلامية.

الخاتمة :

وخلاصة القول إن مناهج العلوم الاجتماعية المتداولة في معاهدنا ومؤسساتنا الجامعية، تعاني وطأة الاستغراب بسبب التبعية والمحاكاة للمناهج الغربية. لقد آن الأوان للوقوف في وجه الاستغراب المنهجي والعمل على صياغة مناهج بديلة ترتكز على القرآن والسنة وعلى التراث الثقافي والحضاري الإسلامي، مع الاستفادة والاقتباس من علوم ومناهج الغرب.

وبناء على ذلك ينبغي تطوير المناهج الجامعية والمدرسية بحيث تصبح مناهج:

- قادرة على استيعاب المتغيرات على صعيد مؤسسات التعليم وأنشطة البحث العلمي والثقافي الفكري.

- قادرة على إنجاز ومواصلة الإبداع العلمي التكنولوجي المعاصر بقيم عقائدية نابعة من قيمنا العربية والإسلامية.

- قادرة على تقديم النموذج العربي الإسلامي البديل للنماذج العالمية والمسوق لها اليوم من قبل المنظومات العالمية المهيمنة بالقوة على العالم، تقف بقوة وفخر وتميز واعتزاز أمام النماذج البشرية الأخرى التي تريد أن تكون سيادية على البشرية، بل بإمكان النموذج العربي الإسلامي أن يكون له الأستاذية على العالم مرة ثانية لما يحمله من قيم إنسانية غير عنصرية.

- تعكس واقع الحياة المعاصرة وتسهم في زيادة التنمية الشاملة، وتوسع إطار الحرية لأفراد المجتمع، وتعزز دور مؤسسات المجتمع المدني، وتهدف إلى تفعيل الحوار وإقناع الآخر بالاعتراف بما لدينا من مكون ثقافي وعقائدي قادر على مواجهة تحديات العصر مستقل وقابل للاستمرارية يقبل بالتعددية والرأي الآخر دون المساس بثوابتنا والتنازل عنها ودون الإضرار بالآخرين أو عدم الاعتراف بهم.

- قادرة إلى الوصول بالأمة إلى مستوى أفضل وتحريرها من الشمولية المهيمنة عليها والاستبداد الجبري المفروض عليها والتبعية وتوريث الحكم.

- تهدف إلى توفير حرية التفكير والبحث العلمي، وإنشاء نظام تعليمي مختلف عن النظام الحالي في مادته وفلسفته، يعمل على إعادة تشكيل عقل الأمة وتحريرها من التبعية الفكرية والسياسية والاقتصادية.

- قادرة على تأهيل وإعداد قيادات وكوادر تعليم نموذجية عالية المهارات تسد احتياجات المجتمع وتساعد الآخرين بدون شروط.

- تهدف إلى احترام عقل الطالب وتوفير وسائل تمكنه من استيعاب المعلومات المستجدة وقضايا العصر، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات كي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.

- تهدف لمواجهة تحديات الواقع البشري المعولم في الثقافات والمعلومات والأسواق بفلسفة ذاتية نابعة من عقيدته وقيمه.

- تواكب التقدم الحضاري في محتواها العلمي وتستخدم كل مستجدات تكنولوجيا التعليم.

- قادرة على حل مشاكل المجتمع والعودة بالأمة إلى دور السيادة والقيادة للعالم.

- مستقلة بعيدا عن توجيهات أعداء الأمة وإرادتهم.

د. عبد الله الشارف/ كلية أصول الدين، جامعة القرويين، تطوان المغرب


[1] - أبو الأعلى المودودي :"الحجاب " دار المعرفة، د . ت ص 119 .

[2] - هاملتون جيب: "وجهة الإسلام" ، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، المطبعة الإسلامية، القاهرة 1934، ص 18.

[3] - د. عبد الله الشارف : "الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر"، منشورة نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان، مطبعة طوبريس، الرباط 2003، ص 30.

[4]1976; pp86-87  Raymond Aron:  Les étapes de la pensée sociologique /  Ed; Tel Gallimard

[5] - د. علا مصطفى أنور: "أزمة المنهج في العلوم الإنسانية"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ "قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية"‘ القاهرة 1417-1996/ ص187.

[6] - المرجع نفسه ؛ ص 189.

[7] - د. إبراهيم عبد الرحمن رجب: " التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية"، دار علم الكتب، الرياض..1416-1996، ص 51.

[8]- د. محمد أحمد بيومي: «علم الاجتماع بين الوعي الإسلامي والوعي المغترب» / دار المعرفة - الجامعية الإسكندرية، ص 52، 1993.

[9] ـ د. محمد الجابري : "التراث والحداثة" ... ص 47 ـ 48.

[10] ـ د. محمد عابد الجابري: "التراث والحداثة" ، ص 31 ـ 32.

[11] ـ د. محمد عابد الجابري: "الخطاب العربي المعاصر" ، ص12.

[12] - د. محمد عمارة: "قاموس المصطلحات الاقتصادية"، دار الشروق 1413-1993، ص 16.

[13] - مثل المشروع العلمي الرائد الذي ينهض به "المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن" في ميدان أسلمة وتأصيل العلوم اجتماعية والإنسانية.

[14] - الدكتور عبد الله المسيري، والدكتور فتحي: " الحداثة وما بعد الحداثة"، ص: 344، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1424هـ/2004م.

([15])- ر.بودون. ف. بوريكو: "المعجم النقدي لعلم الاجتماع" ترجمة الدكتور سليم مراد. ص 148- 151 مؤسسة مجد للنشر والتوزيع بيروت 1428-2007.

([16])- للإطلاع على مآسي الحداثة، أنظر على سبيل المثال كتاب: «نقد الحداثة»، لعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر آلان تورين/ ترجمة أنوار مغيث/ المجلس الأعلى للثقافة، 1997.

[17] - "المعجم النقدي لعلم الاجتماع"، المرجع السابق، ص 380.

[18] ـ د. محمد عابد الجابري "اشكاليات الفكر العربي المعاصر" ، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر ، الدار البيضاء ، 1989 ص 35.

[19] ـ "التراث والحداثة" المرجع السابق ص17.

[20] - "الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر"، المرجع السابق، ص 129.

[21] ـ د. محمد عابد الجابري: "التراث والحداثة" ، ص 287.

[22] ـ د. محمد عابد الجابري:" الخطاب العربي المعاصر" ، المرجع السابق ص12.

[23]-   Raymond Aron (trois essais sur l’age industriel )

. Paris,  Plon 1966, p 215

[24] ـ André Lalande "Vocabulaire technique et critique de la philosophie" .  Ed. PUF Paris 1976 p.458.

[25]- د . عبد الله العروي: " مفهوم الايديولوجيا" المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1984 ص 5.

إرسال تعليق

0 تعليقات